
هل المقاطعة وحدها تكفي؟ عن معركة بناء السيادة التكنولوجية في مصر
في الآونة الأخيرة، تصاعدت الدعوات إلى مقاطعة منتجات شركة مايكروسوفت، بعد الكشف عن دعمها لجيش الاحتلال الإسرائيلي باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في عمليات الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين.
وسط تداول قوائم المنتجات المطلوب مقاطعتها، يطرح الواقع سؤالًا أكثر إلحاحًا ووضوحًا، لماذا نظل عالقين في الدائرة المغلقة ذاتها؟ لماذا ينحصر اختيارنا دائمًا في استبدال شركة أمريكية بأخرى، بينما نمتلك في الواقع إمكانيات محلية حقيقية تتيح لنا بناء بدائل جديرة بالثقة؟
هذا المشهد يعيد إلى الأذهان زمنًا ليس بالبعيد، حين كان خصوم مايكروسوفت يقودون واحدة من أبرز حركات مقاومة هيمنة الشركات الكبرى على أدوات الإنتاج الرقمي؛ حركة البرمجيات الحرة مفتوحة المصدر.
من منتصف الثمانينيات حتى أوائل الألفية، كانت مايكروسوفت تمثل الرمز الأوضح للاحتكار التقني حول العالم. صحيح أن حركة البرمجيات المفتوحة انتصرت بمعايير السوق، لكن هذا الانتصار جاء مع الأسف محمولًا على أكتاف الرأسمالية ذاتها.
الرأسمالية دائمًا ما تتأقلم
فهي بطبيعتها، لا تتوقف عن التأقلم مع كل محاولة لمقاومتها. ففي التسعينيات، كانت حركة البرمجيات الحرة ومبادرة المصدر المفتوح أشبه بثورة ضد هيمنة شركات التكنولوجيا الكبرى مثل مايكروسوفت، رافعة شعار تحرير المعرفة، وتمكين الأفراد من بناء أدواتهم بأنفسهم بعيدًا عن قبضة الاحتكار.
استوعبت شركات التكنولوجيا العملاقة مبادئ هذه الحركة واحتوتها، لتفرغها من مضمونها التحرري الجذري، وتحولها إلى مجرد نموذج إنتاجي يُستخدم لتعظيم الأرباح وتعزيز السيطرة، لا لتحرير البرمجيات أو إطلاق العقول من قيود الهيمنة الاحتكارية.
تبنّت شركات مثل جوجل وأمازون نمط تطوير البرمجيات مفتوحة المصدر، ليس انطلاقًا من قناعة بقيمها التحررية، بل بدافع تقليل التكاليف وتسريع وتيرة الابتكار لصالح نموذجها التجاري.
فتحولت البرمجيات الحرة والبرمجيات مفتوحة المصدر من وسيلة مقاومة إلى ركيزة أساسية في أعمال تلك الشركات، التي استخدمتها لتطوير خدمات ومنتجات تضمن لها تعزيز قبضتها على السوق.
في مصر، جاءت استفادتنا من هذه الطفرة محدودة، إذ اقتصر الأمر على استخدام الأدوات المجانية المتاحة دون استثمار حقيقي في تطوير قدرات محلية. هذا الإهمال المتراكم جعلنا مع الوقت نعتمد بشكل متزايد على الخدمات التي توفرها الشركات العالمية، حتى صارت كل خطوة نحو التقدم الصناعي تمر عبر بواباتها، ما عمّق من تبعيتنا بدلاً من أن يقودنا إلى بناء استقلال تكنولوجي فعلي.
الحوسبة السحابية واستيراد برمجيات الـ SaaS
بعد أن تبنّت الشركات الكبرى فكرة البرمجيات المفتوحة واستغلتها لصالحها، ظهر نموذج الحوسبة السحابية والبرمجيات كخدمة/SaaS ليزيد من سيطرة عمالقة التكنولوجيا. فبدلًا من بيع البرامج على أقراص مدمجة كما كان يحدث في السابق، بدأت شركات مثل جوجل ومايكروسوفت تقديم خدمات سحابية توفر للمستخدمين بنية تحتية رقمية، لكنها في الوقت نفسه تمنح تلك الشركات تحكمًا شبه كامل في البيانات والتطبيقات.
ورغم كفاءة هذه الخدمات وسهولة الوصول إليها، فإنها حولت الدول النامية مثل مصر إلى مستهلك دائم، يعتمد على حلول جاهزة بدلًا من السعي إلى بناء بنية تحتية وطنية قادرة على تقديم بدائل محلية باستخدام موارد معقولة وبالاعتماد على نفس البرمجيات المفتوحة.
وهكذا، لم تكن الحوسبة السحابية مجرد تطور تقني بريء، بل أداة إضافية لتعزيز احتكار البيانات والتحكم في الأسواق، حيث واصلت الشركات الكبرى تعزيز سيطرتها، ما جعل فكرة الاستقلال التكنولوجي أكثر تعقيدًا.
وبينما باتت الأسواق المحلية تتعامل مع هذه الخدمات باعتبارها الخيار الوحيد المتاح، تجاهلت عن عمد أو جهل الأثمان الاقتصادية والسياسية الباهظة التي يدفعها الجميع مقابل هذا الاعتماد الكامل.
ونتيجة لذلك، ما زلنا حتى اليوم نستورد خدمات لا حصر لها دون ضرورة ملحّة، ودون أي محاولة جادة لبناء بدائل محلية. والطابع العابر للحدود لشبكة الإنترنت جعل الكثير من صناع القرار يغفلون حقيقة أن الوصول إلى هذه الخدمات الدولية ليس مفتوحًا بلا شروط. فمقدمو الخدمات مثل مايكروسوفت وجوجل يتيحون لنا الاستفادة منها مقابل اشتراكات شهرية زهيدة، لكننا في واقع الأمر لا نمتلك ولا نملك السيطرة على شيء.
تخيل لو أن إدارة أمريكية معادية قررت في لحظة فرض عقوبات اقتصادية على مصر، وأوقفت استخدام بطاقات الدفع الدولية مثل MasterCard وVISA؛ ما مصير الشركات المصرية التي تعتمد بشكل كامل على خدمات جوجل ومايكروسوفت؟ أين ستذهب بيانات هذه الشركات؟ وكم من الوقت والجهد والموارد سنحتاج لنقل تلك البيانات إلى بدائل محلية أو إقليمية؟
والأهم من ذلك، ما حجم الخسائر التي ستتكبدها الدولة والاقتصاد في مثل هذا السيناريو؟ هذا الاحتمال الواقعي يكشف بوضوح كيف أن ما بدأ كخيار تقني مريح تحول مع مرور الوقت إلى فخ استراتيجي يصعب الإفلات منه.
إعادة النظر في نظم التدريب والتعليم
مع مرور الوقت، أثّرت وفرة أدوات التكنولوجيا الأساسية، التي لم ننتبه إلى أنها مستوردة بالكامل، بشكل مباشر على مناهج تدريب الخريجين الساعين للعمل في قطاع التكنولوجيا.
انحصر تركيز هذه البرامج على المهارات السطحية مثل بناء التطبيقات والمواقع، في حين جرى إهمال الركائز العميقة التي تشكّل العمود الفقري للصناعة بأكملها، مثل مراكز البيانات والشبكات وأنظمة إدارة البنية التحتية والأمن الرقمي، وهي المكونات الأساسية التي تتيح تشغيل التطبيقات والخدمات من الأساس.
أتصور دائمًا المشهد كما لو أننا نبني بيتًا على أساسات لا نملكها. يمكنك أن تتخيل الأمر كهرم من الاحتياجات؛ في قاعدته توجد الضروريات مثل البنية التحتية والأمن الرقمي والشبكات، بينما في قمته توجد التطبيقات والخدمات النهائية التي يراها المستخدم.
الآن، لو أن كل ما في القاعدة يتحكم فيه طرف خارجي، فحتى لو برعت في بناء القمة، ستظل دائمًا تحت رحمة من يمتلك الأساس. لا يمكن أن تضمن مصيرك التقني وأنت تعتمد كليًا على بنية لم تصنعها بنفسك.
وهذا تمامًا ما نراه في برامج التدريب لدينا، مثل مبادرة "رواد مصر الرقمية" أو منحة مركز ITI، التي تخرج أجيالًا من الخريجين يفتقرون إلى فهم الأسس الجوهرية لصناعة التكنولوجيا. وبدلاً من بناء معرفة متكاملة تشمل البنية التحتية والتقنيات الأساسية، يتم دفع المتدربين للتركيز فقط على تطوير التطبيقات والمواقع، وهو مجال يواجه خطر الاندثار مع التسارع الكبير في تقنيات الذكاء الاصطناعي.
جزء من المشكلة يكمن في الصورة المضللة التي تروج لصناعة التكنولوجيا باعتبارها صناعة بلا حدود، مما يجعلنا نعتقد أن الطريق الوحيد للنجاح هو بناء أدوات وخدمات جديدة، على غرار نماذج شركات مثل أوبر وفيسبوك وتويتر.
لكن الحقيقة أن تقليد هذه النماذج دون امتلاك البنية التحتية الأساسية يتركنا معتمدين على الشركات الأجنبية. فما جدوى بناء محرر نصوص جديد على الإنترنت بينما تقدم جوجل هذه الخدمة وتبيعها للعالم؟ وما الفائدة من تعلم الأمان الرقمي أو الشبكات إذا كنا نشتري أجهزة جاهزة وبرمجيات من شركات مثل سيسكو أو بالو ألتو نتوركس، حتى وإن كلفتنا آلاف الدولارات؟
ليس مستحيلًا
ورغم هذه التحديات، هناك إشارات مشجعة على أن التوطين ليس مستحيلاً. فمشروعات مثل شبكة "ميزة" للمدفوعات الإلكترونية، أو خطط بناء مركز بيانات ضخم في منطقة قناة السويس الاقتصادية، تثبت أن تحقيق الاستقلال ممكن لكنه يتطلب رؤية استراتيجية واستثمارات مشتركة بين الدولة والقطاع الخاص.
من الواضح أن الدور الذي تؤديه الدولة حاليًا لا يرتقي إلى حجم التحديات المفروضة. فإذا أرادت الدولة أن تنهض بدورها الحقيقي في دعم توطين الصناعة، فلا بد أن تبدأ أولًا بإعادة هيكلة برامج التدريب لتأهيل مطورين يمتلكون القدرة على بناء بدائل محلية تساهم في تقليل اعتمادنا على شركات التكنولوجيا الكبرى مثل مايكروسوفت وجوجل.
وإلى جانب ذلك، يمكن للدولة أن تتبنى سياسات تحفيزية مثل تقديم إعفاءات ضريبية للمنتجات التكنولوجية المصنوعة محليًا، على غرار تجربة فيتنام التي أصبحت نموذجًا ناجحًا كأحد أبرز مراكز التصنيع والتصدير التكنولوجي في آسيا.
صحيح أن البعض قد يرى في بناء بدائل محلية لما هو متاح عالميًا نوعًا من إعادة اختراع العجلة، لكن العبرة هنا ليست في الابتكار ذاته بقدر ما هي في من يملك العجلة. فحتى لو كانت الأدوات التقنية موجودة في الأسواق العالمية، فإن امتلاكنا للبدائل المحلية يضمن السيادة على مستقبلنا الرقمي ويحمي الاقتصاد من التقلبات والتغيرات في السياسة الدولية. إنها إعادة اختراع موجهة نحو الاستقلال، هدفها الأول حماية القرار الوطني وتحصين الاقتصاد من هيمنة الشركات العابرة للحدود.
على الرغم من دعمي لحملات المقاطعة ضد الشركات المتورطة في دعم الاحتلال الصهيوني، إلا أنني أرى من منظور عملي أن مصر تمتلك فرصة حقيقية للتحول إلى مركز إقليمي للابتكار التكنولوجي يخدم الاقتصاد المحلي ويوسّع نطاق صادراتنا إلى أسواق المنطقة.
وما تقدم من تحديات في هذا المقال يؤكد أن هذا الطريق ليس مجرد طموح نظري، بل ضرورة استراتيجية. فبناء مجتمعات قوية للبرمجيات مفتوحة المصدر، وتمكين المطورين المحليين من تطوير حلول مستقلة، يمكن أن ينتج عنه جيل جديد من المبرمجين القادرين على المنافسة عالميًا، والانفكاك من قبضة الاحتكار التي تفرضها الشركات الكبرى على أسواقنا واقتصاداتنا.