DALL·E
صورة مولدة بالذكاء الاصطناعي

استعمار الوقت.. من جداول العمل الصارمة إلى خوارزميات الهيمنة

منشور الاثنين 17 فبراير 2025

مع نشأة الأنظمة الاقتصادية الحديثة، باتت السيطرة على الوقت أداة مركزية لإعادة تشكيل علاقات الإنتاج وضمان أقصى درجات الامتثال لقواعد السوق.

ومنذ الثورة الصناعية في أوروبا نهاية القرن الثامن عشر، خضعت ساعات العمل لرقابة صارمة وفُرِضَت جداول زمنية قاسية لا تهدف إلا إلى تعظيم العائدات، دون اعتبار لإنسانية العمال أو توازنهم الحياتي. وتحوَّل الزمن الإنتاجي إلى مَورِدٍ مستهلَك بالكامل داخل منظومة تضع الربح في مركزها، متجاهلة الأبعاد الاجتماعية والنفسية للأفراد العاملين.

مع التحولات المتسارعة التي شهدتها عملية الإنتاج بداية من الثورة الصناعية وانتهاءً بالاقتصاد الرقمي توسع نطاق السيطرة ليشمل حتى وقت الفراغ. لم يعد الترفيه منفصلًا عن دائرة الاستغلال، بل جرى توجيهه ليصبح امتدادًا لمنطق السوق. الأفلام والرياضات الجماهيرية، وحتى الأنشطة الترفيهية الخاصة لم تُترك لحالة من العفوية، بل جرى دمجها ضمن آليات تضمن إعادة إنتاج القوى العاملة وضبط سلوكها بما يتناسب مع متطلبات الاقتصاد الرأسمالي

ومع الثورة الرقمية، انتقلت هذه السيطرة إلى مستوى جديد من التكامل التقني. أصبح الزمن، حتى في أدق تفاصيله، خاضعًا لإعادة التوجيه والاستثمار، ليتحول إلى ما يشبه استعمارًا لوقت الفراغ/Colonisation of Time، حيث لم تعد لحظات الراحة والخصوصية مستثناة من منطق الربح، بل أصبحت جزءًا لا يتجزأ من ديناميكيات التراكم الرأسمالي المستمرة.

خليط من العمل والفراغ

يمثل العصر الرقمي مرحلة نوعية في تاريخ السيطرة على الوقت، إذ ارتقت أدوات السيطرة إلى مستويات غير مسبوقة من التعقيد والفعالية، متغلغلة بعمق في تفاصيل الحياة اليومية للأفراد.

بفضل تقنيات التتبع المتطورة والخوارزميات الذكية التي تحلل السلوك البشري باستمرار، أعادت الرأسمالية تشكيل الزمن ليصبح موردًا يجري استغلاله بشكل دائم، محولة كل لحظة من حياة الأفراد إلى فرصة لتحقيق أرباح مستدامة.

أحد أوجه قوة الخوارزميات هو قدرتها على تلبية الحاجات النفسية العميقة للبشر

الخصوصية الفريدة لهذا التحول تكمن في الطبيعة غير المرئية والمستمرة للسيطرة. تُستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي والخوارزميات المتطورة لتحليل كل تفاعل رقمي، مهما بدا بسيطًا، مثل تصفح الإنترنت أو النقر على الإعلانات والتعليقات والإعجابات، لتحويله إلى بيانات تُسهم في تعزيز السلوكيات التي تزيد من استهلاك المستخدمين أو تفاعلهم مع المحتوى بشكل يحقق أقصى عوائد اقتصادية.

ما يجعل هذه الخوارزميات متميزة هو تجاوزها للأدوار التقنية البحتة لتطمس الحدود بين أوقات العمل والفراغ، ما يجعل الأفراد جزءًا من عملية إنتاج القيمة دون إدراكهم الكامل.

أحد أبرز أوجه القوة في هذه الخوارزميات هو قدرتها على تلبية الحاجات النفسية العميقة للبشر. عبر دراسة دقيقة لأنماط الاستخدام والميول الشخصية، تُقدَّم للمستخدمين محتويات تُشعرهم بالتقدير والانتماء الاجتماعي.

مثال على ذلك، تميز منصات مثل إنستجرام بقدرتها على تسليط الضوء على منشورات تحظى بشعبية ضمن دوائر المستخدم الاجتماعية، مما يعزز شعوره بالقبول. هذا التوجه يتعزز من خلال خوارزميات توصيات مصممة بدقة، تضمن بقاء المستخدمين متصلين لفترات طويلة لزيادة التفاعل.

كما تعتمد هذه الأنظمة على استغلال مبادئ علم النفس السلوكي بهدف تحقيق أقصى درجات التفاعل المستمر. آليات مثل المكافآت المتقطعة والإشعارات العشوائية تُعد أدوات فعالة في بناء أنماط استهلاكية متكررة، إذ تحفز المراكز العصبية المرتبطة بالمكافآت في الدماغ، مما يدفع المستخدمين للبقاء متصلين بالمنصات.

على سبيل المثال، تُستخدم تقنيات مثل إشعارات الإعجابات والتعليقات المستمرة على وسائل التواصل الاجتماعي لتعزيز شعور المستخدم بالتقدير والانتماء.

وفي ألعاب الفيديو، تُقدم مكافآت عشوائية، كالعناصر النادرة أو الجوائز الإضافية، لتحافظ على اهتمام اللاعبين وتشجعهم على الاستمرار. هذا النهج يعزز من ارتباط المستخدمين بالمنصات ويخلق لديهم رغبة دائمة في متابعة التفاعلات والتحقق المستمر من استجابات الآخرين.

منصات مثل تيك توك تدفع بهذه الديناميكيات إلى مستوى جديد عبر اعتمادها على التمرير اللانهائي، حيث يُحفَّز المستخدمون على البقاء دون انقطاع بفضل تصميم يُزيل فكرة وجود نهاية طبيعية للمحتوى. يُبقي هذا السلوك المستخدمين في حالة دائمة من الفضول والترقب، إذ تظهر مقاطع جديدة تلقائيًا فور انتهاء السابقة.

هذا النمط يُشجع المستخدمين على استهلاك المزيد من الوقت دون وعي، فيُتاح للشركات تعزيز أرباحها عبر زيادة وقت التفاعل واستغلال البيانات السلوكية لتقديم محتويات مخصصة وإعلانات مستهدفة تدفع إلى مزيد من القرارات الاستهلاكية.

تحليل سلوك المستخدم

الرجل الكمبيوتر

في سياق الاقتصاد الرقمي، أضحت البيانات الشخصية موردًا استراتيجيًا ذا قيمة فائقة، إذ تُجمع كميات ضخمة من المعلومات المتعلقة بالأفراد عبر أنشطتهم اليومية على الإنترنت. تشمل هذه البيانات المواقع الجغرافية وأنماط السلوك الشرائي والتفاعلات الاجتماعية، وحتى التفضيلات العاطفية التي يتم استنتاجها من خلال تحليل النصوص والأنماط التفاعلية.

لا تقتصر هذه البيانات على تحسين تجربة المستخدم، بل تُستغل بشكل منهجي لدراسة الثغرات الشخصية واستثمارها تجاريًا بطرق مبتكرة ومؤثرة.

على سبيل المثال، تجمع تطبيقات مثل خرائط جوجل بيانات دقيقة تتعلق بتحركات الأفراد اليومية، بما في ذلك الأماكن التي يترددون عليها والأوقات التي يقضونها فيها. تُستخدم هذه المعلومات لتطوير استراتيجيات إعلانية شديدة الاستهداف تعتمد على الأنماط الجغرافية، مما يتيح للشركات توجيه الإعلانات بدقة نحو الشرائح الأكثر صلة بمنتجاتها وخدماتها.

علاوة على ذلك، توفر هذه البيانات رؤى معمقة حول تفضيلات الأفراد، مما يزيد من فاعلية استراتيجيات التسويق ويعزز معدلات التحويل.

أجهزة تتبع اللياقة البدنية، مثل Fitbit وApple Watch، تمثل نموذجًا آخر لاستغلال البيانات الشخصية. تُجمع بيانات شديدة الحساسية مثل عدد الخطوات اليومية ومعدلات ضربات القلب وأنماط النوم ومستويات التوتر. وتُستخدم هذه المعلومات لتطوير منتجات صحية مخصصة تُباع بأسعار مرتفعة أو للتفاوض مع شركات التأمين الصحي لتقديم خطط مستندة إلى تحليلات دقيقة للبيانات الصحية.

هذا الاستغلال المنهجي للبيانات يحوّل المستخدمين إلى أهداف مستمرة للمراقبة والتحليل. ومع تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي، أصبحت البيانات أداة ليس فقط لفهم السلوك الحالي، بل للتنبؤ بالقرارات المستقبلية والتأثير عليها بطرق دقيقة وخفية، وهو ما يمكن أن يُطلق عليه اقتصاد النيّة.

في هذا الإطار، لم تعد البيانات الشخصية مجرد وسيلة لتحسين الخدمات، بل أصبحت جزءًا أساسيًا من منظومة السيطرة الرأسمالية، مما يعزز استغلالها كعنصر محوري في ديناميات الهيمنة الاقتصادية.

العمل غير المدفوع لإنتاج المحتوى

يشكل الاقتصاد الرقمي نموذجًا هيكليًا يعتمد بشكل أساسي على العمل غير المدفوع الذي يُنتجه المستخدمون أنفسهم. يتضمن هذا النموذج مجموعة واسعة من الأنشطة التي تبدأ من إنتاج الصور والفيديوهات والتدوينات، وتمتد إلى التفاعلات البسيطة كالإعجابات والتعليقات، وحتى التمرير عبر المحتوى.

منصات مثل إنستجرام وفيسبوك وتيك توك يوتيوب تعتمد  بشكل كامل على المحتوى الذي يُنتجه المستخدمون، إذ يُمثل هذا المحتوى العمود الفقري الذي يُبقي المنصات نشطة وقادرة على جذب جمهور واسع.

بفضل هذا المحتوى، تُتيح هذه المنصات للشركات شراء مساحات إعلانية بأسعار مرتفعة، وذلك بفضل الدقة الفائقة التي تُوفرها البيانات المُستخلصة من سلوكيات المستخدمين. الأهم من ذلك، أن هذه المنصات لا تتحمل أي تكلفة مباشرة لإنتاج هذا المحتوى، مما يجعل المستخدمين أنفسهم منتجين دون تعويض مادي مباشر.

فضاء رقمي ديمقراطي

في ظل اتساع هيمنة الشركات الرأسمالية على الاقتصاد الرقمي، وتزايد استغلالها للموارد المعلوماتية، تبرز الحاجة إلى بدائل جذرية تتجاوز الإصلاحات التجميلية نحو إعادة هيكلة البنية التحتية الرقمية بما يحقق العدالة الاجتماعية والسيادة الديمقراطية على الموارد الرقمية.

لا يمكن تحقيق هذا التحول دون تفكيك علاقات الإنتاج القائمة التي تعيد إنتاج الاستغلال، لتُستبدل بها نماذج تعتمد على الإدارة الجماعية والتوزيع العادل للقيمة. ففي ظل هيمنة المنصات الرقمية الكبرى، يصبح تفكيك مركزية السلطة الاقتصادية شرطًا ضروريًا لتحقيق تحول ديمقراطي حقيقي.

البرمجيات الحرة ومفتوحة المصدر تتيح للمستخدمين بناء أنظمة تقنية تتحدى الاحتكار

تقوم هذه النماذج على منح العمال والمستخدمين حقوق إدارة المنصات التي يعتمدون عليها، ما يخلق توازنًا جديدًا في توزيع الفوائض الاقتصادية.

قد تكون تعاونية Mondragon نموذجًا متقدمًا لمؤسسة مملوكة للعمال يمكن البناء عليه، وهو نهج يمكن توسيعه ليشمل المنصات الرقمية، حيث تكون الإدارة بيد المجتمعات وليس المؤسسات الرأسمالية.

أيضًا التعاونيات الرقمية، مثل Stocksy United في مجال التصوير الفوتوغرافي وFairbnb كنموذج بديل لمنصة Airbnb، تقدم نماذج ملموسة لكيفية إعادة توزيع القيمة الاقتصادية. وكمقال آخر نجد Co-opCycle تتيح لسائقي التوصيل التحكم في شروط عملهم وأجورهم، مما يعكس إمكانات هذه النماذج في إعادة بناء علاقات العمل وفق أسس ديمقراطية.

وتعتبر البرمجيات الحرة ومفتوحة المصدر حجر الأساس في أي مشروع تحرري للفضاء الرقمي. فهي تتيح للمجتمعات المحلية والمستخدمين القدرة على التحكم في البنية التقنية التي يعتمدون عليها بدلًا من تركها تحت سيطرة الشركات الكبرى. مشروعات مثل لينكس كنظام تشغيل حُر، وماستودون كشبكة اجتماعية لا مركزية، وخريطة الشارع المفتوحة كبديل لخرائط تجارية مُحتَكَرة، توضح كيف يمكن بناء أنظمة تقنية تتحدى الاحتكار وتعيد السلطة إلى المستخدمين.

أيضًا قد توفر الفيدرالية الرقمية نموذجًا بديلًا لمنظومة الإنترنت المركزية. منصات مثل PeerTube وPixelFed تمثل بداية لنظام إعلامي رقمي غير خاضع للشركات التكنولوجية الكبرى، مما يخلق إمكانات جديدة لإنتاج المعرفة وتوزيعها خارج منطق السوق الرأسمالي.

ليست "بدائل" فقط

وفي ظل تصاعد الهيمنة الرقمية للشركات الكبرى، تبدو الحاجة إلى نماذج بديلة أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. ورغم أن بعض المبادرات التعاونية والمشاريع الرقمية الديمقراطية قد لا تكون مثالية أو خالية من التحديات، فإنها تظل نواة قابلة للتطور والتوسع نحو فضاء رقمي أكثر عدالة. لا يمكن اختزال الحلول في مجرد إنشاء منصات بديلة، بل يجب أن يترافق ذلك مع سياسات استراتيجية تُمكّن المجتمعات من ممارسة الإدارة الديمقراطية للبنية الرقمية. إن تأمين الوصول العادل إلى التقنيات، وتطوير تنظيم حقوق رقمية تحمي المستخدمين، وإرساء تعاونيات رقمية تتيح لهم التحكم الفعلي في المنصات، تشكل ركائز ضرورية لأي مشروع تحرري في هذا المجال.

لكن حتى مع بناء مثل هذه النماذج، يظل غياب التعليم النقدي عقبة أساسية تحول دون تحول المستخدمين إلى فاعلين حقيقيين في صياغة مستقبلهم الرقمي. فالنظام السائد يعيد إنتاج علاقات التبعية، حيث يُدفع الأفراد إلى لعب دور المستهلك السلبي بدلًا من المشاركة الفاعلة في تشكيل التكنولوجيا. من هنا، يصبح التعليم النقدي ضرورة ملحّة، ليس فقط لفهم كيفية عمل التقنيات، بل لإعادة توجيهها نحو الأهداف الجماعية، بعيدًا عن منطق الربح الذي يحكمها اليوم.

إن بناء شبكات جماعية تُعنى بتبادل المعرفة والتجارب يمثل خطوة حاسمة في هذا المسار. لكنه يصطدم بواقع الهيمنة الرأسمالية على البنية التحتية الرقمية، ما يتطلب دعمًا مؤسساتيًا وتشريعيًا يضمن استقلالية هذه الشبكات عن منطق السوق. لا يعني هذا رفض التكنولوجيا أو العودة إلى أشكال تنظيمية سابقة، بل بالعكس، هو دعوة إلى إعادة ابتكارها بحيث تصبح في خدمة المجتمع بدلًا من أن تكون أداة لإدامة استغلاله.