
الإنترنت بين السوق والحق.. لا منفعة عامة بلا ملكية جماعية
وُلدت الإنترنت كمشروع أكاديمي حكومي غير ربحي، خُصص للصالح العام ونُظر إليه كبنية تحتية معرفية يجب أن تكون متاحةً للجميع. لكن مع بداية التسعينيات، وبتأثير موجة الخصخصة النيوليبرالية، شهدت الإنترنت تحوّلًا جذريًا، من مرفق عام إلى سلعة تخضع لمنطق السوق. أُسندت إدارتها إلى الشركات الخاصة، ليُعاد تشكيل الشبكة وفق مصالح رأس المال لا وفق حاجات المجتمعات.
في فبراير/شباط 1997، وقّعت 69 حكومة على اتفاقية منظمة التجارة العالمية لتحرير خدمات الاتصالات الأساسية، التي ضغطت على الدول لفتح أسواق الاتصالات أمام الاستثمار الخاص. نتيجةً لذلك، شهدت دول عديدة خصخصة تدريجية لقطاعات الاتصالات والإنترنت، بتحفيز من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ضمن برامج إصلاح اقتصادياتها.
ينبع الصراع حول مستقبل الإنترنت من تناقض جوهري بين منطقين متضادين؛ منطق السوق الربحي ومنطق الحق الاجتماعي. ففي ظل النظام الرأسمالي، يُترك تطوير البنية التحتية لشركات خاصة تقرر أماكن الاستثمار بناءً على العائد المتوقع، فتُخدَم المدن الغنية ويُهمَل الفقراء والقرى النائية. تُحفّز المنافسة تحسين الخدمات لمن يستطيعون الدفع فقط، بينما يتفاقم التهميش الرقمي لمن هم خارج السوق.
هل الإنترنت سلعة تُباع لمن يملك المال؟ أم حق اجتماعي يُوفَّر للجميع؟
لا يملك المستخدمون في هذا النموذج أي سلطة فعلية على القرارات المتعلقة بالبنية الرقمية. الشركات هي من تحدد الأسعار والسياسات ومستوى الخصوصية، بينما يقتصر دور الدولة غالبًا على مراقبة شكلية. بدلًا من أن تكون إدارته تشاركية ديمقراطية، فتُشرك المجتمعات المحلية في إدارة الشبكة، عبر مجالس شعبية أو تعاونيات تتخذ القرارات وفقًا للاحتياجات المحلية، وتُمارس دورًا فعّالًا في توجيه التطوير.
بالتالي يُطرح سؤالٌ هل الإنترنت سلعة تُباع لمن يملك المال؟ أم حق اجتماعي يُوفَّر للجميع؟ ففي السوق، يُعد الاتصال امتيازًا مشروطًا بالقدرة الشرائية. لكن واقعيًا، هو ضرورة حياتية مثل الصحة والتعليم، ويجب تمويله من الأموال العامة.
نقد وهم "المنفعة العامة" في السوق
رغم الاعتراف المتزايد عالميًا بالحاجة إلى الإنترنت كخدمة أساسية، فإن محاولات تحقيق ذلك ضمن إطار السوق الربحية لم تثمر عن نتائج حقيقية. تستخدم الشركات الكبرى خطاب "المنفعة العامة" لتبرير مبادرات تخدم في الواقع استراتيجياتها التوسعية، وتُعزّز احتكارها على حساب الجمهور. والشراكات بين القطاعين العام والخاص غالبًا ما فشلت في تحقيق العدالة وتحوّلت إلى دعم غير مباشر للشركات دون تأسيس بنية تحتية شاملة ومستدامة.
تُشبه منصات التواصل المولات التجارية المغلقة التي تُحاكي الفضاء العام بينما تُدار لأغراض تسويقية
وقد أثبتت الشراكات العامة/الخاصة محدوديتها، فرغم وعودها بسد فجوة الوصول، ظلت الشركات الخاصة تركّز على الربح أولًا، ما أدى إلى فشل المشروعات بعد انتهاء التمويل العام أو إلى دعم الشركات دون نتائج ملموسة للمواطنين.
وتُظهر تجارب من الولايات المتحدة أن الهيكلية السوقية للاحتكار لم تتغير رغم الاستثمارات العامة/الخاصة الضخمة، وعادت الفجوات الرقمية للظهور مجددًا. ذلك لأن خدمة الإنترنت لا يمكن فصلها عن ملكية بنيتها التحتية. فإذا كانت الكابلات والأبراج ومراكز البيانات مملوكة للقطاع الخاص، فمن الصعب فرض منطق المنفعة العامة عليها عبْر التنظيم فقط.
في القطاعات الأخرى كالكهرباء والماء، نجد إما ملكية عامة أو تنظيمًا صارمًا يجعل الشركات أشبه بمرافق عامة. أما في الإنترنت، فالتنظيم أخف، والنتيجة مناطق فقيرة غير مربحة بلا خدمة، وأسعار مرتفعة في ظل غياب المنافسة.
الوهم لا يقتصر على البنية التحتية، بل يشمل أيضًا ما يُسمى بـالمجال العام الرقمي. يتعامل كثير من المستخدمين مع السوشيال ميديا باعتبارها ساحات عامة، لكنها في الواقع منصات خاصة تملكها شركات، وتتحكم في خوارزميات المحتوى لصالح الأرباح. تُشبه هذه المنصات المولات التجارية المغلقة التي تُحاكي الفضاء العام بينما تُدار لأغراض تسويقية. وعند تعارض الربح مع المصلحة العامة، تنتصر الخوارزمية للربح على حساب الحقوق.
مثال بارز على وهم خطاب المنفعة العامة مشروع Free Basics من فيسبوك، الذي قُدم كحل مجاني لربط الفقراء بالإنترنت في دول الجنوب. لكن الخدمة اقتصرت على محتوى محدد يخدم المنظومة التجارية لفيسبوك، وبعض الخدمات المحدودة الأخرى، وحجبت الإنترنت الحقيقية خلف جدار مدفوع. وتجاهلت هذه الخدمة احتياجات المجتمعات المحلية، وجمعت بيانات المستخدمين، وانتهكت حيادية الشبكة.
واجهت هذه الخدمة احتجاجات شعبية واسعة، خاصة في الهند، حيث حُظرت بسبب تهديدها لانفتاح وحيادية الشبكة. ومع ذلك، واصلت فيسبوك نشر النموذج ذاته في أكثر من 60 دولة، بما يعكس نموذجًا مقيدًا ومشروطًا من الاتصال الرقمي.
نماذج بديلة للإدارة الجماعية
رغم هيمنة النموذج الربحي على بنية الإنترنت، ظهرت خلال العقود الأخيرة مبادرات بديلة تقدم رؤى مغايرة لإدارة الشبكة بشكل جماعي يحقق المنفعة العامة. غالبًا ما انطلقت هذه الجهود رد فعل على فشل السوق في تلبية الحاجات الأساسية، أو ردًّا على سطوة الشركات الكبرى على البنية الرقمية.
ظهرت تعاونيات اتصالات في الأرياف الأمريكية طوّرت نفسها لتقدم خدمات إنترنت سريع وسدّت فجوات خلفها انسحاب القطاع الخاص
من أبرز هذه النماذج الشبكات المجتمعية التي تنشأ في المناطق التي همّشتها الشركات بسبب ضعف العائد المالي، خصوصًا في القرى والمناطق النائية والفقيرة. في هذا النموذج يتعاون السكان محليًا لبناء شبكات بسيطة بتكلفة زهيدة، تُدار ذاتيًا وتعكس احتياجاتهم المباشرة.
تُبنى هذه الشبكات على مبادئ أفقية مثل الشفافية والمشاركة، غالبًا ما تُدار عبر لجان أو جمعيات أهلية، مما يمنحها قدرة كبيرة على التكيّف مع السياق المحلي، خلافًا للنماذج المركزية التجارية. تُعد تجربة B4RN في المملكة المتحدة من أبرز الأمثلة على هذا النموذج، حيث تمكن السكان من تمديد أكثر من 3200 كيلومتر من كابلات الألياف الضوئية تحت الأرض، لتربط عشرات القرى الصغيرة.
أما خدمة الإنترنت التي توفرها البلديات، فتبرز في المدن التي تتولى فيها البلديات بناء وتشغيل الشبكة كخدمة عامة، على غرار الماء والكهرباء. من أبرز الأمثلة شبكة الألياف البصرية في مدينة تشاتانوجا الأمريكية، التي وفّرت خدمة سريعة وعادلة لجميع السكان، ونجحت في تحفيز الاقتصاد المحلي وخلق فرص عمل. وطورت نفسها لتقدم خدمات إنترنت سريع، وسدّت فجوات خلفها انسحاب القطاع الخاص بسبب ضَعف العائد على الاستثمار.
ما يميز هذه النماذج أنها لا تهدف إلى الربح، بل إلى تلبية الحاجة العامة، مما ينعكس على جودة الخدمة وتوزيعها العادل، وعلى إشراك السكان في اتخاذ القرار. إنها ليست فقط حلولًا تقنية، بل أدوات تمكين مجتمعي حقيقي.
وفي مواجهة هيمنة الشركات، ظهرت منصات لا مركزية تعتمد على البرمجيات الحرة وتُدار من المجتمع، من أبرزها بروتوكول الفيدفيرس، الذي يضم منصات مثل Mastodon وPeerTube، وتعمل دون سلطة إدارة مركزية أو إعلانات.
هذه المنصات تموَّل ذاتيًا عبر الدعم التعاوني، وتشهد إقبالًا متزايدًا، خاصة بعد موجات هجرة من المنصات الربحية. أيضًا تقدم مشاريع مثل ويكيبيديا ونظام لينكس دليلًا على قوة العمل التعاوني وإمكانية إنتاج أدوات رقمية كسلع عامة متاحة للجميع.
ورغم صغر حجم هذه المنصات مقارنة بعمالقة التقنية، فإنها تبرهن على قابلية بناء فضاء إنترنت ديمقراطي ومفتوح قائم على المشاركة لا التملك.
ضمن الاقتصاد الرقمي، نشأت أيضًا حركة التعاونيات المنصاتية بديلًا عن نماذج كأوبر وليفت. ومن أبرز الأمثلة تعاونية السائقين في نيويورك، التي أنشأها سائقون لتقديم تطبيق مملوك لهم، يوزع الأرباح بعدالة ويتيح المشاركة في اتخاذ القرار.
نماذج مشابهة ظهرت في كندا وأوروبا مثل FairBnB وEva، حيث تُدار المنصة من المجتمع المحلي نفسه. كما ظهرت تعاونيات لإدارة البيانات ووسائل التواصل، وأُنشئت نقابات رقمية لحماية حقوق العاملين. وقد تحالفت بعض هذه المبادرات مع نقابات عمالية لتأسيس تنظيمات مثل نقابات اليوتيوبرز أو صناع المحتوى في ألمانيا، كمسعى لحماية الحقوق في بيئة اقتصادية متقلبة.
استعادة الإنترنت للصالح العام
إذا كانت الإنترنت قد أُخضعت لمنطق السوق والربح، فإن استعادتها كحق جماعي تتطلب برنامجًا تحرريًا يعيد تنظيم بنيتها وتوزيعها وإدارتها. لا يعني ذلك إلغاء النظام القائم دفعةً واحدةً، بل الانطلاق من خطة انتقالية تسعى إلى نقل البنية الرقمية من قبضة الملكية الخاصة إلى نماذج تشاركية وديمقراطية، تضع المصلحة العامة في مركز الأولويات.
أولى الخطوات تبدأ بإعادة تعريف الإنترنت كحق أساسي متصل بالمواطنة. يجب الاعتراف بالوصول إلى شبكة موثوقة وسريعة كحق، على غرار التعليم والرعاية الصحية. يتطلب ذلك التزامًا سياسيًا بتوفير الخدمة للجميع، بأسعار رمزية أو مجانًا، عبر تمويل عام مستدام. في بعض الدول، بدأت هذه الرؤية بالظهور. ففي الهند، نوقش إدراج الإنترنت كحق دستوري.
لكن الاعتراف القانوني وحده لا يكفي؛ لا بد من سياسات تنفيذية تبدأ بملكية جماعية للأصول الحيوية للبنية الرقمية، من شبكات الألياف إلى الأبراج ومراكز البيانات والأقمار الاصطناعية. يمكن وضع هذه الأصول تحت إدارة هيئة عامة أو شركات مملوكة للمجتمع.
يُذكر هنا أنه في عام 2019 اقترح حزب العمال البريطاني مشروعًا طموحًا لتحويل شبكة Openreach إلى ملكية عامة، وتوفير إنترنت مجاني لكل المنازل بحلول عام 2030، بتمويل من ضرائب على شركات التقنية العملاقة. رغم فشل المشروع سياسيًا، فإنه شكّل نموذجًا لرؤية سياسية تقترب من تحويل الإنترنت إلى منفعة عامة.
أيضًا المنصات الرقمية الكبرى، رغم أنها تؤدي وظائف عامة، فهي تخضع للملكية الخاصة. قد يكون الحل هنا هو تحويل هذه المنصات إلى مؤسسات عامة أو غير ربحية، تُدار عبر مجالس مستقلة تشمل المستخدمين والعمّال والمجتمعات.
ومن المحتمل أن تُطرح حلول أخرى كمرحلة انتقالية مثل تفكيك الشركات الاحتكارية، واستبدال منصات أصغر قابلة للتنظيم المجتمعي، وإنشاء تعاونيات البيانات تُدار جماعيًا للتفاوض حول شروط استخدام البيانات، وفرض التشغيل المشترك بين المنصات/interoperability لكسر الاحتكارات الرقمية، والسماح للمستخدمين بالتنقل بين المنصات دون فقدان محتواهم أو شبكاتهم الاجتماعية.
يقول الكاتب Ben Tarnoff "جذر المشكلة هو منطق الربح، ولا حل إلا بالملكية العامة"، وهي مقولة تلخص المسار الذي يجب أن يسلكه أي مشروع تحرري يسعى لإنهاء احتكار البيانات والمعلومات والإنترنت والاتصالات.
بالطبع لا بد أن يكون لهذا المشروع بعد عالمي. فالإنترنت عابرة للحدود، ولا يمكن إصلاحها من داخل دولة واحدة، بالتالي فإن تحالفًا دوليًا من الحكومات التقدمية والمجتمع المدني والنقابات الرقمية، من أجل حوكمة عادلة وديمقراطية للشبكة هو أحد أهم شروط النجاح.
كما دعت الحركات العمالية لتضامن الطبقات العاملة عبر الحدود، تدعو الحركات الرقمية اليوم لتضامن الشعوب ضد رأس المال التقني العالمي. وليس هذا مجرد طموح نظري، بل ضرورة عملية لبناء مستقبل رقمي أكثر عدالة ومساواة.
من الملكية الخاصة إلى العدالة الرقمية
لا يمكن للحديث عن مستقبل الإنترنت أن يظل محصورًا في ثنائية السوق والدولة، ولا في إصلاحات تنظيمية سطحية تعالج العرض دون أن تمس بجذور الملكية والتوزيع. السؤال الحقيقي لم يعد إن كان الوصول إلى الإنترنت ضرورة، فهذا محسوم، بل كيف نعيد تعريفه أداة تحرر جماعي، لا مجرد قناة استهلاك.
إن الشكل السائد للإنترنت اليوم ليس نتيجة طبيعية لتطور تقني، بل نتاج مسار سياسي طويل فرض منطق الملكية الخاصة على بنية الشبكة، وقيّد تصميمها، ووجه أولوياتها بما يخدم مصالح رأس المال. هذه البنية لم تُصمم لتكون عادلة، بل لتكون مُربحة. ومن ثم فإن أي محاولة لتحويل الإنترنت إلى منفعة عامة دون إعادة هندسة علاقات القوة التي تتحكم فيه ستظل قاصرة.
من هنا، تصبح الحاجة إلى مقاربة مختلفة أمرًا ملحًا مقاربة تُخرج الإنترنت من عباءة رأس المال وتعيد تنظيمها وفق قيم العدالة والمنفعة الجماعية. وهذا يتطلب إعادة ترتيب أولويات النظام الرقمي ذاته، بحيث يكون منطق الحق والمشاركة والديمقراطية هو المهيمن، لا منطق الاستغلال.
تحقيق هذا التحول لن يكون سهلًا، بل يتطلب نضالًا طويل الأمد، سياسيًا ومجتمعيًا، يشبه ما خاضته المجتمعات من أجل الحق في الصحة والتعليم. ومؤشرات الأمل تتزايد، من تنظيم العاملين في قطاع التقنية بوادي السيليكون إلى حركات المجتمعات الريفية التي تبني شبكاتها الذاتية، إلى صعود الوعي بحقوق البيانات والسيادة الرقمية.
فكما لا يمكن للإنترنت أن يكون أداة تحرُّر حقيقية ما لم يتحرر هو ذاته أولًا، فإن هذا الحلم، مهما بدا بعيدًا، قد يصبح ضرورة سياسية واجتماعية وحقوقية لمستقبل أكثر عدلًا، وحرية، ومشاركة. والتحرر الرقمي، في هذا السياق، ليس ترفًا فكريًا، بل حاجة جماعية ملحّة في وجه منظومة تحتكر المعرفة والتواصل لصالح القلة وتقصي الجميع.