صورة موّلدة بواسطة نموذج الذكاء الإصطناعي DALL-E
البرمجيات الحرة بين التشاركية والاستغلال

من يكتب الكود ومن يجني الثمار؟

منشور الأربعاء 21 مايو 2025

في قلب التحولات العميقة التي تشهدها البنية الرقمية للرأسمالية المعاصرة، تبرز البرمجيات أداةً مركزيةً للإنتاج والتنظيم والسيطرة. فبعد عقود من اعتماد شركات التقنية الكبرى على البرمجيات المغلقة ضمن سعيها للاحتكار وضبط الأسواق والمستخدمين، يشهد العقدان الأخيران انفتاحًا ملحوظًا على البرمجيات الحرة ومفتوحة المصدر، بل وتتحوّل إلى ركيزة أساسية في نماذج ربحية تدر المليارات.

لفهم هذا التحوّل، لا بد من التمييز بين ثلاثة أنماط رئيسية من البرمجيات؛ المغلقة حيث تحتكر الشركات الوصول إلى شفرتها المصدرية، وتمنع أي تعديل أو توزيع لها، مانحةً المستخدم ترخيصًا محدودًا للاستخدام، مشروطًا باتفاقيات صارمة، وهي تجسيد واضح لمنطق الملكية الخاصة، حيث تُعامل المعرفة باعتبارها سلعة محتكرة.

الثانية هي البرمجيات الحرة، التي تتيح للمستخدمين أربع حريات أساسية هي تشغيل البرنامج لأي غرض، ودراسة شفرته وتعديلها، وإعادة توزيع النسخ المعدّلة. الحرية هنا لا تعني المجانية، بل رفع القيود عن تداول المعرفة.

أما الثالثة، فهي البرمجيات مفتوحة المصدر، التي تتيح الشفرة للمراجعة والتعديل، لكنها تتجنّب الأبعاد السياسية والاجتماعية للحرية، ما يسمح بإعادة دمجها في منتجات تجارية مغلقة، وقد نشأت كمقاربة أكثر "قابلية للتسويق" من خطاب البرمجيات الحرة التي كانت تعاديها الشركات الرأسمالية تمامًا.

هذا التمايز ليس تقنيًا فحسب، بل يعكس اختلافًا جوهريًا في النظرة إلى المعرفة والملكية والتعاون البشري، ويمثّل مدخلًا لفهم كيف أعادت الشركات الكبرى صياغةَ هذه البرمجيات لخدمة منطق الربح، مستفيدةً من مشاعات تقنية، لتُعيد إنتاجها داخل قوالب احتكارية.

الكاتدرائية والبازار

من بين النصوص المرجعية التي ساهمت في تشكيل الوعي الثقافي والإنتاجي بخصوص البرمجيات مفتوحة المصدر، يأتي مقال الكاتدرائية والبازار الشهير للمبرمج والكاتب والناشط الأمريكي البارز في مجال البرمجيات مفتوحة المصدر، إريك س. ريموند، الذي نُشر في أواخر التسعينيات. في هذا النص يقدّم ريموند مقارنةً بين نمطين متمايزين لإنتاج البرمجيات؛ نموذج الكاتدرائية ونموذج البازار.

يرمز نموذج الكاتدرائية إلى النهج التقليدي المغلق في تطوير البرمجيات؛ يعمل فريق صغير من المطوّرين في عزلة نسبية، ويتحكم بشكل مركزي في كافة جوانب المشروع. لا يصل المنتج إلى العامة إلا بعد اكتماله. يعكس هذا النمط النظام البرجوازي الكلاسيكي لتنظيم الإنتاج، مبنيًا على الهرمية والانضباط والتحكم النخبوي في أدوات العمل والإنتاج.

في مقابل ذلك، يرمز نموذج البازار إلى نهج مفتوح وتشاركي في الإنتاج، وهو ما تتميز به مشروعات البرمجيات مفتوحة المصدر. في هذا النمط، تكون الشفرة متاحة بشكل مستمر للمجتمع، ويُشجع المستخدمون والمطوّرون على المساهمة الفورية والمراجعة والتعديل.

يُشَبِّه ريموند هذا النموذج بسوق مفتوحة تعجّ بالأصوات والأفكار المتداخلة، لكنّ هذه الفوضى الظاهرية تنتج تقنيات أكثر استقرارًا وأسرع نموًا، كما يتجلى في تجربة تطوير نواة لينكس/Linux، إذ ساهم آلاف المطورين في تحسين الكود واكتشاف الأخطاء ومعالجتها بوتيرة سريعة، ما جعل النظام من أكثر الأنظمة استقرارًا واعتماديةً في العالم.

العديد من الأعين تجعل كل خطأ يبدو سطحيًا

أحد المبادئ الرئيسية التي يبرزها ريموند في نموذج البازار هو مبدأ "العديد من الأعين تجعل كل خطأ يبدو سطحيًا" فانفتاح الشفرة لجمهور واسع يسهم في كشف الأخطاء بسرعة وحلّها بكفاءة. هذا النمط لا يعتمد على المركزية، بل على تعاون أفقي واسع، يشبه في بعض أوجهه التنظيم الذاتي الذي يميّز التعاونيات أو communes/الكومونات.

مع ذلك، فإن ريموند نفسه، على رغم نقده للنموذج المغلق، لم يتبنَّ موقفًا مناهضًا للرأسمالية، بل سعى إلى التوفيق بين منطق المصدر المفتوح ومنطق السوق، وهو ما ستستغله لاحقًا الشركات الكبرى لإعادة استيعاب هذا النموذج داخل آليات الربح الرأسمالي.

واقعيًا، لا يمكن إنكار الأثر العميق للبرمجيات الحرة ومفتوحة المصدر في بنية التقنية الحديثة، إذ تقف أعمدة العالم الرقمي المعاصر على أكتاف مشروعات جماعية حرة ومنفتحة. فتاريخ الإنترنت نفسه يقدّم واحدًا من أوضح الأمثلة على هذه البداية المشاعية، فقد نشأت من جهود أكاديمية ممولة من القطاع العام، وليس من شركات خاصة، فتقنيات مثل HTTP وHTML وبروتوكولات البريد الإلكتروني ونقل الملفات طوّرت على نحو مفتوح ومشترك، ومُنحت للجمهور دون احتكار، مما مهَّد لتوسّع هائل في الاقتصاد الرقمي.

وتبرز نواة نظام التشغيل لينكس كمثال أبرز على هذه المشاعية التقنية. فقد بدأ كمبادرة شخصية من طالب مستقل، وتحوّل إلى نواة تشغّل معظم خوادم الإنترنت والحوسبة السحابية والهواتف الذكية (من خلال أنظمة مثل أندرويد). ومن اللافت أنه مشروع لا يملكه أي كيان ربحي، بل يطوّره مجتمع عالمي يشمل مطورين فرادى وشركات كبرى على حدّ سواء.

ويمكن رصد هذا النمط التعاوني في عدد هائل من البرمجيات التي يعتمد عليها العالم الرقمي اليوم. فمنها Apache وNginx لإدارة مواقع الويب، وMySQL وPostgreSQL لقواعد البيانات، وDocker وKubernetes لإدارة الحاويات وتشغيل البرامج بكفاءة. كلها أدوات حرة ومفتوحة المصدر تشكّل العمود الفقري لخدمات الويب والتطبيقات السحابية.

وفي مجال الذكاء الاصطناعي، تستخدم إطارات مفتوحة مثل TensorFlow وPyTorch في تطوير التطبيقات المعدّلة والمتقدّمة للتعرف على الصور والكلام والترجمة الآلية. هذه الأمثلة تؤكد أن كثيرًا من الابتكارات التي نستخدمها يوميًا بُنيت على أساس من التعاون والانفتاح، لا على برمجيات مغلقة أو مملوكة فقط.

ما يُنتج جماعيًا تستولي عليه الرأسمالية 

رغم أن البنية التحتية التي تقوم عليها معظم التقنيات الحديثة بُنيت بشكل جماعي ومفتوح، فإن الشركات الكبرى غالبًا ما تستخدم هذه الأسس المجانية والمفتوحة لتصنع منها منتجات مغلقة ومربحة. هنا تظهر مفارقة واضحة؛ فبينما جرى تطوير البرمجيات بشكل جماعي من قبل مجتمعات من المطورين حول العالم، فإن الشركات وحدها تجني الأرباح.

لنأخذ مثالًا على ذلك من جوجل. استفادت الشركة بشكل كبير من البرمجيات المفتوحة والبنى التحتية المجانية. فبَنَت محرك بحثها على شبكات من خوادم لينكس منخفضة الكلفة، بينما كانت الشركات المنافسة تشتري خوادم Unix باهظة الثمن. هذا القرار الاستراتيجي في أوائل الألفية مكّن جوجل من التوسع السريع بتكلفة أقل.

لاحقًا، تبنت جوجل نمط إنتاج البرمجيات المفتوح، وفتحت بعض تقنياتها للعالم. المثال الأبرز هو نظام أندرويد، الذي استحوذت عليه وطوّرته ثم جعلت نسخته الأساسية مفتوحة المصدر، مما ساعده على أن يصبح النظام الأكثر انتشارًا عالميًا، إذ تخطت حصته السوقية في بعض السنوات 80% من الهواتف الذكية.

مثال آخر هو متصفح كروميوم/Chromium الذي طوّرته جوجل وأتاحت شفرته كمصدر مفتوح، ما جعله أساسًا لتطوير متصفحات شهيرة مثل كروم نفسه ومايكروسوفت إيدج.

وفي مجال الحوسبة السحابية، تبرز شركة أمازون عبر ذراعها AWS بوصفها الرائدة عالميًا. ومنذ إطلاق خدماتها في منتصف العقد الأول من الألفية، اعتمدت AWS على نظام لينكس لتشغيل خوادمها، ما وفّر عليها تكاليف ترخيص ضخمة، ومكّنها من بناء أدواتها الخاصة فوق هذا النظام المجاني.

على سبيل المثال، خدمة Amazon RDS الشهيرة لقواعد البيانات ما هي إلا واجهة مدارة تُقدّم نسخًا من أنظمة مفتوحة مثل MySQL وPostgreSQL. الزبائن يدفعون مقابل سهولة الاستخدام والدعم الفني، في حين أن المحرك الداخلي هو برمجية مفتوحة لا تكلف الشركة شيئًا. ورغم أن هذا النموذج مقبول عند اقترانه بردّ الجميل لمجتمع المصدر المفتوح، فإن أمازون لم تفعل ذلك دائمًا. 

مثال آخر هو ما فعلته شركة أمازون مع برنامج مفتوح المصدر يُدعى Elasticsearch، وهو مخصص للبحث داخل كميات ضخمة من البيانات. استخدمت أمازون البرنامج ووفرت نسخة منه ضمن خدمتها السحابية دون تنسيق مع مطوريه الأصليين. أثارت الخطوة جدلًا واسعًا ودفعت المطورين إلى تغيير ترخيص البرنامج لمنع هذا النوع من الاستغلال.

حتى في عالم الذكاء الاصطناعي، نرى الشيء نفسه. برامج مثل ChatGPT اعتمدت في تدريبها على كميات ضخمة من النصوص المتاحة على الإنترنت، كتبها مستخدمون على ويكيبيديا أو المنتديات أو المدونات، ثم تبيع الشركة الخدمة النهائية على شكل اشتراكات مدفوعة. أي أن المحتوى أنتجه العامة، بينما الربح تحصده الشركة.

وصل الأمر بالرئيس التنفيذي الأسبق لمايكروسوفت ستيف بالمر إلى وصف لينكس بأنه "سرطان"

أما مايكروسوفت، التي كانت من أشد أعداء البرمجيات الحرة في التسعينيات وبداية الألفية واعتبرتها تهديدًا لنموذجها التجاري القائم على بيع تراخيص مغلقة، ووصل الأمر بالرئيس التنفيذي الأسبق ستيف بالمر إلى وصف لينكس بأنه "سرطان"، الآن، وتحديدًا منذ تولي ساتيا ناديلا قيادة الشركة عام 2014، تغير هذا الموقف بشكل جذري.

أدركت مايكروسوفت أن كثيرًا من البنية التقنية الحديثة – خاصة في مجال الخوادم والحوسبة السحابية – تعتمد على برمجيات مفتوحة لا يمكن تجاهلها. ولذلك بدأت تدعم نظام لينكس، بل وانضمت إلى مؤسسة لينكس وساهمت بشكل مباشر في تطويره. تشير تقارير عام 2020 إلى أن أكثر من نصف أنظمة Azure السحابية التابعة لمايكروسوفت تعمل على لينكس، ما اضطر الشركة إلى دمج نواة لينكس بالكامل ضمن منصتها.

وتجاوزت مايكروسوفت ذلك لتفتح مصدر بعض تقنياتها المغلقة، مثل منصة .NET، واستحوذت على GitHub، أكبر منصة لاستضافة البرمجيات المفتوحة. هذا التحول من العداء إلى الاحتضان لا يعكس فقط براجماتية الشركة، بل يثبت أن نموذج البرمجيات المفتوحة قد فرض نفسه بفضل فاعليته، حتى على الشركات التي طالما حاربته.

من ينتج ومن يربح

تُظهر الأمثلة السابقة أنّ الشركات التقنية الكبرى تدرك نجاعة نموذج الإنتاج المفتوح والتشاركي، لذا فهي لا تسعى لإقصائه، بل لتطويعه وإعادة تشكيله في قوالب ربحية. هذا الاستغلال يعكس اعترافًا ضمنيًا بتفوّق النمط التشاركي والجماعي على النموذج المغلق، حتى لو انتهى الأمر بالشركات إلى الاستحواذ عليه.

وهنا يبرز تناقض جذري لا يمكن تجاهله؛ من يُنتج التكنولوجيا فعليًا، ومن يجني ثمارها؟ مشاريع ضخمة وُلدت من التعاون بين آلاف المطورين والمستخدمين، تتحول لأدوات ربح تملكها كيانات اقتصادية قديرة على الاحتكار والتسويق.

هذا الواقع يثير أسئلةً عميقةً حول عدالة النظام الرقمي. من يملك مستقبل التقنية؟ المساهم الذي كتب سطرًا في كود مفتوح؟ أم الشركة التي حوّلته إلى منتج مدفوع؟

الإجابة لا تكمن في الاحتفاء المجرد بالبرمجيات الحرة، بل في بناء ثقافة مساءلة وإقرار ومشاركة متبادلة. يجب أن نعيد نظرنا في مفهوم الابتكار؛ ليس كمنجز فردي أو شركي معزول، بل خلاصة مسار تعاوني مكتظّ بالأفكار والكفاح والعمل.

ربما لن يكون ممكنًا تغيير قواعد اللعبة من فورها، لكن الاعتراف بالتناقضات هو الخطوة الأولى نحو فهم عميق لعالم التقنية، ليس كمجموعة من البرمجيات، بل كمسرح لتشابك المصالح والمعرفة والسلطة.