في الخامس والعشرين من أغسطس/آب الماضي، ألقت السلطات الفرنسية القبض على بافل دوروف، مؤسس منصّة تليجرام للمراسلات المُشفَّرة، مما أثار استياء نشطاء حرية المعلومات وحقوق الإنسان، خاصة أن هذا الحدث جاء وسط ضغوط متزايدة من الحكومات الغربية للحصول على بيانات مستخدمي تطبيقات المراسلة الآمنة مثل تليجرام وسيجنال.
ورغم أن هذه المنصّات، المبنية على حماية الخصوصية، تُظهر مقاومة أكبر لضغوط الحكومات مقارنة بالشركات الأمريكية مثل ميتا التي سبق أن أتاح تطبيقها واتساب بيانات مستخدميه لجيش الاحتلال الإسرائيلي لتتبُّع واستهداف مناضلي فصائل المقاومة الفلسطينية، لكن هل توفّر هذه التطبيقات خصوصية كاملة حقًا؟
بالتأكيد سيجنال وتليجرام يُعدّان خيارين أفضل مقارنةً بمنصّات مثل ميتا، إلاّ أنهما لا يزالان منصتين مركزيتين تمتلكان وتُسيطران بشكل كامل على التطبيق وبنيته التحتية ولديهما أشكال من السيطرة على بيانات المستخدمين.
في المقابل، يوجد نوع آخر من المنصات، هي المنصات اللا مركزية التي توفّر حماية أفضل للخصوصية وفرصًا أكبر للتعبير عن الرأي، إذ لا توجد سلطةٌ مركزيةٌ يمكنها التحكم في بيانات المستخدمين والمحتوى الذي ينشرونه.
تليجرام.. بين حماية الخصوصية والسيطرة المركزية
بدأ بافيل دوروف في تطوير تطبيق تليجرام عام 2013 بينما كان يعيش في بلده روسيا. وبعد ضغوط من الحكومة الروسية، انتقل إلى دبي وحصل على جنسية دولة كاريبية لتحرير نفسه من ملاحقة الحكومة الروسية. لاحقًا حصل دوروف على الجنسيتين الفرنسية والإماراتية أيضًا.
بالنظر إلى جهود بافيل في تأسيس السجلات القانونية للشركة المالكة تليجرام، فقد بذل أقصى ما في وسعه لحماية بيانات المستخدمين من ملاحقة أي دولة. ومع ذلك، تبقى الحقيقة أن هناك سلطة مركزية تُدير التطبيق وتملك القدرة على الإفصاح عن بيانات المستخدمين. هذا يعني أن المستخدمين يعتمدون في النهاية على نزاهة فريق إدارة التطبيق، ويثير ذلك التساؤلات حول إمكانية تعرضهم للضغوط.
صحيح أن تلك النزاهة لا يُمكن تصوُّر وجودها عند أمثال مارك زوكربيرج أو إيلون ماسك، لكن يجب ألا ننسى أن جميع البشر معرضون للضغط بشكل أو بآخر في نهاية المطاف.
وهذا ما حدث بالفعل مع تليجرام. فبعد اعتقال بافيل في فرنسا، أعلنت الشركة عن تحديث لسياسة الخصوصية يسمح بتسليم أرقام الهواتف وعناوين IP للمستخدمين المشتبه بهم في جرائم، إذا تلقّت طلبًا قضائيًا صالحًا من السلطات المختصة. في السابق، لم تكن تليجرام تُسلِّم هذه المعلومات إلا في حالات الإرهاب، لكن السياسة الجديدة توسعت لتشمل أنواعًا أخرى من الجرائم.
لاحقًا، أكدت تليجرام أنها قدمت بيانات مستخدمين للسلطات الأمريكية استجابةً لأكثر من 14 طلبًا قانونيًا هذا العام، مما أدى إلى كشف عناوين IP أو أرقام هواتف لأكثر من 100 مستخدم.
تليجرام ليست المنصّة الوحيدة التي تواجه تحديات متزايدة تتعلق بالخصوصية وحرية التعبير. المنصّات الكبرى مثل فيسبوك وتويتر وجوجل أيضًا غالبًا ما تقدّم تنازلات بخصوص بيانات المستخدمين ومستوى حرية التعبير المتاح عليها، سواء تحت ضغط حكومي أو بدوافع تجارية أو تماشيًا مع الانحيازات السياسية والاقتصادية لملاكها.
الوب.. من اللا مركزية إلى الرقابة على المحتوى
ربما يعتقد البعض أن تطبيقات مثل واتساب وتليجرام كان نتيجة لطفرة حديثة في التكنولوجيا، لكن هذا غير صحيح. في بدايات ظهور الإنترنت، وقبل أن يتركّز المحتوى في بضعة منصات تجمع مئات الملايين من المستخدمين، كانت الأدوات الموجودة الآن متاحة ولكن لا مركزيًا، والجديد هو فقط انتشار الهواتف الذكية.
ربما لا يعرف مهاويس التقنية من مواليد الألفينات أن هناك بروتوكول تواصل لا مركزي يُسمى XMPP لا يزال موجودًا حتى اليوم.
نشأة الوب كطريقة لتبادل المعلومات كانت في الأصل لا مركزية، مما جعل من الصعب على الدول والشركات مراقبة جميع أركانه. كل الأدوات في بداية تطويرها كانت مبنية على انعدام المركزية، حتى استطاعت شركات التقنية الكبرى إنشاء منصات بديلة وفّرت شيئًا جديدًا لم يكن موجودًا من قبل، وهو تسهيل الوصول إلى المحتوى.
عشرون عامًا أو أقل كانت كافية لتمكّن الشركات الكبرى من السيطرة على الوب، وتحويله من ملايين المواقع إلى عدد قليل من الجزر الرقمية التي يتحكم في محتواها بضع مئات من مراقبي المحتوى. لينتهي بنا الحال إلى وجود موظف ناطق بالعربية يعيش في دبلن يراجع منشورات الحاج محمد من شبلنجة، مركز بنها، ليحدد ما إذا كانت تتماشى مع معايير سان فرانسيسكو التحريرية حول معاداة السامية، قبل أن يقرر ما إذا كان حساب الحاج محمد سيستمر على المنصة أو سيتم إغلاقه، ويُنفى إلى حساب جديد فارغ.
هذا يعني أن المستخدم في حالة غلق حسابه، يخسر رأس المال الاجتماعي الذي بناه عبر سنوات من التواصل والتفاعل، بما في ذلك العلاقات الشخصية والمهنية التي شكّلها على المنصة. تتبخر الروابط الاجتماعية بشكل مفاجئ؛ ما يجعل استعادة تلك الشبكات والعلاقات أمرًا صعبًا أو مستحيلًا.
لقد تخفّت تلك المنصّات طوال الأعوام الماضية خلف سياسات الرقابة الخاصة بها، حتى تصدّر إيلون ماسك المشهد باستحواذه على منصّة تويتر. ولحسن الحظ، ينتصر جنون عظمة الرجل على حكمة الشرور الرأسمالية، ليحول المنصة إلى سياسة رقابة الرجل الواحد، إذ حظر عشرات الحسابات فقط لأنها لا تعجبه.
من ثم جاء طوفان الأقصى، وبدأ مناصرو القضية الفلسطينية ينشرون المحتوى على منصات ميتا وتويتر وكأنهم يسيرون على قشر البيض، يحاولون بحذر تجنّب إغلاق حساباتهم باستخدام كل الحيل التقنية المتاحة، بالرغم من أنها غير مُجدية. هذا الواقع جعل الملايين يدركون مدى خطورة تحكُّم هذه المنصّات في وصولهم إلى المعلومات.
العالم قرية صغيرة
أزعم أنني لست شخصًا انعزاليًا، ولا أكره الانفتاح على ثقافات وبلاد مختلفة، لكن تلك الجملة المتكرّرة "العالم قرية صغيرة" ما زالت تثير غيظي. كيف يمكننا تفسير هذه الجملة في سياق وجودي مع شخص فنلندي على نفس منصّة السوشيال ميديا؟ مجتمعاتنا مختلفة، لغاتنا مختلفة، وغالبًا ما تكون تحدياتنا مختلفة أيضًا، حتى لو جمعتنا "مظلة الإنسانية" بشكل أو بآخر. ومع ذلك، تفرض هذه المنصات قواعد موحّدة على الجميع. على منصّة مثل تويتر، نجد شخصًا عنصريًا يحلم بالتحكُّم في العالم مثل شرير في فيلم هوليوودي رخيص، يسيطر على كلماتنا نحن الاثنين.
على المستوى الشخصي، لم أعد قادرًا على تحمل سماجة ذلك الرجل كلما فتحت تويتر؛ فقررت ترك المنصّة والتوجه إلى منصّة غير مركزية وهي ماستودون. ولأن معظم المواقع التي أعتمد عليها للحصول على الأخبار بشكل فوري ليست متاحة بعد على ماستودون، قررت الاعتماد على تقنية قديمة ما زالت متاحة في أغلب المواقع، وهي الـRSS، للوصول إلى منشورات تلك المواقع بدلًا من متابعتها عبر تويتر وفيسبوك. كما أستخدم تطبيقات مثل Element وهو تطبيق مراسلة فورية مبني على بروتوكول ماتركس اللا مركزي.
قد نضطر في المستقبل القريب إلى التنازل عن بعض الرفاهيات التي توفرها منصات السوشال ميديا المركزية مثل فيسبوك وتويتر، للتخلّص من الرقابة. التصالح مع فكرة أن العالم مكوّن من ملايين الجزر الصغيرة اللا مركزية قد يكون أفضل بكثير من محاولة فرض أسطورة الميدان العالمي الذي يجمع كل البشر تحت مظلّة واحدة، تتحكم فيها مجموعة صغيرة من الأفراد، تفصل بيننا وبينهم آلاف الكيلومترات سواء جغرافيًا أو فكريًا.