في السابع من يناير/كانون الثاني، أعلن مارك زوكربيرج، الرئيس التنفيذي لشركة ميتا، عن تغييرات جوهرية في سياسات التحقق من المعلومات على منصتي فيسبوك وإنستجرام. تشمل هذه التغييرات إنهاء برنامج التحقق من المعلومات والأخبار
الذي كان يعتمد على مدققين خارجيين، واستبدال به نظام ملاحظات المجتمع الذي يعتمد على مساهمات المستخدمين.
أثارت هذه الخطوة من شركة ميتا انتقادات واسعة، إذ عدَّها العديد من المحللين مرتبطةً بعودة نفوذ تيار ترامب في الحكومة الأمريكية. يُتهم هذا التيار بمناهضة القيم المتعلقة بالحقائق، وهو اتهام لا يُستثنى منه التيار الديمقراطي الذي يتبنى منهجيات تبدو في ظاهرها أكثر رُقيًا من الأساليب الشعبوية.
لا يبدو أن هذه الخطوات هدفت إلى إرضاء ترامب بقدر استغلال اللحظة لتمرير مشاريع لتلك الشركات
يزعم بعض المحللين أن تلك الخطوة جاءت كجزء من محاولة العديد من المؤسسات الأمريكية التكيف مع تأثيرات وصول دونالد ترامب إلى السلطة. لقد تبرع جيف بيزوس، ملياردير شركة أمازون، بمليون دولار لحفل تنصيب ترامب، وقدّم سام ألتمان، المدير التنفيذي لشركة OpenAI المالكة لتطبيق ChatGPT المبلغ ذاته للمناسبة نفسها.
لا يبدو أن هذه الخطوات هدفت إلى إرضاء ترامب، بقدر ما كانت محاولة لاستغلال اللحظة السياسية المناسبة لتمرير مشاريع كانت مُعطّلة لتلك الشركات. من هنا، يُمكن القول إن ترامب لم يكن الفزاعة لتلك المؤسسات، بل على العكس كان فرصة سانحة لها لتحقيق مكاسب استراتيجية.
ما هي لجان تدقيق المعلومات في فيسبوك؟
التحقق من الأخبار ليس مفهومًا جديدًا في العمل الصحفي أو التقني، فقد بدأت جهود التحقق من الأخبار والبيانات منذ أوائل القرن العشرين. أما في العالم الرقمي، فتعود المحاولات الأولى إلى أوائل الألفية.
توسيع البنية التحتية للتحقق من المعلومات على المستوى العالمي كان ولا يزال يُمثّل تحديًا جوهريًا
ومع ظهور أدلة تؤكد تأثير الأخبار الزائفة على نتائج الانتخابات الأمريكية لعام 2016، تزايدت الضغوط على منصات التواصل الاجتماعي، ما دفع فيسبوك إلى التعاون مع مؤسسات مستقلة لتنقية المحتوى المنشور على منصاته من الأخبار الزائفة.
قبل قرار فيسبوك الأخير، كانت الخوارزميات تعتمد على تحليل المحتوى المنشور، وتحويل الأخبار المشكوك في صحتها إلى المؤسسات المتعاونة. يتحقق صحفيو هذه المؤسسات يدويًا من المحتوى للوصول إلى نسبة محددة من صحة الخبر (لاحظ استخدام مصطلح "نسبة" بدلًا من قرار حاسم مثل "نعم" أو "لا"). بناءً على هذه النسبة، يُتخذ القرار إما بحذف المحتوى، أو تغطيته إذا كان صورة أو فيديو، أو وضع علامة تحذيرية عليه، أو تقليل وصوله/reach على المنصة.
توسيع البنية التحتية للتحقق من المعلومات على المستوى العالمي كان ولا يزال يُمثّل تحديًا جوهريًا. يعزى ذلك إلى غياب الاهتمام الاستراتيجي من قبل المنصات بالدول التي تنشط فيها، فضلًا عن غياب التشريعات المحلية الملزمة التي تفرض إنشاء مثل هذه المنظومات. تضاف إلى ذلك التكاليف المالية المرتفعة والتحديات اللوجستية المعقدة، مما يجعل تنفيذ هذه البرامج مسألة بالغة التعقيد وتستدعي حلولًا تتجاوز النماذج الحالية.
إدراك اللحظة الفارقة
مع صعود تيار ترامب، الذي يُعزى نجاحه إلى دعم قوي من أثرياء صناعة التقنية الجدد مثل إيلون ماسك علنًا وبيتير تييل (صديق نائب ترامب) من خلف الكواليس، أُتيحت فرصة تاريخية لشركات التقنية لإعادة تشكيل البيئة التنظيمية التي تعمل فيها. استغلت هذه الشركات الظرف السياسي للتخلص من القيود المفروضة على منصات التواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي والنشر الرقمي، مع ضمان عدم تدخل السلطة الأمريكية في فرض تشريعات جديدة قد تعوق توسعها.
على الرغم من الترويج لهذا النموذج باعتباره أكثر ديمقراطية فإن التجارب المتراكمة كشفت أنه عرضة للتلاعب
يُمكننا النظر إلى القرار الأخير لفيسبوك على أنه تحوُّل نحو نموذج مستوحى من ممارسات منصة X، وهو نموذج يتميز بخفض التكاليف وزيادة التفاعل بين المستخدمين. هذا التحول اعتمد بشكل أساسي على منهج التعهيد الجماعي/ Crowdsourcing لإشراك المستخدمين في عملية التحقق من المعلومات.
على الرغم من الترويج لهذا النهج باعتباره أكثر ديمقراطية، خصوصًا من قبل أناركيي التكنولوجيا (اليمينيين عادة)، فإن التجارب المتراكمة كشفت أن هذا النموذج عرضة للتلاعب المنهجي، بما يشابه أدوات السيطرة في الديمقراطيات الليبرالية التي تُستخدم فيها الأموال والنفوذ لتوجيه الحملات الانتخابية وخدمة مصالح الطبقات المالكة.
الأخبار كسلعة
المعلومة، كانت ولا تزال، من أكثر السلع تأثيرًا على الاقتصاد وصنع القرار السياسي، مما جعل الهيمنة على وسائل الإعلام محور اهتمام الطبقات الحاكمة عبر التاريخ. منذ انطلاق الصحف الورقية المطبوعة، ومرورًا بظهور الراديو والتليفزيون وقنوات الأقمار الاصطناعية، وصولًا إلى العصر الرقمي الذي يجسده الإنترنت، سعت الأنظمة الحاكمة باستمرار إلى فرض سيطرتها على تدفق المعلومات. ومع تقدم التكنولوجيا وأساليب انتشار البيانات والمعلومات، تطورت كذلك آليات الهيمنة، رغم أن الإنترنت ظاهريًا قد يحتوي درجة أعلى من التعقيد الهيكلي.
شبكات التواصل الاجتماعي منصات لنشر الأخبار والإعلام التقليدي ما زال مصدر الخبر
لكن ومع كل تطور في وسائل انتشار المعلومات، وُجدت محاولات للسيطرة وأخرى للتحرر منها. فمحطات الراديو السرية والجرائد المستقلة كانت أدوات للتحدي في مواجهة السيطرة الإعلامية المركزية. ومع انتشار الإنترنت، كانت صحافة المواطن والمدونات تمثل شكلًا من أشكال التحرر المعلوماتي، لكنها لم تلبث أن انحسرت تحت وطأة شبكات التواصل الاجتماعي المركزية، التي أعادت تشكيل المشهد المعلوماتي وفقًا لمنطق الربحية والسيطرة المركزية.
دور شبكات التواصل الاجتماعي في هذا الطور من الإعلام
يتطلب فهم الدور الذي تلعبه شبكات التواصل الاجتماعي في الإعلام الحديث الفصل بين مصدر الخبر وقنوات انتشاره. على الرغم من الحديث المستمر عن هيمنة هذه الشبكات على الأخبار والحرب القائمة بينها وبين الإعلام التقليدي، فإن هذه الحرب تبدو وهمية إلى حد بعيد. ذلك لأن شبكات التواصل الاجتماعي لا تزال تعمل منصات لنشر الأخبار، في حين يبقى مصدر الأخبار الفعلي هو الإعلام التقليدي مثل وكالات الأنباء والصحف وشبكات التلفزيون.
لكن الحرب الحقيقية تدور حول كيفية الاستفادة من الأخبار، سواء كانت الاستفادة مباشرة عبر أرباح الإعلانات على الجرائد أو التلفزيون أو منصات التواصل الاجتماعي، أو غير مباشرة من خلال تحقيق مكاسب سياسية عبر نشر أخبار داعمة لتيارات معينة أو حجب أخبار أخرى تخدم أهدافًا محددة.
ولكي تتمكن شبكات التواصل الاجتماعي من التفوق على وسائل الإعلام التقليدية في تحقيق الربحية، فإنها تواجه خيارين: الأول هو التحول إلى مصدر أساسي للمعلومات، وهو خيار مكلف ومعقد ويكاد يكون مستحيلًا نظرًا للنطاق العالمي لهذه الشبكات، والخيار الثاني يتمثل في خلق سوق حرة للمعلومات، إذ يُصبح النفوذ الأكبر لمن يمتلك رأس المال الأضخم، مما يتيح له تحديد توجهات السوق على حساب الكفاءة، كما هو الحال في الأسواق الحرة العالمية الأخرى.
وفي غياب الاستقلالية والمصداقية في إنتاج الأخبار ونشرها، يتبقى التحدي الرئيسي للراغبين في التحكم بهذه السوق الحرة، وهو القدرة على التلاعب بخوارزميات هذه المنصات لضمان تحقيق الأهداف المنشودة، سواء كانت اقتصادية أو سياسية.
البروليجاركية الجديدة
لقد برز في الآونة الأخيرة مصطلح Broligarchs لوصف الشخصيات المحيطة بدونالد ترامب، مثل إيلون ماسك، وهو مصطلح أثار فزعي عند قراءته أول مرة لدقته في وصف هذه الظاهرة.
لم تنحسر بعد الأوليجاركية التقليدية حتى ظهرت طبقة جديدة من المليارديرات الرجال المذعورين على ذكورتهم (Bros)، وربما أكثرهم ذعرًا هم مهاويس التكنولوجيا.
الحرب للسيطرة على الأخبار ليست لرغبات ربحية فحسب بل لرغبات شخصية لدى مجموعة المليارديرات الجديدة
لقد عملت في مجال التكنولوجيا لعقدين تقريبًا، وأصبحت على دراية كبيرة بما يُعرف بـTech Bros، الذين يتميزون بهوسهم الشديد بالسيطرة والنجاح بأي ثمن. هذا الهوس، الممزوج بأحلام الديكتاتورية، يتجلى في ألقاب مثل "BDFL" كاختصار لـ Benevolent Dictator For Life، الذي يُمكن ترجمته إلى "الديكتاتور الخيِّر مدى الحياة"، وهو مصطلح يُستخدم لوصف شخصية قيادية تتمتع بسلطة شبه مطلقة ضمن مشروع أو منظمة تقنية، ويُستخدم في مجتمع التقنية بارتياح غير عابئ بدلالاتها.
ولمثل وجود تلك الصفات والطموح الشخصي، لا أستبعد أن الحرب للسيطرة على سوق الأخبار ليست لرغبات ربحية فحسب، بل أيضًا لرغبات شخصية لدى تلك المجموعة الجديدة من المليارديرات، التي تسعى إلى تكريس نفوذ الأفراد في تشكيل الروايات والسياسات العامة.
الآن، تتجه ديناميكيات سوق الأخبار إلى التغير في السنوات المقبلة، مما يتطلب منا كمواطنين الالتزام بمجهود فردي واعٍ في التحقق من الأخبار. يشمل ذلك الاعتماد على منصات مستقلة للتحقق من المعلومات، وتجنب الاعتماد الكلي على شبكات التواصل الاجتماعي المركزية. والأهم من ذلك التزام الحذر في متابعة الشخصيات المؤثرة مثل إيلون ماسك على منصات التواصل، حمايةً لرؤيتنا النقدية ولتجنب الوقوع في فخ التضليل المعلوماتي.