صورة موّلدة بواسطة نموذج الذكاء الإصطناعي DALL-E
كيف يمكن تجاهل هذا التربح الفج من وحدة البشر؟ من بحثهم عن تواصل حقيقي يختنق يومًا بعد يوم؟

اقتصاد الوحدة: كيف تحوّلت مشاعرنا إلى نموذج ربح؟

منشور الثلاثاء 3 يونيو 2025

في الخامس عشر من مارس/آذار  عام 2020، وقبل بدء الإغلاق الرسمي وحظر التجول بسبب جائحة كورونا، انهالت على هاتفي إشعارات من تطبيق فيسبوك تُعلمني بإلغاء عدد كبير من الفعاليات التي كنت أتابعها. في اليوم ذاته، قررت الحكومة تعليق الدراسة لأسبوعين وإلغاء جميع الفعاليات الجماعية في محاولة للحد من انتشار الوباء. ما تلا هذا القرار كان من أكثر الفترات عبثيةً في حياتي.

العزل الاجتماعي والتباعد لم يكونا التزامًا مفروضًا، بل خيار فردي يُمارس حسب القدرة والاقتناع، ولم يكن هناك ضغط حقيقي يفرضه المجتمع أو الدولة. المقاهي أغلقت، لكن التجمعات لم تختفِ، بل انتقلت إلى البيوت، إذ واصل الأصدقاء لقاءاتهم، مع محاولات شكلية للحفاظ على التباعد. وبالطبع، كانت كل إصابة بالفيروس تُنسب إلى خدمة التوصيل، لا إلى تلك السهرات المنزلية.

كان من السهل أن أضع نفسي في موقع المتفوق أخلاقيًا، وأنتقد الآخرين على استهتارهم، أنا من التزم بالبقاء في المنزل شهورًا طويلةً. لكن هذه الصورة اهتزت حين واجهني أحد أقرب أصدقائي باتهام ساخر؛ ربما كنت المستفيد الأول من الجائحة، بل وربما من المتآمرين على خلقها، فقط لأبرر لنفسي قضاء كل هذا الوقت في العزلة دون لوم من أحد.

على الضفة الأخرى من البحر المتوسط، كانت الدول الأوروبية أكثر صرامةً في فرض التباعد والإغلاق، لكنَّ الأثر النفسي هناك بدا أشد وطأة. لستُ متخصصًا في علم النفس، لكنني زرتُ لاحقًا بعض المدن الأوروبية والتقيت أصدقاء عانوا الوحدة القاسية. وجوههم حملت بصمات واضحة من تراجع في مهارات التواصل الاجتماعي، وزيادة مفرطة في تعاطي المخدرات.

لم تكن الجائحة بداية أزمة الوحدة، لكنها كانت أول لحظة أفهم فيها بوضوح أن البشر يحتاجون إلى بعضهم البعض، بقدر حاجتهم إلى الهواء.

الجائحة ليست البداية

يصعب عليَّ كثيرًا إخفاء مشاعري كلما استمعتُ إلى رجل أبيض يتحدث عن معاناته مع الوحدة. أول مرة قرأت فيها عن أزمة الوحدة في الولايات المتحدة، خرج مني رد فعل تلقائي لا يصعب على القارئ تخمين طبيعته. ووفقًا لاستطلاع رأي أجرته الجمعية الأمريكية للصحة النفسية، فإن ثلث الأمريكيين تقريبًا يشعرون بالوحدة.

بالنسبة لشخص مثلي لا يقدّس نموذج الأسرة التقليدية فتعريفي للوحدة لن يشبه تعريف شخصٍ يحلم بتكوين أسرته

أما تقرير Gallup بالتعاون مع شركة ميتا، الذي شمل عددًا كبيرًا من دول العالم (باستثناء الصين)، فأشار إلى أن نحو ربع سكان العالم يعانون شعورًا شديدًا بالوحدة.

لكن كيف نُعرِّف الوحدة أصلًا؟ وهل أسبابها متشابهة في مختلف المجتمعات؟

إذا طرحنا سؤال الشعور بالوحدة على مجموعة من الأفراد، هل نتوقع الحصول على إجابة موحدة؟ ما الذي يجعل شخصًا ما يشعر بالوحدة؟ هل هو غياب الأسرة النووية؟ بالنسبة لشخص مثلي لا يقدّس نموذج الأسرة التقليدية، فتعريفي للوحدة لن يشبه تعريف شخصٍ يحلم بتكوين أسرته.

هل الوحدة نتيجة لهجرة الأصدقاء من بلادنا كلما سنحت الفرصة؟ أم غياب المجال العام والانتماء إلى جماعة، أيًّا كانت طبيعتها؟

هل يشعر الآباء والأمهات بالوحدة حين يغادر أبناؤهم المنزل كما يشعر الأبناء أنفسهم بعد بضع سنوات من الاستقلال؟

هل الشخص المصاب بالرهاب الاجتماعي ويكره التجمعات العامة يشعر بالوحدة أيضًا؟ أم أن عزلته بالنسبة له ملاذ، لا فقدان؟

ربما كان لكلٍّ منا ظلّه الخاص من الوحدة.

كل ما تتزنق اشتم التكنولوجيا

إلقاء اللوم على التكنولوجيا والسوشيال ميديا أصبح الحل السهل الذي يلجأ إليه الكثيرون لتفسير أي ظاهرة اجتماعية جديدة أو اضطراب نفسي.

قد تتحمل هذه المنصات جانبًا من المسؤولية، خصوصًا حين يتعلق الأمر بالفئات العمرية الصغيرة التي لم تطوّر بعد آليات نفسية ناضجة لمواجهة تعقيدات العالم. وشخصيًا، أعتقد أنه من الضروري أن يُمنع الأطفال من استخدام السوشيال ميديا قبل سن السادسة عشرة على الأقل، لكني لا أعتقد أن هذا كافٍ لإدانة التكنولوجيا وحدها، خصوصًا عندما نتحدث عن جيل الألفية/Millennials، الجيل المولود بين حطام الثورات الفاشلة ومشاريع التغيير المجهضة.

هل من المنطقي أن نحمِّل التكنولوجيا مسؤوليةَ تراجع الحياة المكتبية وانتشار العزلة، بينما الأسباب الفعلية تكمن في ضغوط اقتصادية خانقة أجبرت ملايين العمال على العمل من المنزل لتقليل تكلفة المواصلات، في بلدان يمكن أن يتضاعف فيها سعر البنزين أربع مرات خلال عام واحد؟

لا يمكن تبرئة التكنولوجيا بالكامل بطبيعة الحال. فلكل خرابة عفاريتها الرقمية، ولكل تحول تكنولوجي ظلاله، لكن الاختزال في سردية واحدة يعمّق الجهل بدل أن يشرح الواقع.

تسعير محاربة الوحدة

منذ بضعة أسابيع، استخدمت أبليكشن للتعارف، فكرته هي ترتيب عشاء يجمع بين خمسة غرباء، بهدف بناء صداقات جديدة. تكلفة الخدمة منخفضة نسبيًا، وكالعادة في مصر، لا يصعب على أحد العثور على من يستخدم هذه التطبيقات لأغراض عاطفية.

الهدف هو إبقاؤك مستخدمًا.. مشتَرِكًا.. لأطول فترة ممكنة

لم يكن الدافع بحثيًا إطلاقًا، بل مجرد ملل شخصي. ولأكون صادقًا، دخلتُ التجربةَ محمّلًا بتحيزاتي، وخرجت منها بشعور أعظم بالوحدة والانفصال عن مجتمعي.

الآراء التي طرحها الحاضرون حول العلاقات والاقتصاد والنساء كانت منفّرة بشدة، والطريقة التي عُرضت بها على الطاولة لم تزدني إلا شعورًا بالغثيان والانفصال. وقبل أن ينتهي العشاء، راهنت نفسي أن أحدهم سيقترح بيع قناة السويس بالجنيه المصري حلًا لأزمتنا الاقتصادية. ولحسن الحظ خسرت الرهان.

في السنوات الأخيرة، انتشرت العشرات من تطبيقات بناء الصداقات والمواعدة، وأصبح هذا القطاع يدرُّ مليارات الدولارات سنويًا. شركة Match وحدها تجني 4 مليارات دولار سنويًا من الاشتراكات فقط.

نموذج الربح في هذه التطبيقات يقوم على "تسعير الخلاص من الوحدة". الرجال يدفعون مقابل مزيد من الظهور، النساء يدفعن مقابل مزيد من الأمان. لا أحد في الشركة يريدك أن تجد من تبحث عنه سريعًا. الهدف هو إبقاؤك مستخدمًا، مشتَرِكًا، أطول فترة ممكنة.

وربما لذلك، لا يُستغرب أن يشعر الناس بمزيد من العزلة بعد استخدام هذه التطبيقات.

واليوم، يُطلّ علينا عبيط القرية العالمية، مارك زوكربيرج، ليقترح حلًا جديدًا للوحدة: روبوتات، أجل، هذه هي سنوات الذكاء الاصطناعي.

في لقاء حديث، أعلن زوكربيرج أن روبوتات المحادثة التوليدية هي الأمل الأخير في وجه أزمة الوحدة. سأحاول تهذيب لغتي قدر الإمكان في التعليق على هذا الادعاء. وليسامحني الله.

زوكربيرج نفسه يعترف: الروبوتات ليست الحل الأمثل، لكنها ما لدينا. شركات أخرى أيضًا تسير في الطريق ذاته؛ صديق آلي، طبيب نفسي آلي، حبيبة رقمية، وحتى أم افتراضية.

فكرة فقدان والدي تفزعني، لكن فكرة استبدال روبوت به يكرر صوته وتعبيرات وجهه ولمعة عينيه عندما يخبرني قصة لأول مرة؟ تلك فكرة لا أقدر على ابتلاعها.

صحيح أن تسارع التدهور الاجتماعي الذي يُشير إليه الواقع يمكن إرجاعه إلى تسارع الرأسمالية نفسها، وإلى ما وصفه كارل ماركس بـ"الاغتراب"، لكن دعوني أتنفس لحظةً خارج الماركسية. لسنا في وقت تفكيك النظام، بل نحاول النجاة منه.

لكن، كيف يمكن تجاهل هذا التربح الفج من وحدة البشر؟ من بحثهم عن تواصل حقيقي يختنق يومًا بعد يوم؟ وهل ستدفعنا شركات التكنولوجيا الأمريكية إلى مزيد من العزلة، فقط لنجد أنفسنا يومًا ما في سوق "مفتوحة" نشتري منها صديقًا رقميًا باشتراك شهري؟