هل يكون الذكاء الاصطناعي بديل أبي؟
اعتدت منذ سنوات مراهقتي أن أكون حلقة الوصل بين أصدقائي وأبي، عالم الدين الأزهري، عند احتياجهم أي فتوى.
أمضى والدي معظم سنوات عمره، التي تجاوزت السبعين، في تدريس الشريعة بالجامعة. واعتدت دائمًا على الالتحاق بدائرة درسه التي تنعقد عقب صلاة الجمعة.
ولا تزال مشكلة طرحها أحد السائلين عالقةً برأسي؛ رجل طلق زوجته الطلقة الثالثة في لحظة غضب، هل يجوز له ردها أم لا؟ وكيف حاول أبي حل مشكلة السائل بمراجعة كل الظروف والسياقات والأحداث قبل أن يصدر فتواه.
تذكرت هذه المشكلة مؤخرًا عندما اتصل بي صديق قديم من أجل التواصل مع أبي لطلب فتوى ما، ضحكت من الطلب الذي لم يصلني منذ سنوات وأخبرته أن الوالد ليس في أفضل حال، وربما عليه اللجوء إلى ChatGPT.
الذكاء المفكر
لم يتطور الذكاء الاصطناعي حديثًا أو بصورة مفاجئة، عرفته في الجامعة منذ ما يزيد عن العشرين سنة، خلال دراستي علوم الحاسب الآلي، فما الجديد الآن؟ ولماذا أثار ChatGPT ومنافسه Bard من شركة جوجل هذه الضجة في الأشهر الماضية؟
يعتمد ChatGPT وBard في بنيتهما الأساسية على تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التوليدي/Generative AI، وهي فرع حديث نوعًا ما، قادرة على توليد النصوص بسرعة فائقة، ليبدو الأمر بالفعل وكأنها "تفكر" لتُنتج المحتوى.
دون الدخول في تفاصيل تقنية مطولة، وبتسبيط قد يبدو مخلًا للتقنيين، تقوم برمجيات الذكاء الصناعي التوليدي على دراسة كمية ضخمة من البيانات الرقمية (المصطلح التقني هو Training)، وبناءً على تلك الدراسة يصبح بإمكانها "فهم" تلك النصوص، بالتالي "إدراك" الأسئلة الموجهة إليها، ثم توليد إجابة بناء على ما تعلمته من دراستها.
ربما يبدو ذلك للوهلة الأولى قريبًا مما تفعله محركات البحث التقليدية، والحقيقة أن ما تفعله ليس بعيدًا عنها بالفعل، فإذا اعتبرنا الويب أكبر مصدر للبيانات الرقمية في تاريخ البشرية، فبإمكان الإنسان أن يفعل ما يفعله ChatGPT، لكن الفارق أن الأخير سيكتب إجابة السؤال في ثوانٍ، بينما سيحتاج الإنسان ساعات طويلة من البحث.
جرب مثلًا أن تعرف ما هي شركات النقل البحري التي كانت تنقل الركاب بين الإسكندرية ومارسيليا سنة 1950. ستحتاج إلى الغوص في عشرات المواقع ومراسلة العديد من سجلات الأرشفة العالمية لتصل إلى تلك المعلومة، بينما سيقوم أي من روبوتات الذكاء الاصطناعي بإجابتك فورًا.
المفتي الآلي
إذا مددنا الخط على استقامته، هل تستطيع تلك البرمجيات أن تتعامل مع ما هو أعقد من البحث، أي أن تُشخّص مرضًا اعتمادًا على أعراض الألم ثم تصف الدواء، أو أن نسألها طالبين الفتوى، بدلًا من اصطياد أبي بعد صلاة المغرب في المسجد؟
ربما لن تكون إجابة ChatGPT على سؤالي ذلك في غاية الدقة وربما سوف يهلوس تمامًا إن طلبت منه فتوى أكثر تعقيدًا، وهذا لأن التقنية لا تزال قيد التطوير.
بل وإن طرحها للجمهور كان غرضه الأساسي التجريب للوصول إلى الأخطاء الموجودة بها ومعالجتها. إلى جانب أن ChatGPT لم يُبن للبحث عن الفتاوى الدينية، ولكن تخيل معي التجربة التالية، ماذا لو قمنا ببناء مفتٍ آلي MuftiPT؟
سنبني برمجية ذكاء صناعي توليدي وسندربها على كل نصوص الشريعة الإسلامية المتاحة: القرآن، الكتب الستة، التفاسير، كتب الفتاوى، الموسوعة الفقهية، إلخ إلخ إلخ.
ولضمان الحصول على أكبر عدد من المستخدمين سنصدر أكثر من نسخة من المفتي الآلي، شيعية وسنية وأشعرية وسلفية، وهكذا. ما يتطلب توفير مواد أكثر للدراسة، ويطيل المدة التي يحتاجها المفتي الآلي للانتهاء من بحثه أيضًا.
هل سينخفض رأس المال الاجتماعي لرجال الدين في مجتمع محافظ متدين بعد وجود المفتي الآلي
حسنًا، لنتجاوز تلك العقبة لنقابل أخرى، سنحتاج إلى إضافة مزيد من الخوادم المتاحة للاستخدام. فعملية الدراسة ليست بسيطة أو سريعة وتحتاج لطاقة حاسوبية كبيرة، ليست متاحة لمستخدمي الكمبيوتر المنزليين بل وليست متاحة عند مطوري البرمجيات.
لكن يمكن تأجيرها من مقدمي خدمات متخصصين، يوجد بعض منهم في بلادنا العربية، لكن أكبر مزوديها شركات عالمية كبرى مثل أمازون وجوجل وعلي بابا قادرة على بناء مراكز بيانات تكلفة الواحد منها تصل إلى مئات الملايين من الدولارات.
ولضمان استمرار عمل المفتي الإلكتروني، وحرصًا على عدم تعرضه لأي أزمة نتيجة انقطاع التيار الكهربائي عنه، سيكون علينا إذن شراء اشتراك في منصة جوجل للحوسبة السحابية.
دفع اشتراك المنصة لا بد أن يكون بالدولار، وفي ظل أزمة العملة الطاحنة التي تمر بها مصر، من المنطقي أن نطلب مقابلًا ماديًا للفتوى حتى نستطيع دفع فاتورة جوجل، ويستحسن تحصيلها بالدولار أيضًا.
يبدو أن المفتي الآلي سيواجه الكثير من المصاعب، بالرغم من أن تقنية بنائه ليست سرًا حربيًا يصعب الحصول عليها، بل متاحة لمطوري البرمجيات حول العالم، لكنها في الوقت نفسه تحتاج إلى بنية تحتية ضخمة وتمويل ليس بالقليل أبدًا. تجعل إدارتها عبئًا ماديًا ضخمًا.
تمتلئ الإنترنت بكثير من المقالات والتحليلات التي تتناول تأثير الطفرة الأخيرة في الذكاء الاصطناعي على البشرية، لكن معظمها يأتي من دول الشمال، موجهة لمجتمعاتها صاحبة الرأسماليات المتطورة.
العقبات أمام الجنوب
لست بصدد تتبع نفس خطوط النقاش، ربما نعيش يومًا ما مشكلات العالم الأول، لكن معظمها لا دخل له على الإطلاق بمجتمعات دول الجنوب. أمور مثل فقدان وظائف الياقة البيضاء، والانحياز العنصري للبرمجيات، والخوف الأكبر من وصول الذكاء الاصطناعي للوعي وإدراك خطورة البشرية عليه وعلى الكوكب، إلخ إلخ.. لا تقترب من التحديات التي نعيشها، وإن كان البحث فيها وتأملها مهمًا باعتبارها أمورًا تواجهها البشرية ككل. حال لم نكن أطرافًا من الدرجة الأولى في تلك الأسئلة، فلنفكر على الأقل في مساحة تأثيرها علينا.
لا أحاول اللجوء هنا إلى تبسيط هزلي، ينتهي بإجابة سهلة ترى الأمر كله محصورًا في كوننا مجتمعات "متخلفة"، يصعب على الذكاء الاصطناعي التعامل معها. إذ يمكن نقل المعرفة التقنية عبر كليات الحاسب الآلي والمبادرات الحكومية لتوطين الذكاء الاصطناعي، مثلما حدث مع توطين صناعة البرمجيات خلال الثلاثين سنة الماضية. ولكن ستبقى هناك عوائق، إذ إن تبني هذه التقنيات يقضي على العديد من الوظائف في بلاد معدلات الدخل بها متدنية مثل مصر.
كفة الميزان التجاري في هذا المجال ليست في صالحنا بالمرة
الخطر الأكبر على الوظائف وصل بالفعل منذ سنوات طويلة، كما حدث في صناعة الأثاث بدمياط مع استخدام الميكنة بديلًا عن العمالة الماهرة. بل أزعم أن الذكاء الاصطناعي التوليدي ليس سوى مرحلة جديدة لإشكالية الميكنة التاريخية وتأثيرها على المجتمع.
رغم التطور التكنولوجي المستمر في القرن العشرين، ظلت هناك وظائف غير قابلة للميكنة، ما أعطى للعاملين بها قوة للضغط في مواجهة الدولة وأصحاب رؤوس الأموال. وذلك لصعوبة تدريب بدلاء في مجالات الطب، والهندسة، والبحث العلمي، وتطوير البرمجيات، والكتابة الإبداعية. مع هذه الطفرة في الذكاء الاصطناعي عاد السؤال مرة أخرى، أي من تلك الوظائف يمكن ميكنتها أو على الأقل توفير أداة تسهل عمل الموظفين وبالتالي تقلل الاحتياج لأعداد كبيرة منهم؟
لنأخذ الطب مثالًا، ماذا لو استخدم مستشفى ما برمجية ذكاء اصطناعي لفحص كل صور الأشعة والتحاليل المرسلة إليه لتحديد التشخيص الأولي للمريض قبل توجيهه لاستشاري بالاختصاص الذي يحتاجه؟ بالطبع سوف ينتج عن هذا خفض عدد الأطباء تحت التدريب الذي يحتاج إليهم الاستشاري والمستشفى، ولكنه لن يقضي على وظيفة الطبيب المتدرب كليًا. فهل نستطيع التفاؤل بأن أزمة نقص عدد الأطباء في طريقها للحل في مصر؟
بدأ توطين صناعة البرمجيات في مصر منذ عقود، ولكن إلى الآن لا تزال البنية التحتية للاتصالات والحوسبة السحابية بدائية، ما يجعلنا في حاجة لتقنيات متوفرة فقط في بلاد الشمال، ويجعل كفة الميزان التجاري في هذا المجال ليست في صالحنا بالمرة.
لا يبدو ذلك عمليًا بسبب التبعية الاقتصادية والتكنولوجية لدول الشمال، لذا من البديهي أن تشتري مستشفيات إنجلترا أو أمريكا مثل تلك البرمجيات بغض النظر عن التكلفة المادية المرتفعة، بينما سيصبح الأكثر جدوى لمستشفى بالقاهرة هو تعيين المزيد من الأطباء فالتكلفة أقل.
وهو ما يطرح السؤال؛ ما نسبة التوطين الممكن الوصول لها قبل أن يبدأ الصدام مع براءات الاختراع الخاصة بالذكاء الاصطناعي الممنوحة في دولها الأصلية؟ مع الوضع في الاعتبار أن دولة مثل مصر ليست لديها القدرة على تحدي قوانين براءات الاختراع كما تفعل الصين.
لتلك الأسباب أزعم أن الأثر المباشر سيظهر في مجتمعات دول الرفاه، حيث أصبحت حقوق العمال عبئًا ثقيلًا على كاهل الحكومات، تحاول تيارات اليمين طوال الوقت التخلص منه.
بالطبع لن تُحرم مصر من الطفرة التكنولوجية، ربما لسد بعض العجز في المهن التي تعاني من هجرة الخبرات للخارج بكثافة في العشر سنوات الماضية مثل الأطباء ومهندسي البرمجيات. ولكنه سيظل نتيجة ثانوية لما يحدث في دول الشمال.
أضرار جانبية
مع كل الآثار الاقتصادية السلبية والإيجابية المحتملة يظل شاغلي الأكبر هو الأثر الاجتماعي، هل ستواجه هذه التقنيات صعوبات مجتمعية كرفض أي مسلم متدين استخدام المفتي الآلي بدلًا من اللجوء لشيخ مسجده؟ أم إذا استطاع أحدٌ ما بالفعل بناء المفتي الآلي وانتشر استخدامه فهل سينخفض رأس المال الاجتماعي لرجال الدين في مجتمع محافظ متدين؟ لنذهب أبعد من ذلك؛ ما أثر سهولة الوصول المتزايدة لأدوات الذكاء الاصطناعي التي تتيح تزييف الأصوات والفيديوهات على أمان النساء في مجتمعات ينتشر فيها العنف المنزلي وجرائم الشرف؟
عندما شاهدت أول فيديو معدل بتقنية Deep Fake منذ خمس سنوات أو أكثر شعرت بالذعر لمجرد تخيل إذا ما أصبح تعديل هذه الفيديوهات أمرًا سهلًا.
عدد جرائم الشرف التي قد تحدث، إذا ما أصبح بإمكان الواد أيمن ابن أحلام كراوية تعديل فيديوهات أو أصوات مكالمات بسهولة في السايبر، إذا ما استطاع باستخدام إحدى أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي خلق صور أو فيديوهات مركبة لجارته أو زميلته بالدرس؟
لن أنكر حماسي للطفرات التكنولوجية بحكم عملي مطور برمجيات وحبي الشديد للتقنية. وأكاد أجزم أن تأثيرات كبيرة قادمة على العديد من الصناعات، وبالتالي على أنماط الإنتاج بسبب الذكاء الاصطناعي، لكن هذا التغيير لن يكون جذريًا أو سريعًا، وبالرغم من هذا يجب علينا أن ندير حوارًا خاصًا بسياقنا المحلي، وكيفية تأثير تلك الطفرة القادمة على مجتمعاتنا من وجهة نظر واقعنا نحن.