صورة موّلدة بواسطة نموذج الذكاء الإصطناعي DALL-E
لماذا لا تكفي مناشدات تحسين السلوك مع عمالقة التكنولوجيا؟

التقنية سلاحًا.. عن مايكروسوفت وأخواتها وإبادة الفلسطينيين

منشور الأحد 28 أيلول/سبتمبر 2025

مؤخرًا أعلنت مايكروسوفت تعطيل عدد من خدماتها عن وحدة عسكرية إسرائيلية بعد تحقيق داخلي بخصوص استخدام منصتها السحابية في رقابة جماعية واسعة؛ خطوةٌ لافتةٌ كشفت حجم تأثير منظمات المجتمع المدني والصحافة الاستقصائية المستقلة والتضامن العمالي في مواجهة القمع، لكنها أظهرتْ أيضًا مدى هشاشة التصوّر الذي يختزل المواجهة في إيقاف خدمة هنا أو هناك، بينما يبقى البناء القمعي الأكبر قائمًا ومتجددًا.

في كل مرة تنفجر فيها فضيحةٌ مرتبطةٌ باستخدام التقنيات الرقمية في الحرب أو القمع، تتدفّق الدعوات إلى تحسين السلوك أو إيقاف خدمة بعينها. غير أنّ هذه المطالب، على أهميتها، غالبًا ما تعالج الأعراض ولا تمسّ المرض نفسه. فالعلاقة بين رأس المال التكنولوجي ومشاريع الاستعمار والقمع متجذّرة، فالسحابة والخوارزميات والبنى التحتية للبيانات جزء أصيل من آلة السيطرة الحديثة. 

من "مزوّد خدمة" إلى "بنية قمع"

من الخطأ التعامل مع شركات التكنولوجيا الكبرى باعتبارها مجرد مزوّد خدمة يمكن الضغط عليه لإيقاف عميل أو تعليق صفقة، لأن واقع الحال أن هذه الشركات تبني وتملك طبقات كاملة من البنية التحتية التي تعتمد عليها الجيوش وأجهزة الأمن في أعمالها اليومية، بداية من الخوادم ومعالجات الرسوميات/GPU والتخزين والشبكات وحتى السحابة والبيانات ونماذج الذكاء الاصطناعي والخوارزميات وأنظمة الاستهداف والتتبّع واللوجستيات والاتصالات على الأرض.

هذه الأدوات تخدم القمع والإبادة وتتداخل معهما عضويًا، وحين ندعو لإيقاف خدمة معيّنة، تستطيع الشركة نقل العمل إلى مسار آخر داخل الشبكة نفسها، أو إلى مقاول ثانوي، أو حساب حكومي مختلف، من دون المساس بالهيكل الربحي والعلاقات الاقتصادية والتقنية والقانونية التي تخدم الاستخدام القمعي وتعيد تدويره عبر قنوات بديلة كلما تعرّضت إحداها لفضيحة أو لضغط.

حين أعلنت مايكروسوفت تعطيل بعض خدماتها عن وحدة عسكرية إسرائيلية على خلفية استخدامات للمراقبة الجماعية، كان ذلك مثالًا نموذجيًا لقدرة النظام على امتصاص الضغط بتنازل محدود. فقد ظلّت الشراكات الأوسع مع مؤسسات أخرى واستمرت خدمات سحابية وأمنية أخرى في العمل، بما يُظهر أن التعطيل الجزئي، وإن كان مهمًا سياسيًا، لا يبدّل من حقيقة الاعتماد على الشركة وبنيتها وشركائها.

كما أن مايكروسوفت ليست الوحيدة التي تقدم الدعم للكيان في حرب الإبادة؛ فمشروع نيمبوس، وهو شراكة بين إسرائيل وشركات كبرى مثل جوجل وأمازون لتقديم خدمات سحابية وذكاء اصطناعي للجيش والحكومة يبين مدى تحوّل العقود السحابية إلى شريك مباشر في منظومة الاحتلال، إذ تُسخِّر الذكاء الاصطناعي لخدمتهما.

ويكشف برنامج لافندر، وهو نظام إسرائيلي يعتمد على الذكاء الاصطناعي لتوليد قوائم بشرية للاستهداف العسكري آليًا كيف تصبح حياة البشر  بيانات تُعالج آليًا بنماذج ضخمة قليلة التدخل البشري وتُنتج قوائم أهداف بسرعة هائلة، لتجعل السحابة أداة توسّع لعمليات كانت تحتاج زمنًا وموارد ومراجعة بشرية عميقة.

وفي الضفة الغربية تستخدم تقنيات التعرف على الوجوه، ليصبح الفضاء العام نقاطَ تفتيش خوارزمية دائمة، حيث تُلتقط الصور وتُفهرس وتستدعى فورًا لإعطاء إشعارات تحدد الإجراء المناسب من وجهة نظر سلطة الاحتلال في لحظة، وكل ذلك قائم على قوة التخزين والمعالجة الهائلة وتكامل البيانات الذي يجعل التقنية بنية قمعية متجذّرة.

السحابة والذكاء الاصطناعي

ة، باعتبارها بنية تكنولوجية وركيزة أساسية في مشروع السيطرة الاستعمارية والإبادة، تجعل السحابة والذكاء الاصطناعي والتقنيات الحديثة القمع والقتل والإبادة أرخص وأوسع وأكثر فاعلية، وتصبح الحرب على البشر عملية مُبسَّطة وسريعة، وهو ما يجعل هذه الشركات شريكة ووجودها ليس مجرد نشاط تجاري عارض.

تقلص السحابة والذكاء الاصطناعي بشكل حاد تكاليفَ بناء وإدارة منظومات الاحتلال والقمع؛ لم يعد لازمًا للجيوش وأجهزة الأمن إنشاء مراكز خاصة لبياناتها أو شراء عتاد ضخم ومكلف، يكفيها استئجار قدرة حوسبية هائلة وتخزين بلا حدود تقريبًا وتشغيل نماذج معقّدة جاهزة، ما يزيل الحواجز المالية والتنظيمية التي كانت تبطئ من توسّع المراقبة والاستهداف. ومع هذا الانخفاض في التكلفة، تصبح عمليات التجسس الجماعي، والتحليل الفوري للبيانات، والاستهداف العسكري، ممكنة على نطاق لم يكن متاحًا من قبل.

إلى جانب ذلك، تسمح التقنيات بالانتشار السريع والمرن عبر الحدود والجغرافيا، بحيث يمكن نسخ منظومة مراقبة أو استهداف وتشغيلها في عشرات المواقع وإدارتها من مركز واحد، مما يجعل الالتفاف على أي حظر قانوني أو إيقاف جزئي أمرًا بسيطًا. وحين تتكامل هذه القدرة مع الأقمار الاصطناعية ومصادر البيانات الجيوفضائية تتحول الصور الخام إلى أوامر عملياتية في ثوانٍ، فتُختزل دورة القرار العسكري والأمني إلى لحظات قليلة.

الأخطر أن التقنيات الحديثة أزالت المسافة الأخلاقية في اتخاذ القرار. عمليات فرز الهويات واختيار الأهداف أصبحت تُدار بخوارزميات ضخمة تتعامل مع البشر كمتغيرات في معادلة تنتج يوميًا مئات أو آلاف الأسماء الجاهزة للملاحقة أو القتل بتدخل بشري محدود وشكلي. 

فشل الحلول الإصلاحية 

حين تنكشف ممارسة قمعية مدعومة بالتقنية، يبدأ النظام دورة مألوفة من امتصاص الضغط؛ تنطلق الفضيحة ويتلوها اعتذار أو إعلان عن مراجعة داخلية، ثم يصدر قرار بتنازل محدود مثل تعطيل خدمة لجهة بعينها أو إنهاء عقد فرعي أو تغيير اسم مشروع، ثم يستمر العمل عبر قنوات بديلة. تعاد هيكلة التعاقد، أو يُنقل عبء المعالجة إلى مقاول ثالث، أو يُجزّأ الحل إلى خدمات أصغر لا تجذب الانتباه الجماهيري. 

هكذا تتشكل آلية ذاتية لإعادة التموضع تسمح للنظام بأن يواصل العمل مع الحد الأدنى من التعديلات الشكلية، وأن يقدّم نفسه باعتباره "مسؤولًا" و"يتعلم من الأخطاء".

هذه الدورة لن تُفهم إن لم نضعها في إطار المنافسة على عقود الدولة والدفاع، فالشركات التي تتنافس في أسواق ذات هامش ربح مرتفع، وتعتمد على علاقات طويلة الأجل مع الجهات السيادية، تميل إلى تبنّي مبادئ أخلاقية مرنة يمكن تعديلها عند الحاجة لكي لا تُفوت فرصًا تجاريةً كبيرة. 

لذا كثيرًا ما رأينا مبادئ للذكاء الاصطناعي تُعلن ثم تُصرّف في التطبيق على نحو لا يغيّر شيئًا من البنية، إلى أن يعاد تحديثها أو تجميدها تبعًا لمقتضيات السوق. ومغزى ذلك أن المبادئ والأخلاق التي لا تُترجم إلى قاعدة مُلزِمة تظل قابلة للامتصاص ضمن الدورة نفسها، وتتحول من رادع إلى أداة علاقات عامة.

صحيح أنه يمكن إيقاف منتج أو تعطيل ميزة عبر آليات الضغط والتضامن المتاحة، لكن إن لم تمسّ السياسات الملكية وآليات الربح، سيعاد تدوير المنتج في مسار آخر داخل النظام نفسه، أو تصبح "المصلحة العامة"، كما تصوغها الدول والشركات، الإطار الذي تعاد داخله صياغة أي تحفظات أخلاقية، أو تفشل الجهود مع إفراطها في التخصيص، فتلاحق واقعة محددة أو تقنية بعينها، وتترك الشبكة الواسعة التي تغذي ذلك على حالها. فالضغط الأخلاقي يُنتج بيانًا أو تسويةً، لكن توازن القوى يبقى كما هو لأن قواعد التعاقد والملكية والإنفاذ لم تتغيّر.

المطلوب، إذن، هو نقل المعركة إلى مستوى القواعد التي تجعل الخدمة جزءًا من هيمنة أوسع، وهذا يستدعي أدوات وخطابات جديدة تستدعي خيالًا يرى التقنية منتجًا اجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا، لا مجرد حيّز تقني يمكن تلطيفه بنوايا حسنة.

مساءلة للمنظومة

حين نعود إلى إعلان مايكروسوفت تعطيل خدمة عن وحدة عسكرية، سنجد أن الضغط العام والاحتجاج العمالي وجهود منظمات المجتمع المدني والإعلام الاستقصائي قادرة على انتزاع تنازلات وعلى فتح ثغرات في سردية الحياد التقني.

لكن إذا لم تتطور هذه الضغوط إلى قواعد تضمن استبعاد الاستخدام القمعي للتقنية، وضمان حق المهندسين والمبرمجين في رفض العمل على مشاريع قمعية أو استعمارية، وتفكيك الاحتكار وبناء بدائل، وحوكمة ديمقراطية للبيانات وإلزام الشركات بالكشف الكامل عن بنود استخدام السحابة والذكاء الاصطناعي في الأغراض العسكرية أو الأمنية، سنواجه الأزمات نفسها مع كل مشكلة جديدة. 

وإذا أردنا أن نحد فعليًا من قدرة الاحتلال والقمع على الاستفادة من السحابة والخوارزميات، علينا أن ننقل المعركة من لغة الآداب المهنية إلى لغة توزيع القوة؛ من مناشدة المدير التنفيذي إلى مناهضة منظومة الاحتكار والتعاقد، ومن مطالب "أغلقوا هذا الحساب" أو "أوقفوا هذه الصفقة" إلى مطالب "غيّروا قواعد الملكية والشفافية والحوكمة".

لقد أثبتت فضائح السنوات الأخيرة أن الخوارزمية ليست معادلةً حسابيةً بريئةً، إنما قرار سياسي كامل، يُموَّل ويُصاغ ويُدار لخدمة مصالح اقتصادية وأمنية محددة. هي نتاج اختيارات بشرية تحدد ما يُجمع من بيانات، وكيف تُحلَّل، ولأي غاية تُستخدم، ما يجعلها أداة سلطة وهيمنة وإبادة وليست عملية تقنية محايدة.