تصوير سالم الريس لـ المنصة
نزوح مئات العائلات من مدينة رفح بعد إصدار جيش الاحتلال أوامر إخلاء للمدينة بالكامل، 31 مارس 2025

غزاويون في مصر.. طريق العودة مفروش بالآلام

منشور الأربعاء 15 تشرين الأول/أكتوبر 2025

"سأبدأ من الآن ترتيب إجراءات عودتي إلى غزة بمجرد فتح معبر رفح أبوابه أمام الأفراد"، يقول الصحفي الفلسطيني محمود فودة الذي غادر القطاع رفقة أسرته صوب القاهرة في مطلع 2024، بعد توسع نطاق الحرب داخل القطاع وتفاقم الأزمة الإنسانية.

يدرك فودة أن منزله الذي أنفق آلاف الدولارات لتأسيسه في مدينة رفح المتاخمة للحدود المصرية دُمر بشكل كامل، وتحولت المنطقة التي يقطنها إلى أكوام من الأنقاض، لكنه لا يطيق الانتظار للعودة إلى غزة من جديد، إذ كانت هذه هي المرة الأولى التي يغادر فيها المكان الذي عاش فيه كل حياته، كما يؤكد لـ المنصة.

ما إن توقَّفتْ آلة الحرب في غزة، بموجب اتفاقية وقف إطلاق النار التي وُقعت في مدينة شرم الشيخ بين إسرائيل وحماس وبإشراف الوسطاء، حتى بدأ الحديث عن مصير الفلسطينيين الذين غادروا إلى مصر، وتصل أعدادهم إلى نحو 110 آلاف وفق تقديرات رسمية فلسطينية.

بدا الاتفاق بارقة أمل للبعضِ يمنّون أنفسهم بعودة سريعة لوطنهم، حتى لو كان مدمرًا ويفتقد مقومات الحياة الأساسية ويحتاج لسنوات من الإعمار، في حين لا يضع آخرون العودة القريبة إلى القطاع ضمن أولوياته في ظل غياب المأوى والخدمات.

العودة حلم النازحين

تتضمن المرحلة الأولى لوقف إطلاق النار فتح معبر رفح أمام حركة الأفراد إلى جانب البضائع من الجانبين المصري والفلسطيني، تحت إشراف بعثة الاتحاد الأوروبي للمساعدة الحدودية وبمشاركة عناصر شرطة من دول أوروبية.

تصاعد موجات النزوح إلى الجنوب نتيجة اشتداد القصف في مدينة غزة، 17 سبتمبر 2025

وهو ما ينتظره فودة الذي يعمل مراسلًا صحفيًا لإحدى القنوات العربية، على أحر من الجمر، غير عابئ بإهدار عام دراسي على أبنائه الثلاثة الذين ألحقهم بمدارس حكومية في المرحلة الابتدائية في مدينة بدر، شرق القاهرة.

"رحلتنا إلى مصر كانت مؤقتة" يقول فودة ويشدد على أنهم لم يخططوا أبدًا لأن تكون دائمة "حتى لو كانت عودتنا لغزة محفوفة بالمخاطر وتنتظرنا صعاب كثيرة لكن لا شيء يضاهي الرجوع إلى الأرض التي ولدنا عليها".

يقدِّر السفير الفلسطيني بالقاهرة دياب اللوح أعداد الفلسطينيين الذين دخلوا مصر منذ بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة بـ110 آلاف مواطن فلسطيني، مبينًا أن جميع من خرجوا كانوا إما لتلقي العلاج، أو من أجل استكمال رحلتهم التعليمية في المدارس والجامعات المصرية.

يشير السفير إلى أن 28 ألفًا من الفلسطينيين حاملي الجنسيات المزدوجة غادروا مصر إلى دول أخرى كانوا يعملون فيها قبل الحرب، إضافة إلى عدة آلاف سافروا لتلقي العلاج في دول أخرى، مما يرفع عدد المغادرين إلى نحو 30 ألف شخص تقريبًا.

لا بديل عن غزة

غادرت أم فتحي القطاع في رحلة علاج إلى القاهرة، كانت تنوي خلالها التبرع بإحدى كليتيها إنقاذًا لأختها التي تعاني من متاعب صحية متقدمة.

لكن الأرملة الفلسطينية لم تنجز ما غادرت القطاع من أجله، إذ خاضت رحلة طويلة من الفحوصات الطبية دون إجراء عملية نقل الكلى حتى الآن لإنقاذ حياة شقيقتها، في وقت تواجه صعوبة في تدبير أمور معيشتها مع زيادة أعبائها بالتحاق ابنتها بمدرسة تقع على بعد عدة كيلومترات عن المكان الذي تقيم به.

الأخبار الواردة من غزة لا تشي باستقرار الأوضاع الأمنية

إضافة لهذا تقطعت السبل بأم فتحي مع أبنائها الذين عانوا ويلات الحرب ونزحوا من منزلهم وسط القطاع إلى جنوبه في خانيونس، ولا تزال حتى الآن عالقة بالقاهرة بين أمل العودة إلى أبنائها والظروف الصعبة التي رافقت رحلتها إلى مصر.

"أولادي الأربعة استقروا في خيمة بخانيونس لم أتواصل معهم منذ أكثر من شهر لعدم امتلاكهم موبايل، وأعيش مع ابنتي التي التحقت بإحدى المدارس الأزهرية الابتدائية، أعيش على أمل رؤيتهم مجددًا إما في غزة أو القاهرة"؛ تغالب أم فتحي دموعها وهي تحكي لـ المنصة.

غزييون يغادرون القاهرة إلى معبر رفح بمساعدة السفارة الفلسطينية، 26 مارس 2024

"الكل ينتظر العودة إلى غزة بفارغ الصبر، لكن عند تثبيت وقف إطلاق النار واستتباب الأمن في القطاع" يتحدث الفلسطيني الخمسيني أبو مصباح مصلح لـ ـالمنصة، فهو الآخر يترقب كآلاف الغزيين الخطوات التالية لوقف إطلاق النار في ضوء الخطة الأميركية، التي تتضمن إزاحة حماس من إدارة القطاع مع استبدال إدارة انتقالية بها تحت إشراف الرئيس الأميركي دونالد ترمب، ونشر قوات دولية تضمن حفظ الأمن وتثبيت اتفاق وقف إطلاق النار.

لكن الصورة لا تزال ضبابية عند مصلح، فالأخبار الواردة من غزة بعد وقف الحرب لا تشي باستقرار الأوضاع الأمنية، حيث اندلعت اشتباكات بين عناصر أمن تابعة لحركة حماس وبعض العشائر الفلسطينية التي تتهمها الحركة بالتعاون مع إسرائيل وسرقة شاحنات المساعدات، كما لا توجد آلية واضحة لعمل معبر رفح والإجراءات المتبعة لاستقبال الغزيين الراغبين في العودة.

مصلح غادر غزة قبل نهاية عام 2023، بعدما طالت آلة القصف الإسرائيلية منزله الواقع بمحافظة الوسطى، ليستقر طوال هذه الفترة مع أبنائه التسعة في حي إمبابة، بمحافظة الجيزة، وينخرطون في مهن مختلفة فابنته تعمل بمجال التمريض وابنه البِكر يواصل دراساته العليا بجامعة القاهرة فيما دمجت السفارة الفلسطينية بالقاهرة صغاره بالتعليم الإلكتروني في الضفة الغربية.

ورغم استقرار أوضاعهم نسبيًا في مصر فإن التفكير في العودة إلى غزة لم يغادر مخيلة مصلح قط، "لا غنى عن الوطن سنعود حتمًا مهما كان حجم الدمار حتى لو نعيش في خيمة وسط أهلنا وأحبائنا".

عودة مشروطة

غير أن العودة إلى القطاع المنكوب في ظل انهيار بنيته التحتية وتشرد مئات الآلاف في خيام غير صالحة للعيش مع الدمار الكبير الذي لحق بالمؤسسات التعليمية فكرةٌ لا تروق لآخرين حتى الآن في ظل التقديرات المصرية بحاجة القطاع إلى 3 سنوات على الأقل لإعادة إعماره.

"الخارج مولود والداخل مفقود، كيف أعود بصغاري لأعيش في مكان ليس به طعام ولا كهرباء ولا مستشفيات ولا مدارس" تقول دينا علي، أم الطفلين التي تنحدر عائلتها من مدينة غزة التي تعرضت لدمار واسع ومسحت أحياء كاملة منها بفعل آلة الحرب.

اختلطت المشاعر  بين الفرح بوقف الحرب والصدمة مما خلفته

انتقلت دينا رفقة زوجها وطفليهما إلى القاهرة في منتصف 2024، بعد تدمير منزلها وخسارة عائلتها مصدر دخلها من صناعة الملابس، وبينما حاولت استنئاف نشاطها في مصر في مشروعات أقامها الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية، فإنها اضطرت لاحقًا لإيقاف مشروعها لعدم تحقيق أرباح تعوض تكاليف تشغيله، في وقت تعتمد بشكل رئيسي على مدخراتها التي تمكنت من الخروج بها من غزة.  

"لن أعود قبل أن أراها تصلح للحياة على الأقل"؛ بسريان اتفاق وقف النار، اختلطت مشاعر دينا بين الفرحة والصدمة؛ ولكن السعادة بتوقف الحرب لم تُنسها أن عائلتها النازحة من مدينة غزة إلى خانيونس جنوبي قطاع غزة، تعيش بلا مأوى، وهو ما لا يغيب عن ذهنها كلما فكرت في الرجوع.

لا يختلف موقف آلاء محمد كثيرًا عن دينا، فالصحفية الفلسطينية التي اضطرت لمغادرة القطاع رفقةَ زوجها وأبنائهما منتصف العام الماضي تخشى من عودة لا تضمن سلامة أطفالها. "الوضع كان صعبًا للغاية عندما غادرت حيث الخيام متلاصقة مكتظة بالسكان بلا مقومات للحياة، ولم يكن قد وقع كل هذا الدمار بينما الآن القطاع دُمر كليًا، أفكر في أبنائي الصغار واحتياجاتهم قبل اتخاذ أي خطوة" تقول آلاء لـ ـالمنصة.

بينما تلتقط غزة أنفاسها الأولى بعد حرب طويلة راح ضحيتها عشرات الآلاف، ليس واضحًا ما ينتظر سكانها في قادم الأيام في ظل أوضاع كارثية خلفتها الحرب، وغموض يكتنف شكل إدارة القطاع بعد نحو 20 عامًا سيطرت فيهم حركة حماس على الحكم، إلا أن هذه الأسئلة لا تشغل بال الفلسطيني محمود فودة الذي يعد الأيام لقطع تذكرة عودة إلى وطنه.