تصميم سيف الدين أحمد، المنصة، 2025
بين النزوح وجلسات غسيل الكلى عانت السيدة وسام والدة سالم الريس على مدار عامي الحرب في غزة

يوميات صحفي في غزة| على كرسي متحرك.. تنتظر أمي دورها في الحياة

منشور الثلاثاء 7 تشرين الأول/أكتوبر 2025

احترتُ. ماذا أكتب؟

طلب مني زملائي في المنصة الكتابة في مناسبة مرور عامين على حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية. عن ماذا أكتب في بلدٍ تحوّل إلى كومة من ركام بحاجة لإعادة بناء الحجر والشجر، ولبناء الإنسان في بيئة دُمرت فيها الإنسانية. القتل والتدمير مستمران، ومستقبل أجيال بأكملها يضيع بعد فقدهم منازلهم وأسرهم وعدم قدرة غالبيتهم على استكمال تعليمهم وسقوط أحلامهم وطموحاتهم.

حتى تذكرتُ أمي وسام ذات الـ64 سنة، التي تحتاج ثلاث جلسات غسيل كُلوي أسبوعيًا، وتعاني بسبب تقليص عدد الجلسات وتقليل وقتها جراء تدمير المستشفيات وانهيار القطاع الصحي.

نزوح متكرر

في 24 سبتمبر/أيلول الماضي توجهتُ من مدينة دير البلح وسط قطاع غزة، حيث أنزح وزوجتي منذ عامين، إلى مدينة غزة شمال القطاع حيث تعيش عائلتي بعد عودتها في فبراير/شباط الماضي من رحلة نزوح طويلة عانوا خلالها التنقل من مكان لآخر بين الخيام والبحث عن مكان بالقرب من مستشفى يقدم الغسيل الكلوي الذي تحتاجه والدتي منذ أكثر من ثمانية أعوام.

زرتهم في سبيل إقناعهم بضرورة النزوح مجددًا حفاظًا على حياة أمي وخوفًا مما يُعده جيش الاحتلال الإسرائيلي من عملية برية واسعة تستهدف المدينة بكل ما فيها من بشر وحجر.

في الطريق، فكرتُ أيَّ طريقة تضمن نجاحي في إقناعهم بالمغادرة لأحميهم من غول لا يرانا بشرًا نستحق الحياة؟

موجة نزوح جديدة من شرق رفح إلى وسط غزة، 6 مايو 2024

وصلتُ، وبعد حوارات وجدالات، رفض والدي وشقيقي النزوح مُفضلين البقاء بمدينة غزة على الحفاظ على حياتهم. توافقتْ أمي مع شقيقي وشقيقتي على النزوح إلى بلدة الزوايدة بالقرب من المستشفى الميداني البريطاني، حيث أجرت جلسات غسيلها الكلوي خلال النزوح السابق.

حصلت أمي على جلستين فقط من أصل ثلاث تحتاجها، وخُفّضت مدة الجلسة الواحدة إلى ساعتين بدلًا عن أربع لكل جلسة.

قبل عامين، أطلقتْ حكومة الاحتلال حربًا غير مسبوقة على غزة بهدف تدمير مُدنٍ ومخيمات وبلدات القطاع، بالإضافة إلى ملاحقة عناصر المقاومة الفلسطينية وإنهاء حكم حركة حماس عقب اقتحام جناحها العسكري للمستوطنات الإسرائيلية شرق وشمال غزة واعتقالهم أكثر من 200 من المستوطنين والجنود الإسرائيليين واقتيادهم إلى غزة في 7 أكتوبر 2023.

بعد أسبوع من هذا التاريخ تخلله قصف هستيري وقتل للمئات من المدنيين من أطفال ونساء وشيوخ وتدمير أبراج ومبانٍ سكنية وبنية تحتية، طالب الاحتلال المواطنين، شمال القطاع، البالغ عددهم مليونًا و200 ألف بإخلاء منازلهم والتوجه إلى جنوب القطاع.

انهمكتُ وقتها في تغطية الأحداث، بينما كانت أمي تخرج من منزلنا في حي الرمال وسط المدينة برفقة أحد أشقائي لجلسات الغسيل الكلوي في مستشفى الشفاء غربًا الذي بات يعجُّ بالنازحين والضحايا والجرحى.

أصبحتُ أرى أمي في المستشفى لا في المنزل كما اعتدنا. تطمئن عليَّ وأطمئن عليها بالنظرات وبالقليل من الأحاديث حول الحرب والدمار لكننا نعرف أننا جميعًا تحت خطر الموت إما بالقصف أو نقص الخدمات الصحية.

مع تصاعد الأحداث، وتأكدي أن القادم لن يفرّق بين كبير وصغير أو رجل وأنثى، وبين من يحمل السلاح ومن يجلس على كرسي متحرك، أجبرت أسرتي على النزوح نحو وسط القطاع، فنقلتهم إلى مخيم النصيرات للاجئين، وكان همي الأول استمرار حصول أمي على الجلسات المطلوبة وعدم تدهور حالتها أو فقدها لا قدّر الله.

بين المرض والنزوح

نزوح المواطنين من مخيم البريج وسط قطاع غزة بعد تقدم آليات جيش الاحتلال الإسرائيلي، 5 يونيو 2024

تفصل أكثر من 4 كيلومتر بين مكان نزوح والدتي ومستشفى شهداء الأقصى بدير البلح. لم تتوفر السيارات بشكل دائم، فحلّت محلها عربات تجرها الحمير، لكن أمي التي تعاني من عدّة أمراض مزمنة، مثل القلب والضغط وخشونة المفاصل، لم يحتمل جسدها ركوب عربة خشبية كما أخبرتني عبر اتصال هاتفي، فكان الخيار الأفضل صحيًا والأكثر مشقّة، نقلها على كرسيها المتحرك برفقة أحد أشقائي في كل جلسة.

استمر الحال نحو ثلاثة أشهر، حتى أُجبروا على النزوح الثاني إلى مدينة رفح جنوب القطاع، وهناك حيث كنت نازحًا، تمكنت بأعجوبة من تخصيص سيارة تقلها إلى مستشفى أبو يوسف النجار في مواعيد الجلسات التي تجرى فجرًا بسبب عدد المرضى الكبير، وعدد الأجهزة المحدود.

كانت أمي تضطر للذهاب قبل موعدها بخمس ساعات لتضمن دورها، وتغسل في ساعتين، ثم تنتظر ثلاثًا إلى أربع ساعات وهي جالسة على كرسيها المتحرك حتى طلوع النهار ويتمكن السائق من تحريك سيارته لإعادتهم إلى الخيمة.

لم يكن ممكنًا التحرك ليلًا، فكثافة القصف والقتل في تلك الأيام من الحرب تحد من حركة السيارات خلال الساعات المتأخرة خوفًا من استهدافها بالصواريخ الإسرائيلية بادعاء تشكيلها خطرًا على حياة الجنود المتوغلين في القطاع، أو أي أسباب وذرائع أخرى يُقدرها الجيش دون حسيب أو رقيب.

يتمادى الاحتلال في جرائمه فلم يعد المرضى ومرافقوهم قادرين على الوصول للمستشفيات وتناقصت أعدادهم يومًا بعد آخر

كنت أحرص على أن يكون عملي بالقرب من المستشفى لأتمكن من زيارة أمي خلال الجلسات. أذكر إحدى الزيارات قالت لي "جسمي انهد يمّا من النوم على الكرسي وقلة الأدوية، حاسة حالي عايشة ومش عايشة".

في كل زيارة ولقاء، كانت تحدثني عن المرضى رفاقها ورفيقاتها في الغسيل "فلان مات اليوم، فلانة ما إجت وكلمتها طلعت مش لاقية مواصلة تجيبها"، وتتبعها "بغلبكم معي يمّا سامحوني". لا أعرف على ماذا نسامحها إذا كان الاحتلال هو المتسبب في الحالة الكارثية التي وصلت لها هي وجميع المرضى على اختلاف أمراضهم المزمنة.

بسبب توسع العمليات العسكرية وتواتر أوامر الإخلاء، أُجبرت على نقل أسرتي مرة أخرى تحت القصف في مايو/أيار 2024 من رفح إلى بلدة الزوايدة غرب وسط القطاع، بالقرب من المستشفى البريطاني الميداني، وأصبحت المسافة بين نزوحهم ومكان الغسيل الكلوي لا تتجاوز الـ200 متر، لكن الطريق كانت ترابية وعرة، بحيث يضطر مرافقها لبذل مجهود بدني في دفع أو سحب كرسيها المتحرك ذهابًا وإيابًا، في وقت كنا نعاني فيه المجاعة بعدما منع الاحتلال دخول المواد الغذائية الأساسية والأطعمة.

المعاناة للجميع

مع الظروف، لم يعد المرضى ومرافقوهم قادرين على الوصول للمستشفيات، فتناقصت أعدادهم يومًا بعد آخر. فمن أصل 1200 كانوا يحصلون على جلسات غسيل كلوي في كل قطاع غزة، توفي 472 منهم أثناء حرب الإبادة الجماعية بسبب تقليص أو انعدام الخدمات الطبية.

كما دمَّرت إسرائيل 78 جهاز غسيل كلوي من أصل 140 في مختلف مستشفيات غزة خلال قصف المرافق الصحية، حسب المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان في تقرير صدر في 20 مايو/أيار الماضي.

استهداف إسرائيلي لقافلة جرحى أمام مستشفى الشفاء، 3 نوفمبر 2023

بدأت علامات التدهور تظهر على والدتي. ليس لما تسببه جلسات الغسيل من إنهاك جسدي بل بسبب الخوف من المصير المجهول ومشقة العيش في خيمة النزوح الحارة صيفًا والباردة شتاءً.

صحيحٌ أنها لا تشكو كثيرًا ولا تبوح بما في داخلها، لكنّ وجهها المّصفر واختفاء ابتسامتها مع هزلان أصاب عينيها يحكي الكثير عن خوفها المكتوم على حياة خمس أبناء تعبت في تربيتهم حتى أصبح لكل منهم أسرة وحياة، وصار لها من الأحفاد ستة.

عامان وأنا أراقب تغير جسدها وصوتها وكيف أصبحت تنسى، فتكرر سرد بعض المواقف ذاتها كأنها تخبرني بها للمرة الأولى. أحدثها قدر الممكن خلال الزيارة أو عبر الهاتف وفي كل مرة تحدثني عن مرضى الغسيل الكلوي، وكيف أصبح غالبيتهم على كراسٍ متحركة ليس بسبب التقدم في العمر بل بسبب الحصول على جلسات أقل من الحد الأدنى.

منذ أيام أخبرتها بضرورة النزوح مجددًا، وأنّ على العائلة أن تنقسم في مكانين مختلفين، لم تكن ترغب في ذلك، لكن الخوف أجبرها على الاستسلام لرغباتنا كأبنائها "إللي شايفينه منيح اعملوه، المهم ما أتقّل عليكم ولا أشغلكم"؛ هذا ردها قبل أن تفترق العائلة وتنزح أمي قسرًا للمرة الخامسة خلال عامين من الإبادة.