تصميم أحمد بلال، المنصة، 2025
غزة بين الماضي والمستقبل

يوميات صحفي في غزة| معاينة الاغتراب في ركام مدينتي

منشور الأحد 21 كانون الأول/ديسمبر 2025

بعد أكثر من 770 يومًا من النزوحات القسرية تنقّلت خلالها من مكانٍ لآخر لأكثر من 770 يومًا، حملتُ وزوجتي نور أمتعتنا لنترك منزلَ النزوح الأخير في المنطقة الشرقية لوسط القطاع، عائدين إلى شارعٍ ترابيٍّ في مدينتنا غزة يمتلئ بركام المنازل التي دمَّرها القصف خلال الحرب، حيث استأجرنا شقةً في الطابق الرابع لبناية ناجية تحيط بها الخيام التي تؤوي نازحين.

في مثل هذه الخيام المُتنقِّلة عشتُ سنةً كاملةً في بداية نزوحنا مع اندلاع الحرب، حتى انتقلت أنا ونور في أكتوبر/تشرين الأول 2024 إلى منزلٍ من طابق واحد تحيط به حديقة صغيرة يقع بين عدد منازل محدود والكثير من الأشجار. عيبه الوحيد أنّ جيش الاحتلال كان يتمركز بالقرب منه.

في مرَّات عدّة وصلنا القصف وإطلاق النار العشوائي خلال تغطيات الجيش النارية على تقدم قواته وآلياته باتجاهنا. لكن عدا ذلك كان بيتًا تتوفر فيه خدمات تندر مثيلاتها في دمار القطاع؛ كهرباء على الطاقة الشمسية وإنترنت جيد وماء. لا خيام نزوح حولنا ولا دمارٌ كبيرٌ.

لكننا فقدنا هذه الخدمات الأساسية في شقتنا الجديدة. تصل الكهرباء ساعات محدودة من مزود خاص يُكلفني أكثر من 8 دولارات للكيلوواط الواحد، والماء ينقطع لأيامٍ فأُضَّطر لحمل جالونات ونقلها على الدرَج. لا يعمل المصعد الكهربائي ليس فقط لانقطاع الكهرباء، ولكن لأن موتوره تضرر في قصفٍ إسرائيلي استهدف الطوابق العلوية للبناية.

لا حياة كالسابق

اعتبرت أننا من المحظوظين لدى عودتنا إلى غزة بعدما استطعنا استئجار شقةٍ في مدينةٍ قُصفت أغلب مبانيها، ومن بينها بيتنا الأصلي الذي دُمر بشكلٍ كامل قبل عام من الآن.

حالة الشقة الجديدة جيدة، صحيحٌ أني أفتقد الحديقة الصغيرة في بيتنا السابق، لكنَّ الإطلالة البحرية عوَّضتني. أنا شخص يعشق البحر واعتدت السكن في مكان قريب منه منذ الطفولة. وقبل الإبادة، لم يمر يوم إلا وجلست أمامه أو مررت عليه. هو متنفسي/متنفسنا الوحيد في غزة منذ الأزل.

في البيت الجديد، حاولت الاندماج ولو تدريجيًا، وما زلت أحاول. لكن يومًا تلو آخر، أشعر وكأن هناك انفصالًا يتسع شيئًا فشيئًا حتى شعرتُ للحظةٍ بفقدان السيطرة. تراجعت عدة خطوات للوراء لأنعزل جزئيًا عن الكثير من الأماكن، الأشخاص وحتى العمل. لا أخفي استسلامي دون إدراك حقيقي لما أتجه نحوه، حتى أيقنت أنّ هناك خطأً ما.

قال لي صديقٌ كان يعيش في أحد أحياء شمال مدينة غزة إنّ باب منزلهم في حياتهم السابقة لم يُغلق أبدًا. منزل عائلةٍ مفتوحٌ للأحباب والجيران، مثل بيوت جيرانهم المفتوحة لهم. كان يستغرب حياته الجديدة في البناية التي استأجر شقة فيها بعد دمار منزلهم ومنازل جيرانه، ولم يتأقلم بسهولة مع إغلاق الجيران أبواب شققهم. بينما أنا في حياتنا السابقة، اعتدت عكس ما اعتاد؛ أغلق باب المنزل بإحكام، وأستقبل الضيوف في مواعيد محددة مُسبقًا.

لا أتذمر من الآخرين، ربما هي مشكلتي الذاتية ومشكلة كل من كان حريصًا على تحديد مجتمعه الخاص المحيط به ما دفعني لتحديد دائرة صغيرة مُقربّة من الأصدقاء، أشخاص وجدت لديهم ما يمكن أن نتشاركه. بعضهم رحلوا خلال الحرب، وآخرون سافروا للخارج، وقلّة منهم بقيت هنا. لكن حتى هؤلاء لم أتمكن من العودة للاندماج معهم، لا لمشكلةٍ فيهم بل لما فرضته الحرب من تغيرات على حياتنا، وكيف أصبحتُ أكثر رفضًا للواقع كشخص عنيد، يكره أسلوب الفرض الإجباري.

قد يتساءل أحد: وما الجديد؟! منذ عامين وأكثر من مليوني فلسطيني في قطاع غزة يتعرضون لكل ما هُم مُكرهون على فعله، بداية من النزوح القسري وصولًا إلى التجويع! لكن هناك اختلاف. خلال الحرب عندما يكون القصف والتدمير والقتل متواصلًا على مدار الأيام، الأسابيع والأشهر، كُنا نفكر فقط في النجاة. لا يهم أين نحن، وماذا نأكل، بقدر اهتمامنا بمن سينجو من القتل أو الإعاقة، كما أن للحرب، مهما طال أمدها، نهايةً تُطلّ ومعها فكرة العودة إلى واقع الحياة الذي كان قائمًا قبلها.

حينما كنتُ نازحًا والحرب مشتعلة، وحتى بعد تدمير منزلنا، أقنعتُ نفسي بقدرتي على التكيّف بعد العودة وزرع خيمة فوق أو بجوار الركام، لكن حينما تمكنت من دخول غزة في أواخر يناير/كانون الثاني الماضي بعد الهدنة التي استمرت لشهر ونصف الشهر تقريبًا، وبعد منع قسري استمر أكثر من عام نتيجة فصل الاحتلال الإسرائيلي للقطاع وتقسيمه عسكريًا، أيقنت أن الفكرة وهم. لا مكان يصلح حتى لخيمة قريبة، لا خدمات متوفرة، لا يوجد حياة كما السابق.

حتى فوق الركام خيام

تحدثت مع نور ومع أصدقاء، وجميعهم كرروا جملة "أنا لو مكانك وبحس اللي حاسه بنتحر". لا تعجبني الكلمة ولا فعل الانتحار، ولا أظنني يومًا فكرت بتلك الطريقة، فدفعني نقاشي معهم للانعزال أكثر وذهبت إلى الإنترنت. هناك حاولت فهم ما أمرُّ به وأردت توصيفه، أرغب في تقديم المساعدة لنفسي والعودة لواقعنا بعد إبادة استمرت لعامين، وما زالت آثارها مفروضةً ضمن تفاصيل الحياة اليومية، بل وستمتد لسنوات قادمة، قد يتخللها، مجرّد "قد"، تعافٍ مجتمعيٌّ وإعادة إعمار وتطوير.

خلال البحث، وصلت إلى توصيف دقيق؛ أنا أعيش الاغتراب في مدينتي غزة. كفردٍ في مجتمع تعرَّض لإبادة، وما زال يتعايش مع آثارها، صرت غريبًا، أو هكذا أشعر. الإبادة غيّرت معالم المدينة والشوارع وحولتها من مبانٍ أسمنتية إلى كتلٍ من ركام تحيط بها خيام من كل الاتجاهات.

حتى فوق الركام خيام، والشوارع التي كان يكسوها الأسفلت أصبحت مفروشة بالخيام والأتربة وركام ندوس عليه ذهابًا وإيابًا. وحتى المجتمع المحيط الذي اعتدناه بعاداته وتقاليده هو أيضًا تغيَّر وتداخلت المجتمعات المحلية باختلاف ثقافاتها وطبيعة حياتها التي فرضتها البيئة وطبيعة سكان كل منطقة وحي ومدينة ومخيم عليهم.

في مقال منشور على موقع "موضوع" بعنوان "مفهوم الاغتراب" ذكرت الكاتبة غادة الحلايقة ثلاثة أركان أساسية تُحدد أبعاد الاغتراب، ربما منحتني الفرصة لأفهم بشكل أدق ما أواجهه كفرد. الأول وهو البُعد الحسي، حيث يدور صراع بين الفرد مع قوى اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة بهدف تحديد موقف تاريخي من كلِّ ما يحدث حوله "ويشعر بالاغتراب في حالة عدم تحقّق الموقف، ويشعر الفرد هنا بأنّه مسلوب الذات ومستهلكًا". هذا بالضبط ما أصارعه مع كل القوى المحلية والإقليمية والدولية التي تتصارع وتتنافس على إدارتنا المستقبلية على كافة الجوانب والمستويات.

تدور الصراعات على المستويات الدولية من قبل إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خطته التي تبدو وكأنها تحقق له مصالح اقتصادية شخصية مستقبلية. فيما تتصارع الدول الإقليمية وفق مصالحها السياسية وربما تخوفاتها العسكرية مستقبلًا. أما الأطراف الفلسطينية، فما زالت متصارعة فيما بينها على الحُكم مستقبلًا ويُقدّم كل طرف نفسه على أنه الأفضل؛ ليس للفلسطينيين بل لتنفيذ الأجندات والمصالح الدولية والإقليمية.

ويتضح أننا كمواطنين فلسطينيين آخر همِّ الجميع؛ أغراب عن أرضنا ومفروض علينا تقبّل ما يقرره العالم لنا، ونحن علينا السمع والطاعة والقبول بالأمر الواقع.

سأقفز للبعد الثالث، وفق ترتيب المقال الأصلي، وهو البُعد الميتافيزيقي، حيث يتجاهل الفرد واقعه المحيط به ويبحث في عالم الماورائيات عن حقيقة وجوده وموقف الكون منه. هنا تبرز مرحلة الشك بين الوعي والوجود، لا أعتقد أنني وصلت عميقًا إلى هذا الجزء، لكن إذا ما استمرت حالة الاغتراب التي أعايشها دون اندماج في الواقع الفعلي، أعتقد أنها ستكون مرحلة أكثر تأثيرًا وألمًا على الصعيد النفسي والاجتماعي.

أما البُعد الثاني، الذي قررت تأخيره، وهو البُعد الإقليمي، وأذكره كما ورد في المقال "هنا يبحث الفرد عن عالم المُثل (العالم المفقود)، بعد أن سحق العالم الذي تعيش به شخصيّته وشوهها، وهنا ينطلق الشخص إلى عالم الخيال وذلك عن طريق اقتراح أساسٍ روحي للإنسانيّة عوضًا عن الأساس الواقعي، وتزداد حدّة الصراع هنا كلّما ازداد وعي الإنسان بذاته، بحيث يصل لمرحلة الشعور بأنّ كلّ ما يحيط به هو عبارة عن ثقل عليه، وقيد لا يستطيع أيّ علاقة أو تواصل اجتماعي إخراجه منه، ومن هنا تنشأ عزلة الفرد يليها اغترابه عن كافّة القيم الواعية المحيطة به والتي تحكمه".

الإبادة سحقت حياتنا السابقة بكل تفاصيلها، تشوهت الأفكار والمعتقدات حتى أصبحت أعيش في عالم خيالي مستقبلي، وهذا بالضبط ما يجب أن أنطلق منه الآن في كيفية تعايشي مع الواقع الفعلي والتفكير في الماضي باعتباره لن يعود، أما المستقبل فهو ما سأقرره؛ إذا كنت سأبحث عن الخلاص الفردي خارجًا أم سأتكيف مع المُتاح وفق التطورات السياسية والاقتصادية التي ستفرض وفق الرؤى الدولية والإقليمية.

الاغتراب، كما خلصتُ إليه توصيفًا للحالة التي أعيشها، حصرني بين أمرين: أولهما الحنين إلى ماضٍ قريب ومستقبل مُتخيَّل مأمول، وثانيهما واقعٌ مفروض في الحاضر ومآلاته المتوقعة في المستقبل. وبين الاثنين، أقف على خيطٍ رفيع من المشاعر والأفكار؛ إن انقطع سقطتُ في الهاوية، وإن تكيّفتُ وتعايشتُ ربما أنجو.. لكن هل ستنجو روحي معي؟

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.