تصميم سيف الدين أحمد، المنصة، 2025
تتزداد عزلة إسرائيل دوليًا كلما أمعنت في حرب الإبادة التي تشنها على غزة

عامان من الإبادة.. أثمان غير متناسبة دفعتها إسرائيل

منشور الاثنين 6 تشرين الأول/أكتوبر 2025

في خطاب جماهيري من قطاع غزة، المكان الذي وُلد فيه وفيه لفظ أنفاسه الأخيرة، رسم يحيى السنوار عام 2022 ملامح المواجهة الكبرى المنتظرة مع الاحتلال الإسرائيلي؛ مواجهة قَدَّر لها السنوار أن تمتد لفترة وتنتهي، وفق تصوراته، إلى عزلة إسرائيل عن العالم وإجبارها على الاعتراف بالدولة الفلسطينية وإنهاء حالة دمجها في الإقليم.

هكذا استخلص السنوار من دراسته لتاريخ الصراع أن الفخ الأخطر على إسرائيل هو استثارة ردة فعل أكثر عنفًا تضعها في مواجهة العالم.

لا يمكن الحكم على مدى صوابية رهان السنوار السياسية، مع فداحة التضحيات الفلسطينية خلال عامي الحرب، حيث قتلت إسرائيل عشرات الآلاف وحوَّلت قطاع غزة إلى أكوام من رماد، وجددت محاولاتها اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم.

يحيى السنوار رئيس المكتب السياسي لحركة حماس

لكن في المقابل، ورغم تفوق إسرائيل العسكري في غزة وعلى الجبهات الأخرى بعد السابع من أكتوبر، فقد دفعت أثمانًا لم تتوقف عند عدد العسكريين الذين فقدتهم داخل الميدان، أو التكلفة الاقتصادية اليومية للحرب الطويلة، بل أيضًا في عزلة دولية أقرَّ بها رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو، بعد أن اختبرها بنفسه وهو يخاطب كراسيَ فارغة في الأمم المتحدة بنيويورك.

خسرت إسرائيل ساحات كانت تتبنى سرديتها، فقطار الاعتراف الغربي بالدولة الفلسطينية على سبيل المثال لم ينطلق بهذه السرعة قبل السابع من أكتوبر، والقادة الإسرائيليون أنفسهم وُصموا بمجرمي الحرب جراء الحراك القانوني الداعم للفلسطينيين.

ملامح العزلة الدولية لإسرائيل تظهر كذلك في وتيرة إعلان الحلفاء والشركاء الأوروبيين لتل أبيب تعليق ومراجعة اتفاقيات تجارية وعسكرية، والتلويح المستمر من قبل الاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات على الوزراء المتطرفين في الحكومة الإسرائيلية، بل وصل الأمر لامتناع أصدقاء لتل أبيب مثل الأرجنتين عن استقبال نتنياهو، خشية الإضرار بشعبية الحزب الحاكم قبل الانتخابات التشريعية هناك.

حتى على المستوى الرياضي، بات اسم إسرائيل مرفوضًا، ورفع العلم الإسرائيلي يثيرُ أزمات للاتحادات الرياضية والدول المضيفة، لتتعالى مؤخرًا دعوات استبعاد المنتخب الإسرائيلي من مسابقات الاتحاد الأوروبي لكرة القدم ومنعها من خوض المنافسات المؤهلة لكأس العالم، أسوة بالإجراء الذي اتخذ مع روسيا بعد حربها ضد أوكرانيا قبل 3 أعوام.

صحيح أن الغلبة العسكرية كانت لإسرائيل على مدار الـ24 شهرًا، غير أن الحرب دارت في ميادين أخرى حقق فيها الفلسطينيون انتصارات رمزية قد تؤسس لإيجاد موطئ قدم لها في قادم السنوات بعد عقود من التجاهل. 

انتصارات سياسية 

"السردية الفلسطينية بعد 7 أكتوبر حصلت على مساحة لم تحصل عليها من قبل، بسبب الحراك والتضامن الشعبي الواسعين، وإبراز الجرائم مقابل ثبوت زيف الادعاءات الإسرائيلية، وهذا انتصار سياسي غير مسبوق للشعب الفلسطيني يحتاج إلى إرادة دولية كافية لترسيخه"، يقول المحامي الفلسطيني صلاح عبد العاطي رئيس الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني لـ المنصة.

حتى مع تآكل الدعم الدولي لإسرائيل لم يؤدِّ طوفان الأقصى إلى انهيار إسرائيل

لعقود طويلة قدمت دولة الاحتلال نفسها باعتبارها صاحب مظلمة أمام المجتمع الدولي. هي من سيطرت على الرواية وظلت تتهم كل من يناقض سرديتها بمعاداة السامية، لكن "الانتفاضة الأخلاقية للشعوب والدول غيَّرت هذه المعادلة وبدأت تُسمِع إسرائيل انتقادات وتدعو لمعاقبتها"، هذا مما يرصده القيادي بحركة فتح أيمن الرقب.

لم تكن عزلة إسرائيل النتيجة الوحيد لطوفان الأقصى، لكن أيضًا إعادة الزخم إلى القضية الفلسطينية التي غابت عن الأجندة العربية في خضم تطورات المنطقة خلال العقد الأخير، تلك الإعادة  كانت كُلفتها ضخمة، نظرًا إلى حجم الخسائر البشرية والمادية في القطاع,

لم يؤدِّ طوفان الأقصى بالمقابل إلى انهيار إسرائيل كما كان يتمنى السنوار؛ فرغم تحقق نبوءته بعزل إسرائيل دوليًا، لم يتوقع القيادي الحمساوي الراحل هذا العدد من القتلى الفلسطينيين ودمار قطاع غزة بالكامل، وهو ما يعده الرقب رهانًا خاطئًا من حركة حماس وأشبه بمحاولة انتحار جماعي للخلاص من الاحتلال، أملًا في أن يكترث العالم لما يحدث في فلسطين على مدار العقود الماضية، مشيرًا إلى أن اللوبي الصهيوني والدعم الأميركي اللا محدود حافظا لإسرائيل على البقاء وعدم انهيار اقتصادها جراء الحرب. 

مقاومة الإفلات من العقاب

150 ألف شخص يتظاهرون في لاهاي ضد العدوان الإسرائيلي على غزة، 15 يونيو 2025                            

بالتزامن مع الدعوات الأممية والحراك الشعبي العالمي لوقف الإبادة في غزة، برزت مبادرات قانونية ودولية تركزت على منع إفلات إسرائيل من العقاب وتقييد عملية تسليحها، على رأس تلك المبادرات مجموعة لاهاي للعمل على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي ودعم حق الفلسطينيين في تقرير المصير وتنسيق الجهود للتصدي لانتهاكات إسرائيل للقانون الدولي.

يعد هذا أول تحالف دولي من نوعه يعلن بشكل واضح أنه سيعمل على محاسبة إسرائيل على الجرائم التي ترتكبها، بدأ بتسع دول تنتمي معظمها إلى الجنوب العالمي، تتقدمها جنوب إفريقيا وكولومبيا، وتوسعت لتشمل 35 دولة آخرها إسبانيا. ويطالب أعضاء التحالف بحظر تصدير المعدات العسكرية إلى إسرائيل ومنع عبور الشحنات العسكرية عبر موانيها، وكذا المطالبة بمحاسبة إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية.

"مجموعة لاهاي كانت ثمرة التضامن العالمي الواسع مع الفلسطينيين وحقوقهم، ويتوج عمل الحركة الحقوقية الفلسطينية بطَرق أبواب المحاكم الدولية لمعاقبة إسرائيل، ويعزز الخطوات التي اتخذتها دولة جنوب أفريقيا بالذهاب إلى محكمة العدل الدولية واتهام إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في غزة"، يوضح صلاح عبد العاطي.

ويشير في تصريحاته لـ المنصة إلى أن الحركة الحقوقية الفلسطينية والدولية لعبت دورًا مهمًا في توثيق وفضح جرائم وانتهاكات الاحتلال في القطاع الفلسطيني، وعملت على مسارات مختلفة، من بينها الدعاوى القضائية أمام المحكمة الجنائية الدولية، التي أسفرت في إحداها عن إصدار مذكرتي اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف جالانت، وكذا دعم تحركات جنوب إفريقيا في شكواها ضد إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في غزة أمام محكمة العدل الدولية، التي نتجت عنها قرارات مهمة من بينها تحديد سقف زمني لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية.

غير أن المسار القانوني لمنع إفلات إسرائيل من العقاب، حسب عبد العاطي، لم يحقق الكثير من أهدافه حتى الآن، بسبب الحماية الدبلوماسية والقانونية التي حصلت عليها تل أبيب من الولايات المتحدة بفعل الفيتو الذي استخدمته الولايات المتحدة 6 مرات لعرقلة إدانة إسرائيل وإجبارها على وقف الحرب من ناحية، والعجز الدولي وفقدان الإرادة السياسية من ناحية أخرى.

إسرائيل لم تدفع إلا ثمنًا قليلًا

يرى الوزير الفلسطيني السابق سفيان أبو زايدة أن إسرائيل دفعت ثمنًا قليلًا حتى الآن، جراء ما ارتكبته من جرائم وخرق للقوانين الدولية بفضل الدعم اللامحدود من واشنطن، التي تتحمل العبء الاقتصادي الأكبر لهذه الحرب، وتحاول كسر العزلة الإسرائيلية بأي طريقة وتحول دون عقابها من المجتمع الدولي.

ورغم ما حققته إسرائيل من مكاسب عسكرية على جبهات الحرب المختلفة، بدايةً من غزة ولبنان وصولًا إلى إيران واليمن، وتغيير القواعد القديمة للاشتباك، فإنها تتكبد هزائم كبيرة على الساحة الدولية وتفقد دعم حلفائها الغربيين، باستثناء الولايات المتحدة، يضيف أبو زايدة لـ المنصة.

 أستاذ العلوم السياسية جمال سلامة يذهب كذلك في تحليله إلى أن إسرائيل هي من عزلت نفسها دوليًا بعد 7 أكتوبر بسبب جرائمها المتواصلة في غزة، وفرض المجاعة على سكان القطاع، لكنها تظل تكلفة ضئيلة مقارنة بما قدمه الفلسطينيون؛ فالحرب التي بدأت لتحرير جميع الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية أوشكت على الانتهاء بعشرات الآلاف من القتلى وتواجه حماس معضلة البقاء تحت الضغط الأميركي.

غير أن إسرائيل استغلت السابع من أكتوبر لصالحها بالقضاء على أي تهديد مستقبلي من حماس وتجريد محور المقاومة من قوته بشل قدرات حزب الله واغتيال أمينه العام حسن نصر الله وقطع خطوط إمداده بإسقاط النظام السوري كما وجهت ضربات قاصمة لإيران، ما يعكس أن الفرضية الإسرائيلية هي التي نجحت حتى وإن عانت تل أبيب من عزلة تبدو رمزية، يضيف سلامة لـ المنصة.

المتغيرات التي أعقبت عملية طوفان الأقصى لم تخدم حركة حماس في تحقيق ما خطط إليه، بل وضعت المقاومة الفلسطينية في مأزق تاريخي يفرض عليها إما مواصلة القتال بلا غطاء شعبي أو دعم عربي أو الاستسلام ونزع سلاحها للمرة الأولى ما يبدد احتمالات عودتها للكفاح المسلح مرة أخرى، يختم سلامة.