الموقع الرسمي لحركة حماس
عدد من الأسرى الفلسطينيين المحررين من سجون الاحتلال، أكتوبر 2025

مع الأسرى المبعدين.. نازية السّجان وثمن الإبادة ودهشة لمس الشاشات

منشور الثلاثاء 28 تشرين الأول/أكتوبر 2025

"كأني مضروب على دماغي"؛ يلخص الأسير الفلسطيني المحرر أشرف حنايشة حاله منذ الإفراج عنه من سجون الاحتلال الإسرائيلي ضمن الاتفاق الأخير لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ووصوله مُبعدًا إلى القاهرة.

لا يزال أشرف يحاول استيعاب ما حدث، "مش عارف أتعامل مع التليفون ده. هتعامل إزاي مع الدنيا؟".

كان عمر الأسير الذي يستكشف كيفية التحكم في موبايله باللمس 24 عامًا عندما اعتقله الاحتلال لقتله مستوطنًا إسرائيليًّا في القدس عام 2006، وهو أحد أصحاب المؤبدات الذين أفرج الاحتلال عنهم بشرط إبعادهم عن الأراضي الفلسطينية. هكذا غادر سجون الاحتلال بعد 19 عامًا.

وصل أشرف القاهرة في الرابع عشر من أكتوبر/تشرين الثاني الحالي ضمن مجموعة تضم 154 أسيرًا محررًا مبعدًا، والتقته المنصة في مقر إقامته بفندق رينيسانس القاهرة ميراج سيتي، التابع لسلسلة ماريوت، قبل أن تقرر السلطات الأمنية نقل الأسرى منه إلى فندق آخر على أثر التقرير الذي نشرته صحيفة ديلي ميل البريطانية، مُرفقًا بصورٍ للأسرى وهم داخل الفندق.

لم يتبدل هدوء أشرف طوال الساعتين اللتين رافقته فيهما، رغم ما يحكيه عن المآسي التي تعرض لها في سجون الاحتلال؛ يشعل سيجارةً، يجلس في إحدى زوايا حديقة الفندق، بالقرب منَّا يتجمع بقية المحرَّرين في مجموعات بينما ينهي مسؤولون عن تنظيم شؤون الأسرى بعض الإجراءات. 

يشاركنا الحديث الأسير المحرر  كامل عطاطرة، ابن جنين الذي قضى في سجون الاحتلال نحو 23 عامًا أغلبها في سجن جلبوع بعد اعتقاله عام 2003 لقتله مستوطنَين اثنين، وحُكم عليه بالسّجن مدى الحياة. وخلال سنوات سجنه فقد والدته وشقيقه، وحرمه الاحتلال من وداعهما.

بعد قليل، ينضم إلينا الأسير المحرر أكرم حامد، وهو أحد أبرز قادة كتائب شهداء الأقصى التابعة لحركة فتح، والمسؤول عن سلسلة عمليات إطلاق نار بين عامي 2002 - 2004 في محيط رام الله، إحداها أدت لمقتل مستوطنين، ليُعتقل في 2004 ويحكم عليه بثلاثة مؤبدات، وأُفرج عنه وفق اتفاق تبادل الأسرى ووقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس في قطاع غزة يناير/كانون الثاني الماضي.

سجون نازية

أشرف حنايشة ومحمد زكارنة الأسيران المحرران المبعدان إلى مصر أكتوبر 2025                                                     

يُحاكم الأسرى الفلسطينيون أمام قضاء عسكري، ووفق هذا النظام القضائي في إسرائيل فإن السجن المؤبد يعني السجن مدى الحياة، "ولو مات الأسير بيحجزوا جثته للإفراج عنها في الصفقات مع المقاومة"، يقول أشرف.

ويُعد "السجن المؤبد" العقوبة الأعلى والأشد قسوة في قانون العقوبات الإسرائيلي، ويعرف في العبرية بـ"مأسار عولام"، أي السجن لمدى الحياة.

يتفق المحرَّرون الثلاثة على أن وضع السجون الإسرائيلية بكل ما فيها من انتهاكات لا يقارن بما بعد 7 أكتوبر؛ يشير أشرف إلى صدره ويقول "كسرولي ضلعين ولاد الكلب قبل الإفراج عني بحوالي 3 أسابيع".

يحكي عن صباح 7 أكتوبر؛ استيقظ مبكرًا، وفجأة التلفزيون بدأ ينقل مشاهد لمقاومين داخل كيبوتس "مكنتش فاهم إيه اللي بيحصل لأني مش بعرف عبري كويس، بس حسيت إن فيه حاجة كبيرة، زميلي بيعرف عبري بس كان نايم صحيته يفهمني إيه ده فقال لنا إن في هجوم ورهائن وقتلى ومصابين".

"توقعنا يكون رد الفعل الإسرائيلي عنيف، بس مش لدرجة اللي حصل"، يشير الأسير المحرر إلى حرب الإبادة التي شنّها جيش الاحتلال الإسرائيلي على غزة طوال السنتين الماضيتين. 

أصاب الأسرى بعضٌ مما أصاب سكان غزة من الحصار، وبدأت مرحلة جديدة في السجون، إذ سُحبت من الغرف كل وسائل الترفيه، والأدوات الخاصة بهم كالملاعق والأطباق، وخفضت كميات الطعام، الذي "في الغالب مكانش مستوي.. يعني رز وعليه مياه مغلية وبس"، يلفت أشرف إلى أن الأسرى فقدوا الكثير من أوزانهم خلال السنتين وبعضهم أصيب بالهزال.

"لسنتين لم يسمح لنا بشرب الشاي مثلًا ومنعوا السكر والفاكهة وانحرمنا كمان من وسائل النظافة الشخصية"، يقول عطاطرة.

صورة أرشيفية للأسيرين الشقيقين أكرم حامد المحكوم بالسجن ثلاثة مؤبدات ورأفت حامد المحكوم بالسجن مؤبدين

يتذكّر أكرم ما تعرضوا له من الضرب والتعذيب والتنكيل بشكل ممنهج، "بيكون هدفهم كسر الأسير وإهانته. فجأة بيدخل علينا الجنود بالكلاب الشرسة والهراوات ويضربوا فينا عشر دقايق أو ربع ساعة وبيطلعوا".

"غير السَّبّ طوال الوقت، وإهانة الجميع. كبير بالسن أو صغير أو مريض أو سليم.. هو أصلًا لا يعتبرك إنسان".

في 17 سبتمبر/أيلول الماضي، قال مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة إن السلطات الإسرائيلية "فرضت عمدًا" ظروف احتجاز تصل إلى التعذيب وغيره من أشكال إساءة المعاملة، وساهمت في مصرع محتجزين.

وذكر المكتب أن 75 فلسطينيًا على الأقل، منهم طفل في السابعة عشرة من العمر، لقوا حتفهم في أماكن احتجاز إسرائيلية في الفترة بين 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 و31 أغسطس/آب 2025، منهم 49 من غزة و24 من الضفة الغربية وفلسطينيان يحملان الجنسية الإسرائيلية.

المقاومة بالمذاكرة واللعب

لا يعني الحديث عن سوء أحوال السجون الإسرائيلية بعد 7 أكتوبر أن الأوضاع كانت جيدةً قبله، لكن يمكن وصفها بـ"المستقرة"، حسب أكرم، الذي قال بلهجة مصرية بلكنة فلسطينية "صرنا عارفين المحظورات كويس، وبأحيان كتير الاحتلال بيعمل للأسرى حساب، لأن مشكلة صغيرة في أي قسم بالسجن ممكن تعمل أزمة كبيرة جوه السجن كله وكمان تطلع مظاهرات بره، وهو مش عايز قلق".

"بنلعب معاهم لعبة القط والفار"، يصف أشرف كيف يراوغ الأسرى جنود الاحتلال، "يعني لما منعوا عنَّا الأقلام والأوراق بعد 7 أكتوبر استخدمنا ورقة السولفان عملنا منها قلم، وورق الأكل كتبنا عليه، فمنعوا السولفان وورق الأكل، فنحتنا على الجدران فدخلوا كسروا الجدران".

يشير أكرم إلى ثقل الأيام داخل سجون الاحتلال، "لكن مفيش قدامنا إلا المقاومة حتى لا نموت قهرًا"، لافتًا إلى اختراع طرق للترفية والتسلية "مثلًا عملنا من الأطباق شطرنج وكنا بنعمل مسابقات داخل القسم، وطبعًا أول ما الجندي يلمحنا بنلعب يدخل زي العيل الصغير يكسرها برجله ويعاقبنا".

أصدر الأسير كميل أبو حنيش من أَسْرِه 16 كتابًا متنوعًا

ينوه أكرم بأسرى تمسكوا بالأمل من خلال الدراسة والحصول على شهادات علمية؛ "كثير مننا كانوا يراسلون عن طريق محاميهم أو أسرهم جامعات في فلسطين أو خارجها ويكملون دراستهم".

أشرف واحدٌ من هؤلاء، إذ حصل على الثانوية العامة ودرجة البكالوريوس رغم محاولات الاحتلال منعه من مواصلة تعليمه، ويسعى حاليًا للحصول على الماجستير في العلوم الاجتماعية والأسرية من جامعة القدس المفتوحة.

اكتشف عدد من الأسرى أيضًا مقدرتهم على كتابة الشعر والرواية والقصص، "كنا نعقد جلسات ثقافية يتلو فيها أسير قصيدة ويتم مناقشته فيها ونقدها"، يقول أكرم.

ويشير عطاطرة لكثير من الأسرى الذين نشروا أعمالًا أدبية، منهم الأسير المحرر باسم خندقجي، الذي اعتقل في 2004، وبدأ الكتابة في سجنه، وحصل في أبريل/نيسان 2024 على الجائزة العالمية للرواية العربية "البوكر" عن روايته قناع بلون السماء.

ويذكُر أيضًا الأسير المحرَّر كميل أبو حنيش عضو الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الذي ظل في السجون نحو 22 عامًا، محكومًا بتسعة مؤبدات و78 عامًا، لكنه لم يستسلم وأصدر من أسْرِه 16 كتابًا متنوعًا ما بين كتابات سردية ودواوينَ شعريةٍ.

أخويا ولكن

يضحك عطاطرة بمجرد تطرق الحديث لأبناء الطائفة الدرزية الذين يخدمون في الجيش الإسرائيلي، ويروي أحد المواقف "كان معنا سجَّان درزي طول ما الجندي اليهودي واقف يعاملنا معاملة سيئة جدًا من شتيمة وإهانة وكمان ضرب، لكن أول ما الجندي اليهودي يمشي يحضني الدرزي ويقولي أنت أخويا وأنا فلسطيني زيك، بس أنا بعمل شغلي ولو معملتش هيك قدام اليهودي هتبقى مشكلة كبيرة".

الجنود الدروز قالوا إنهم تلقوا تعليمات بالتصرف مثل النازي

"الدرزي كان يقولي مهما شتمتك قدام اليهودي متردش لأنه هيأمرني أضربك فهضربك ولو أمرني بقتلك هقتلك"، يلتقط أشرف الحديث.

ويؤكد على أن الجنود الدروز قالوا أكتر من مرة إن هناك أوامرَ بإساءة معاملة الأسرى "قالولهم عايزنكم تعملوا تصرفات نازية.. أنا شوفت بعيني جندي يهودي ضرب أسير وحط في تمّه (فمه) قنبلة غاز ومات الأسير".

في إسرائيل 33 سجنًا ومركز اعتقال تخضع جميعها لإدارة السجون ومراكز الاعتقال "الشاباص"، من بينها نحو 20 مُعتقلًا يقبع فيها أسرى فلسطينيون، والبقية خصصت للجنائيين الإسرائيليين.

كيان الزنازين

ينظم الأسرى أنفسهم بانتخابِ من يمثلهم ويدير أمورهم؛ يوضح أشرف أن كل سجن يُقسَّم إلى أقسام، ويكون لكل قسم "دوبير"، وهي كلمة عبرية تعني ممثل أسرى، ومن بين دوبير الأقسام يُختار دوبير للسجن كله يكون المسؤول عن التواصل مع إدارة السجن وتقديم طلبات الأسرى والتفاوض على حقوقهم. بالإضافة إلى التعامل مع إدارة السجن، تنتخب لجان في كل سجن لإدارة شؤون الأسرى؛ ينوه أشرف بأن الأسرى يقبعون في السجون لمدد طويلة بلا أمل في الخروج من السجن بإطار قانوني، بالتالي يتوقعون البقاء في السجن، فيعملون على تنظيم شؤونهم.

ويشير  إلى أن من بين أساليب التنكيل بالأسرى إلغاءَ "الدوبير" ولجان تنظيم شؤون الأسرى.

لم يبدِ الأسرى أي ندم أو تراجع عن قتلهم مستوطنين

ويحكي عطاطرة عن النظام القضائي العرفي داخل سجون الاحتلال؛ "لأن الأسرى بيكونوا موجودين بمكان واحد لسنين، فطبيعي تصير مشاكل وخلافات بينهم وهنا يأتي دور المحكمة العرفية"، ويضرب مثالًا بأنه حال تعدي أسير على آخر، تنعقد المحكمة المنتخبة وتستمع لطرفي المشكلة وللشهود ثم تقضي بما تراه عدلًا، لافتًا إلى أن العقوبات تتدرج من التوبيخ واللوم إلى العقوبات الجسدية كالضرب أو مخاطبة إدارة السجن لنقله إلى سجن آخر.

الثمن الباهظ وأسئلة المستقبل

ظلَّ الضحكُ والمزاجُ المتفائلُ غالبًا على الجلسة مع الأسرى المحررين إلى أن سألتهم عن الثمن الذي دُفع لتحريرهم من الأسر، ليجيب أشرف بأنه ليس قادرًا بعد على تخيل ما حدث، وكل يوم يشعر بذنب كبير تجاه هؤلاء الأطفال والنساء "الذين فقدوا حياتهم على طريق تحرير بلدنا". 

"الإبادة ليس لها مبرر، وأنا حزين على أن ثمن خروجنا من السجن كل هؤلاء الشهداء من الأطفال والنساء والرجال والتدمير الذي لم أتصوره أبدًا"، يضيف عطاطرة. 

فيما لا يبدي أيٌّ من الأسرى الثلاثة ندمًا أو تراجعًا عن قتلهم مستوطنين؛ "المقاومة حقنا.. وفي كل الأعراف يجب محاربة المحتل حتى يرحل"، يقول أشرف.

لكن ما يزعج الأسرى المحررين غياب التنظيم عن المقاومة؛ يشير عطاطرة إلى الأحداث في غزة بعد وقف إطلاق النار من قتلِ من تصفهم حماس بـ"العملاء الخونة"، قائلًا "إحنا في فتح غلطنا نفس الغلطة بعد الانتفاضة"، ويرى أن الأَوْلى من حالة الانتقام هذه، العمل على بناء المؤسسات وإعادة الحياة إلى غزة ثم إحالة هؤلاء الأشخاص إلى المحاكمة، ومعاقبتهم إذا فعلًا أدينوا، لكن القتل بهذه الطريقة "أمر مرعب".

لا يفارق القلقُ أشرف منذ مغادرته السجن، ولا يزال حتى الآن يحاول اكتشاف العالم حوله؛ بدا ذلك واضحًا في تعامله مع موبايله الذي تسلمه بعد الإفراج عنه.

يكشف الأسير المحرر أنه أُبلغ بأن وجوده إلى مصر مرحلة انتقالية حتى يذهب إلى بلد ثالث، لكنه حتى الآن لا يعرف إلى أين، لافتًا إلى أن كل الأسرى المبعدين إلى مصر لا يعرفون وجهتهم المقبلة.

يشير أكرم إلى الأمر نفسه، فالأسرى يسمعون عن بلدان كثيرة يمكن الانتقال إليها كتركيا وماليزيا وإندونسيا وإسبانيا "لكن لا نعرف بالضبط إلى أين سيذهبون بنا"، لافتًا إلى أن السلطات المصرية لا تجبر أحدًا على مغادرة البلاد، بالعكس "شايلنا فوق الراس".

ورغم ما أبداه أشرف من قلق على ما ينتظره في المستقبل، لم يفقد الأمل في أن يتزوج ويكوّن أسرة ويعود لبلده فلسطين يومًا؛ "اللي خرجني من ظلمة أسوأ السجون قادر يرجعني بلدي في يوم".