"نزلت لأنقذهم من أيدي المصريين، وأصعدهم من تلك الأرض إلى أرض جيدة وواسعة، إلى أرض تفيض لبنًا وعسلًا، إلى مكان الكنعانيين والحثيين والأموريين والفزيين والحويين واليبوسيين".
- سفر الخروج
هذا النص التوراتي من بين نصوص أخرى يراها محللون تؤسس لسردية اليمين الإسرائيلي تجاه فلسطين، فالإسرائيليون هم "شعب الله المختار"، أو أبناء النور الذين سينتصرون في نهاية المطاف على "أبناء الظلام"، حسب نبوءات سفر إشعياء التي استشهد بها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
هذا ما تعبر عنه وثيقة الإعلان عن إقامة دولة إسرائيل 1948، التي تقول "نشأ الشعب اليهودي في أرض إسرائيل، وفيها اكتملت صورته الروحانية والدينية والسياسية، وفيها عاش حياة مستقلة في دولة ذات سيادة، وأنتج ثرواته القومية والإنسانية، وأورث العالم أجمع توراته الخالدة".
كان الكنيست الإسرائيلي أقر في 2018 قانون الدولة القومية اليهودية الذي يصف البلاد بأنها دولة يهودية بشكل رئيسي. في وقت سابق لهذا اندمجت الصهيونية العلمانية بالصهيونية الأصولية أو ما نسميه اليهودية الأصولية بفضل محاولات المزج التي قام بها الحاخام إبراهام كوك، حيث اعتبر أن جميع المساعي التي تعمل الحركة العلمانية على تحقيقها هي في الأصل إشارات مَسيانية (نسبة للمسيَّا المنتظر مخلِّص إسرائيل). لهذا عمل على إيجاد شرعية لأفكاره العلمانية وسط المتدينين.
الباحث في فلسفة السياسة باهر عبد العظيم يذكر في ورقته "الدور السياسي للأصولية اليهودية" أن ظهور حركة الميدراش قديمًا ساهم في تفعيل النصوص التوراتية محاولة تقديم تفسيرات للنصوص لكنها وضعت سلطة أكبر في يد الحاخامات، ثم عادت ونشطت الأصولية اليهودية بعدما أسس هرتزل للصهيونية العلمانية التي لم تقم على أساس ديني أبدًا، كانت دوافعه الواضحة هي إنهاء حالة الشتات لليهود وإقامة وطن قومي عرقي، وكان يفضل في البداية الأرجنتين لا فلسطين، لكنه في النهاية استقر على فلسطين لأسباب برجماتية حيث ارتباط اليهود بصلات دينية بهذه الأرض ربما يحفزهم على الهجرة. هكذا تم التمهيد لسيطرة الأصولية شيئًا فشيئًا.
وحسب أستاذ العلوم السياسية بجامعة بنسلفانيا إيان لوستك يرى اليهود الأصوليون أن العالم يسير وفق إرادة إلهية وأن "الأحداث التاريخية الفاصلة في حياة الشعب اليهودي كلما حاولوا تأويلها ستعود إلى التوراة مثل محارق الهولوكوست التي عاقبهم الله بها لتطلعهم للعيش في أوروبا متناسين أن أرض الميعاد وكذلك الأحداث الكبرى، 1958 و1967 و1973، كلها مجرد خطوات في طريق الخلاص وإسرائيل الكبرى".
المحلل السياسي الفلسطيني عبد المهدي مطاوع يعزز وجهة النظر تلك، باعتباره أن كل التحركات الإسرائيلية بداية من إقرار قانون القومية تحدث بدافع ديني، إذ بُنيت إسرائيل على رواية دينية ليست لها علاقة بالسياسة حسبما يقول لـ المنصة.
الباحثة والمترجمة المتخصصة في الأديان الإبراهيمية لميس فايد، تشير إلى أن الحكومة الإسرائيلية الحالية يمينية متطرفة تستخدم النصوص التوراتية لشرعنة استعمار فلسطين، غير أنها تختلف مع مطاوع فتقول لـ المنصة إن "البداية نحو إيجاد وطن قومي لليهود لم تكن بدافع ديني كامل، فالدين اندمج في مرحلة تالية، بقدر ما كان بدافع تأثر الحركة الصهيونية العلمانية بميلاد الدول القومية العرقية، ثم نظرة اليهود لأنفسهم كشعب وليست مجرد جماعة دينية أو عرقية".
المؤرخ عصام سخنيني، يرى في كتابه الجريمة المقدسة أن الصهيونية استغلت الشريعة اليهودية حتى تتحقَّق لها أطماعها الاستعمارية. ومن هنا يأتي مفهوم "شرعنة العنف" الذي تُشير له باربارا ويتمر في كتابها الأنماط الثقافية للعنف، بأن النظام الثقافي قادر في أوقات كثيرة على تشريع العنف.
"الحرب الحالية تشكل تطبيقًا حرفيًا لكل الرؤى الدينية التوراتية المتطرفة ضد الأغيار، وهو ما يظهر بوضوح في خطابات نتنياهو حين يستند لنصوص دينية لشرعنة عنفه تجاه فلسطين"، يقول مطاوع قبل أن يستطرد "هذه الأسفار التي تستند لها إسرائيل لا تقيم وزنًا لأي شيء له علاقة بالقانون الدولي الإنساني، وهذا السلوك ليس حديثًا، إذ مارست إسرائيل على مر التاريخ مذابح وإبادات وعقوبات جماعية في فلسطين تتناسب وأجندة اليمين المتطرف تمامًا"، حسب مطاوع.
ما يذكرنا بتصريحات نتنياهو "إنه صراع بين أبناء النور وأبناء الظلام. وبين الإنسانية والوحشية. وقد شاهدنا ذلك في الفظائع المروعة التي ارتكبها المخربون الآثمون في كيبوتس بئيري، وكفار عزة، وبلدات منطقة الغلاف وحفرة القتل للشبان والشابات في الحفلة في ريعيم".
الضحايا كعرض جانبي
تعرِض التوراة قصة خروج بني إسرائيل من مصر إلى أرض كنعان، في رحلة سقط فيها الكثير من الضحايا، بداية من أبكار مصر وحتى الشعوب التي قاتلوها في طريقهم، وفي كتاب "الكتاب المقدس والصهيونية" يشير المؤرخ الفلسطيني نور الدين مصالحة للطرق المتعددة للصهيونية، التي وظفت سفر الخروج باعتباره "قصة خلق"، وكيف أصبحت مهمة بوصفها "الأساس الأسطوري" لدولة إسرائيل الاستعمارية الاستيطانية الحديثة.
سياسة المحو والإبادة هما المنطق الجامع للاستعمار الاستيطاني
وهنا تشير فايد إلى أن الديانة اليهودية لها رؤيتها الخاصة في الحرب والسلام مثلها مثل باقي الديانات، وفقه الحرب تحديدًا مصادره واسعة، مثل أسفار موسى الخمسة والتلمود، وهو ما تستند إليه الأجندة الإسرائيلية الحالية، التي تصر على القدس عاصمة لوطن قومي بنفس الإصرار على تهجير الفلسطينيين، كما ذُكر في كتاب "لا بد أن يذهبوا" لمائير كاهانا، وهو حاخام ملهم للصهيونية، أكد على استحالة العيش المشترك بين اليهود والعرب على أرض فلسطين.
تتصاعد وتيرة الحروب في سفر يشوع (خليفة موسى)، وتتخذ نهجًا أعنف من السابق، فنرى إحراق مدينة أريحا وقتل كل من فيها بشرًا كان أو حيوانات. فحسب جون دوكر في كتابه أصول العنف فإن سفر يشوع "يشير للخصائص اللازمة لعملية الإبادة، وهي تدمير مجتمع وإحلال آخر محله".
انتهجت عصابتا الأرجون وشتيرن نمط الإبادة نفسه في مذبحة دير ياسين، فهاجمتا القرية الآمنة في فجر التاسع من أبريل/نيسان 1948، وفتح المسلحون النيران على النساء والأطفال ومثلوا بجثث الرجال، واستولوا على القرية بعد تفجير منازلها، وظهر مناحم بيجن فيما بعد ليقول "المذبحة ليست مبررة فقط، لكن لم يكن من الممكن أن توجد دولة إسرائيل بدون النصر في دير ياسين".
وفي الألفية الحالية، تبنى اليمين المتطرف في إسرائيل هذه الرؤية التوراتية، إذ أعلن بتسلئيل سموتريتش زعيم حزب الصهيونية الدينية عام 2017 عن خطة لحل الصراع مع الفلسطينيين سماها خطة الحسم، واعتمدها المؤتمر العام لحزب الصهيونية في 2022، وهي خطة تسعى لتديين الصهيونية كمحاولة لإضفاء الشرعية عليها، وارتكزت الخطة بشكل رئيسي على حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني لا إدارته، لأنه لا مكان لحركتين مضادتين بهذا الشكل على أرض واحدة، كما تبنت وروجت لفكرة "أرض إسرائيل الكاملة" التي لن توجد إلا بتهجير أو قتل الفلسطينيين، وبشكل واضح ذكر سموتريتش في مقدمته للخطة: "أنا شخص مؤمن بالتوراة وبكلمات الأنبياء ودولة إسرائيل بداية نمو خلاصنا وتحقيق النبوءات".
من فلسفة الاستحواذ ننطلق إلى الاستعمار الاستيطاني، وهو الذي يستند إلى كل الخلفيات الفكرية السابقة، فيشير أستاذ الفلسفة والدراسات الثقافية، بكلية الآداب، في جامعة بيرزيت، بفلسطين، أشرف عثمان بدر في ورقته المعنونة "الاستعمار الاستيطاني في فلسطين بين البنية والصيرورة" إلى أن سياستي المحو والإبادة هما المنطق الجامع للاستعمار الاستيطاني، حيث يقوم مبدأه على تمني اختفاء السكان الأصليين.
يشرح الباحث في المركز الفلسطيني للدارسات الإسرائيلية وليد حباس في ورقته "مفهوم الاستعمار الاستيطاني" أن معضلة الاستعمار الاستيطاني في فلسطين تكمن في أن عدم انتهاء الصراع مرتبط بعدم تمكن المستعمر من إبادة كل السكان الأصليين، حيث لا يزالون يقاومون ويطالبون بحقهم في تقرير المصير.
ويعتبر حباس أن الاستعمار الاستيطاني في فلسطين به استحالة لاستيعاب أو دمج السكان الأصليين ضمن مجتمع المستعمرين، بسبب الدين كفرق أساسي.
محو الأصل
حسب وكالة الأنباء الفلسطينية وفا، حرق الاحتلال ما يزيد عن 800 ألف شجرة زيتون وبرتقال في فلسطين منذ 1967، ويتجلى هذا النوع من المحو في حديث المؤرخ اليهودي إيلان بابه في كتابه التطهير العرقي في فلسطين، حيث يوضح تحت عنوان "إعادة ابتكار فلسطين" أنه بعد النكبة أعيدت تسمية الأماكن التي احتُلت ودُمرت وأعيد تكوينها، وأُنجزت هذه المهمة من خلال لجنة متخصصة كان هدفها الأول "عبرنة فلسطين".
وهنا يشير مطاوع إلى أن اليمين الإسرائيلي له رؤية توسعية، تتمسك بضم القدس، لأن مجرد قبول أي طرح يشير لسيادة فلسطين على القدس أو حتى الإشراف الدولي عليها هو ضربة في مقتل للرواية التي بنت عليها إسرائيل أحلامها وأجندتها.
هكذا يرى اليمين الإسرائيلي "الأمة اليهودية" ذات يد طولى في الأراضي الفلسطينية، يجب أن تمتد إلى باقي المساحات الواقعة ضمن إطار إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات، دون أي اعتبار للضحايا، ما دام "الله" معهم.