لا أرى من غزة سوى أنقاض يقف عليها من كُتب له البقاء.
نعيد بناء الأطلال، بالمعنى الحرفي القديم للكلمة. هناك حياة مرت ولن تعود كما كانت، فغزة نقطة فاصلة، الماضي الذي لن يتحول إلى حنين. قد نعود للوقوف أمامه، ولكن دون ندم أو بكاء.
الأطلال اكتمال لدورة زمنية من البناء والهدم، لذا نحتاج أن نتأمل هذه الحاقة التي تختفي تحت التراب، والبحث في طبقات هذه الأنقاض.
أطفال صغار يبحثون وسط التراب عن أثرٍ ما قد يكون ثمينًا. كلُّ الآثار ثمينة لأنها خرجت من الماضي الذي تهدم ولم يعد موجودًا. هناك أيضًا من الأطفال من يتجول وسط هذه الأنقاض، ليس بحثًا عن شيء بعينه، فهذه ملاعب الطفولة التي ستعيش في ذاكرتهم.
صور الموت تفوق مثيلاتها في أي نكبة سابقة، هي المرجع الجديد الذي سيُكَوِّن مخيلة هؤلاء الأطفال، سيختلط فيها اللعب بالموت، والمفقود بالتراب.
أطفال الأنقاض هم أطفال هذه النكبة، بعكس أطفال الحجارة، أو أطفال النزوح خارج فلسطين.
هناك أيضًا كبار يكشفون عورة هذه الأنقاض بحثًا عن بقايا الجثامين، أو أيّ آثار منها، تفضي للوصول إلى الماضي، عندما كانت أجسادًا حيةً بملامح يمكن التعرف عليها.
تئن الأرض تحت هذه الطبقة من الأنقاض البشرية.
دليل بيت أُبيد
أحدهم، وهم كثيرون، يشير لمكان بيته الذي ذاب وسط الأنقاض. يرسم أمام الكاميرات بيديه كروكيًا سريعًا لما كان عليه، يحتوي بعينيه المساحة التي كان يعيش فيها، واختفت، وذابت زواياها. يعيد بعث الأنقاض باتجاه الماضي، وتحويلها إلى بيت وشارع وجيران. ثم يجلس على إحدى الكتل الخرسانية، وأسياخ الحديد تحيطه من كل جانب، كأنها خيوط الشرنقة التي سيعيش فيها ولادته الجديدة.
تخلق الأنقاض أشكالًا ورموزًا تشير للحياة الثاوية على الجانب الآخر، منها أن نرى الأرض اليباب قبل أن نسير عليها، نتخيل اليوم الذي ستبدأ فيه إزالة هذه الأنقاض، ستظهر الصحراء الأولى التي كانت عليها غزة، قبل أن تبدأ رحلة البناء واستعمار الأرض.
تردُّنا الأنقاض لزمن البدايات بكل خشونته وخوائه وعدميته. ولكن أيضًا داخل هذا الزمن، وليس غيره، يمكن أن تكون هناك بداية جديدة تعبر من خلال هذا الموت الكثيف.
يتحول كل أهل غزة إلى مرشدين للذاكرة والتاريخ، باحثين في أركيولوجيا الحطام، للحجر والبشر معًا.
متحف الذاكرة
إثر أي تفجير، تتكون تلال وسهول من الخرسانات المهشمة يتفرَّق فوقها الناس في مستويات متباينة، يُجسِّمون بأجسادهم وحركاتهم هذا الانقلاب في طبيعة الأرض المستوية، يصنعون مساراتهم وسط هذه الأنقاض، تتشكل طرق جانبية تشبه المدقات القديمة. تنقذهم هذه التذكارات الصغيرة المتناثرة، هنا وهناك، من هذا العدم الثاوي تحت أقدامهم.
تتلاشى الحدود لأنها سُرقت من قبل باسم التقدم أو الحداثة أو السرديات الكبرى
كما بنى اليهود متاحفهم، بكل تفاصيل الحياة اليومية، والصور التي تؤرخ لعذاباتهم، ربما يُبنى من هذه الآثار المنثورة للبيوت وصور الأنقاض متحف كبير للذاكرة.
الأنقاض والحكايات هما أبطال المستقبل لهذا المتحف الكبير الشاهد على نوع من إنسانية عصر لا نزال نعيشه، وترزح تحته معادلات كونية وسياسية، فسدت بفعل التواطؤ والنسيان.
على الأنقاض نفسها، والبيوت المخربة بالقذائف، يقف أيضًا جنود إسرائيليون بمعداتهم الثقيلة وتجهيزاتهم الكاملة، كأنَّ الواحد منهم يمثل بيتًا، مختبئين وراء ما دمروه. يقف أحدهم خلف فجوة سببتها قذيفة من إحدى طائراتهم، يرى نفسه والآخر معًا، يحتمي بجدار في بيت عدوه، الذي قام بتدميره.
عدوه هو الذي يحميه الآن، لأن المعركة تقوم على أرض واحدة، دون حدود، مثل العلاقة النفسية والمادية بين المستعمِر والمستعمَر. تتلاشى الحدود، لأنها سُرقت من قبل، باسم التقدم، أو الحداثة، أو السرديات الكبرى.
الاستيلاء على الأنقاض
ذهب المستعمِر إلى أرض المستعمَر، أصبح كلُّ متاعِه متاعَه الشخصي: أحدهم يلعب بجيتار عثر عليه صدفة في أحد البيوت، آخر يفتح ثلاجة من استعمَرهم، ويتناول ثمرات من فاكهة عدوه، وثالث يمسك بإناء لا يزال ساخنًا كان موضوعًا على جزء من مائدة تهشمت، وصمد هذا الجزء ليحكي مشهدًا من حياة هذه العائلة، وآخر يتوسد "فوتيه" في بيت السنوار، كأنه يتحداه داخل بيته.
النصر بالنسبة لهم الاستيلاء على هذه الأنقاض، لأنَّ الأرض لم تعد مكان حسم الانتصار أو إعلانه. الاستيلاء على هذا البيت المتناثر هنا وهناك، الذي سيعاد تكوينه في المستقبل، ويبعث من الرماد، على هذه الذاكرة المهشمة مؤقتًا. الاستيلاء على أيِّ آثار من أرض المعركة: حائط، جيتار بلا أوتار، سلسلة ذهبية، عروسة طفلة، موبايل، طبق نحاسي، ملعقة فضية، حتى الهواء الذي كان يتنفسه عدوهم الفلسطيني، ألعابه، طعامه، تراثه، من أجل هدم ذاكرة المتحف المستقبلي لهذه الهولوكست البشرية الحديثة.
هناك أيضًا "لعبة الأنقاض" التي يلعبها أحد الجنود، "الذي يعشق جمع الصور". يضع المتفجرات في إحدى البنايات، ثم يبتعد عنها بمسافة، ومعه الشفرة التي سيتم بها تفجير هذا المبنى عن بعد، ويصر أن يأخذ صورة سيلفي فرحًا برأس السنة، ليرسلها لحبيبته، ومن ورائه تتهاوى البناية، كوحش يتحول إلى تراب، ويتصاعد الدخان، والغبار. وربما يضع موسيقى تصويرية لنهاية العالم وهذا الوداع المأساوي للحياة.
مشهد أي بناية وهي تتداعى شبيه بتداعي أي كائن حي، أي ذاكرة كانت تشغل هذه الأنقاض. هناك نقطة خفية داخل هذا الجسم الخرساني الأصم، تثير تعاطفنا، ليس فقط حياة من عاشوا به، ولكن صورة الحياة في أقسى تمثيل لها، وهي تنهار.
خروج العنقاء من وسط الأنقاض
تكون الخطوات سريعة فوق الأنقاض خشية أن تكون هناك جثة ما تحتها. الكل يهرول على هذه الأرض التي يعاد تكوينها من جديد. ليس فقط هم من يجرون، بل تجري الأرض من تحتهم، وهم يحملون المصابين على نقالات يدوية يسمح حجمها بالدخول وسط هذه المسارات الضيقة.
الخطوة المتعجلة نفسها يأخذها الجنود الإسرائيليون بالبيادات الثقيلة، خوفًا من الأشباح، أو الألغام الثاوية وسط هذه التذكارات والمخلفات.
هناك تراب جديد يولد تحت الأنقاض، لا يمكن أن تسير عليه بهدوء. التراب يدور والأنقاض تدور تحت الأقدام. هي رماد ونار، وأنين، وتذكارات.
الأنقاض هي المكان الذي سيتم فيه البعث، كما تخرج العنقاء من الرماد.
التراب هو المادة الأولى لأسطورة الخلق. هذه التفاصيل الصغيرة سيعيد أحدهم في المستقبل تجميعها، بدلًا من المفتاح القديم التائه منذ النكبة القديمة.
لكل جيل فلسطيني تذكارات وحفريات وماضٍ يجري بين الأصابع، وعلى الحوائط، وفي المتاحف الزجاجية للمخيلة.
حياة تخرج من الأنقاض
أثناء البحث بين الخرسانات المهشمة المعلقة على أسياخ رفيعة، كأنها منحوتات تتحدى استقرار الطبيعة باتزان خطر على تلك الحافة غير المنظورة للمعجزة؛ يعثر أحد المسعفين على طفل حمته الأنقاض. فجأة ينسى الجميع العدم الذي ينتشر من حولهم، وعدد الجثث التي أخرجوها، ويتمسكون بهذا الأمل، يصيحون فرحًا وتكبيرًا لإنقاذ هذا الطفل. فالمعركة هنا تدور وجهًا لوجه بين الأنقاض والحياة.
انهزمت الأنقاض، وانتصرت الحياة.
تنبثق حياة من وسط التراب، عنقاء جديدة تأخذ شكل هذا الطفل. تنصب الفرحة على الطفل الذي لا يعرفه أغلب منقذيه، لأنه رمز للحياة والمعجزة التي ينتظرونها.
أنين يأتي من هناك
إثر سقوط أيِّ مبنى، ينادي عمال الإنقاذ النداء التقليدي: فيه حدا عايش؟ ثم يبدأون البحث إما عن الموت، أو عن حياة لا تزال عالقة بأحد الأجساد.
قال أحد عمال الإنقاذ في لقاء متلفز إنه يظل يصرخ ويصرخ ليردَّ عليه أحد. أحيانًا يأتي الرد سريعًا، وأحيانًا أخرى يأتي أنين من هناك، ويظل البحث جاريًا عن مصدر هذا الأنين الذي أصبح طبقة من طبقات الأنقاض، مع التذكارات والجثث وأسطورة العنقاء.
أيضًا تحت الأنقاض هناك حيوات لم يصدر عنها أنين أو صراخ ولم تستجب للنداءات، ولكنها كانت حية، ومع مرور الوقت انضموا لقائمة الموت. هناك أم رفضت أن ترى أطفالها الذين قضوا 29 يومًا تحت الأنقاض حتى تحتفظ بصورهم كما تحبها في المتحف الزجاجي لمخيلتها.
أحدهم نشر مقطع فيديو في مدينة رفح لشاب يستخدم ملعقة طبخ لرفع الأنقاض، بحثًا عن أحياء أو جثث. هذا الشاب يصنع أسطورة جديدة كدموع إيزيس التي ذرفتها حزنًا على أوزوريس، وكانت سببًا في الفيضان. ربما الرابط بينهما هي تلك الأداة الصغيرة التي يمكن أن تحقق معجزة.
تمامًا كما حفر ستة من الأسرى الفلسطينيين نفقًا في أحد السجون الإسرائيلية المنيعة، ربما باستخدام الملاعق والسكاكين، كما هرب الكونت دي مونت كريستو، وقيض لهم أن تتحقق المعجزة ويهربوا، قبل القبض عليهم.
حائط مبكى جديد
ستكون هذه الأنقاض الشاهد لهذا الجندي المستعمر، عندما ينظر للحياة بعين جديدة، الذي سيعيد إحياءها في ذاكرته وذاكرة ذويه. سيعيد تكوين أدلة الجريمة والذنب، تلك البيوت التي تناثرت من حوله، وحوائط المبكى التي تكاثرت بسرعة البرق في كل خطوة، والأشلاء التي ذهبت بعيدًا في زاوية لتنزف في الظلام.
كل هذا سيكون له معنى في المستقبل، سيعاد بعث هذه التفاصيل، في المتحف الزجاجي للمخيلة، ولكن في صورة ذنب كبير، ربما يتحول إلى سجن للذاكرة اليهودية المستقبلية. المرجع الجديد الذي سيتحول إلى حائط مبكى جديد.