منشور
الخميس 30 نوفمبر 2023
- آخر تحديث
الخميس 30 نوفمبر 2023
أشفق على أمي، أراقب خوفها وتوترها بصبر عاجز. أعرفُ أنها ستعود فتسألني عن خالتي، وستطلب مني إعادة الاتصال بها مرة أخرى، وسأكذب كالعادة، كما أكذب الآن، وأقول إنهم جميعًا بخير في فلسطين؛ "سيناء" وزوجها وأبناءهما جميعًا.
في صباح السابع من أكتوبر الفائت انتبهت من غفوتي على هزة من أمي، كانت تردد أن شباب غزة يجتاح الأراضي المحتلة. كانت سعيدة ومستبشرة بينما تشير إلى التليفزيون وتهتف "دا نصر ربنا".
"سيناء" تعيش مع أسرتها الشتات والرعب وترقب الموت ولا سبيل لها غير الانتظار دون أمل
لم يستوعب عقلي الأمر بسهولة؛ ماذا يحدث وكيف؟ قوات من حماس تقتحم المستوطنات على درجات بخارية ومظلات هوائية... صواريخ على المستوطنات، أسرى، انتشاء وطني وقومي وعربي. بدا الأمر كمباراة أحرز فريقنا هدفًا في بدايتها، وعلينا أن نتابعها للنهاية.
كنتُ أقول لأمي؛ أمريكا وفرنسا وبريطانيا أعلنت دعمها إسرائيل فترد بيقين "ربك مع الحق"... ثم تتذكر خالتي سيناء التي سافرت مع زوجها الفلسطيني إلى غزة، وعاشت هناك في خانيونس، وأنجبت من البنين والبنات خمسًا. فتهز رأسها داعية "ربنا يسترها معاك يا سينا.. أنتِ وأولادك"، قبل أن تطلب مني الاتصال بها.
كلهم بخير
في أيام الحرب الأولى كانت خالتي متفائلة كذلك، توقن أن ما يجري على الأرض وعد السماء الذي سيتحقق بلا جدال. ولكن في الأيام التالية بدأت الأخبار السيئة تتوافد؛ "لا تحكِ لأمك.. زوج نهاد – ابنتها الكبرى- احتجز في مستوطنات اليهود. خرج مع الشباب وقت التسلل ولم يعد"؛ "لا، لم يعد بعد.. نرجو من الله ألا يسقط في أيديهم.. الكهرباء والماء انقطعا.. نعتمد على الطاقة الشمسية والمولدات"؛ "القصف قريب من منازلنا قد نُجبر على ترك المنطقة"؛ "نحتمي من القصف بمدرسة، نعيش في الفصول، الازدحام هنا شديد والموارد قليلة. ولكن ما باليد حيلة".
في مقابل كل رسالة مثل تلك كنتُ أقدم لأمي أخرى زائفة مختصر فحواها "الجميع بخير، ولا داعي للقلق".
غير أن القلق ظل هو السائد، تحاول أمي فهم ما يدور، وأحاول أن أوضح لها الطرق الملتوية التي تتبعها السلطة الإسرائيلية لتهجير الغزاوية إلى سيناء، فتتذكر أختها مجددًا، وتعود كذلك إلى أيام تهجيرها وأسرتها عقب العدوان الثلاثي، من بلدتها الأصلية الإسماعيلية إلى القاهرة. كانت تلميذة في الصف الثالث الابتدائي، وأمها وأبوها فلاحان، وهي وحيدة على ثلاثة صبيان، كانت الفتاة المدللة، يأبى أبوها إلا أن تستمر في التعليم؛ أحسن تعليم.
لكن قصفت الطائرات الإسرائيلية مدرستها، واستشهد تحت أنقاضها عم سنوسي الخفير، وكذلك انهدم منزلها القديم؛ "كنا نجري نحو البحر، وهناك غطسنا وهللنا وروحنا ندعو الله بينما الطائرات كانت تغطي السماء فوقنا".
ولدت بالقاهرة في أكتوبر 1973 بعد النصر فأسموها "سيناء" التي حررها الجيش من العدو الإسرائيلي
رغم ذلك العمر الطويل، فإن تلك اللحظة لا تزال عالقة في ذهنها، وحين تسترجعها، وكثيرًا ما تفعل، تبكي على الفور. مثلما تبكي الآن؛ السيارات في الإسماعيلية لم تكفِ غير النساء والأطفال، أما الرجال فمنهم من بقي للمقاومة ومنهم من نزل إلى القاهرة سيرًا على الأقدام.
وهناك أسست لهم الدولة مدينة جديدة في إمبابة تحمل اسم "مدينة التحرير"، وهو اسم مُناقض تمامًا لحال الأهالي الذين اغتصبت مدينتهم ووقعت تحت أسر العدو.
وبصرف النظر عن الأسماء، حاولت الدولة وقتها أن تقدم كافة الخدمات لمن تم تهجيرهم، فأنشأت المدارس والمراكز الرياضية والمصانع كالمطبعة الأميرية ومصنع النسيج. غير أن جدي كان فلاحًا فلم يستفد من تلك المميزات، ولم يستطع كذلك أن يلتحق بركب الصناعة. لذا صار عاطلًا رسميًا، أما البنت المدللة فخرجت من التعليم كإخوتها والتحقت بسوق العمل في سنها الصغيرة لتعمل خياطة على ماكينة سينجر.. هذا ما يفعله التهجير القسري بأهله!
هل من أخبار عن سيناء؟
تقسم أمي حياتها إلى ما كان قبل العدوان الثلاثي وما جاء بعده؛ طفولة سعيدة للغاية وبيت دافئ، ووالدان حنونان، ثم رحلة من الشقاء المتواصل لا ينقطع. وها هو التهجير يعود بسيرته القديمة؛ تهز أمي رأسها بخيبة وحزن على حال خالتي، تقول إن أختها الصغرى والوحيدة ولدت بالقاهرة، تحديدًا في أكتوبر 1973، بعد النصر، فأسموها "سيناء" التي حررها الجيش من العدو الإسرائيلي.
تقول أمي إن سيناء كانت محظوظة لأنها لم تشهد الحرب ولا التهجير. غير أن سيناء شبَّت فسقطت في حب سليمان الفلسطيني. رغم معارضة الإخوة الثلاث، ورغم الحروب الضارية التي دارت بينها وبينهم؛ كنت أحد الشاهدين عليها، وعلى انتصارها الذي تكلل بالزفاف.
لم تكن أمي سعيدة بتلك الزيجة، كانت تخشى من اليوم الذي سترحل فيه خالتي إلى غزة أرض الحروب، وهو خوف أبى إلا أن يتجسد، فانتقلت خالتي إلى خانيونس لتترك أمي في قلق دائم، يخفت ويشتعل لكنه لا ينطفئ أبدًا.. واليوم، وفي هذه اللحظة، يحرقها القلق.. وتتساءل مجددًا هل من أخبار جديدة عن سيناء؟
وسيناء تعيش مع أسرتها الشتات والرعب وترقب الموت، ولا سبيل لها غير الانتظار دون أمل؛ إبادة جماعية، أو تطهير عرقي كما تسمى الحرب على القطاع. معركة غير متكافئة كنا نرى نظيرًا مصغرًا لها في خناقات الشوارع، حيث يطلب القوي من الجميع عدم التدخل كي يستفرد بضحيته. ولكن، تلك حرب مختلفة، فمن يملك السلاح هنا تدعمه دول عظمى كأمريكا وفرنسا وبريطانيا. في المقابل لا يجد الأعزل حتى شربة الماء.
سأخبرك بالحقيقة يا أمي.. خالتي/أختك/أمي الصغرى ليست بخير على الإطلاق، إنها تعاني مع أسرتها تحت القصف المستمر والحسرة الدائمة، تعاني وجعًا وغضبًا وخيبةَ أمل في قادة عرب أشبه بعرائس الماريونت تحركها أصابع خفية، وشعوب تملك ذاكرة الأسماك ومشاعر المراهقات.. اليوم، أختك تعاني، وقد يكون مصيرها مصيرَ نساء غزة، مقهورة وشهيدة تحت الأنقاض. وبالأمس عانيتِ أنتِ من الحرب والغربة والحياة الموجعة، وغدًا سيعاني أولادي، بالضرورة.
يا أمي، غزة ليست بخير، وسيناء ليست بخير.. وأنتِ، أيضًا، لستِ بخير.. لا أحد بخير يا أمي.