
التلويح بكامب ديفيد وتباطؤ ترامب في "صفقة غزة العقارية"
منذ توقيعها قبل أكثر من أربعة عقود، لم تكن اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل في مهبِّ الريح كما حدث في الأيام الأخيرة، فإلغاء المعاهدة لم يعد مجرد ورقة تضغط بها القاهرة على تل أبيب وراعيتها واشنطن، بل سيناريو مطروح تُقدِّر المؤسسات المصرية تداعياته بشكل جدي، منذ أن أفصح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن نواياه بشأن تهجير سكان قطاع غزة.
فعقب تصريحات ترامب الصادمة عن اقتلاع الفلسطينيين من "قطاع غزة المدمَّر" إلى "مجتمعات جديدة أكثر أمانًا وجمالًا مع منازل جديدة وحديثة" في مصر والأردن، قدرت دوائر صنع القرار في القاهرة أن الرئيس الأمريكي الجديد يطلق "بالون اختبار" لتحفيز حلفاء بلاده في الشرق الأوسط على تقديم حلولٍ وبدائلَ أخرى.
ويرى أصحاب هذا التقدير أن المقترح يأتي في إطار الضغط من جهة على فصائل المقاومة الفلسطينية وفي القلب منها حماس، حتى تتوارى عن مشهد "اليوم التالي" وتفسح المجال للسلطة الفلسطينية أو أطراف أخرى يمكن التعامل معها في ملفات إدارة القطاع وإعادة إعماره، ومن جهة أخرى الضغط على المملكة العربية السعودية التي رهنت التطبيع مع إسرائيل بإقامة دولة فلسطينية على حدود عام 1967.
نجاح تلك الضغوط في تحقيق أهدافها سيمنح رئيس الوزراء الإسرائيلي المأزوم بنيامين نتنياهو "طوق نجاة". فالرجل الذي تلاحقه اتهامات الفشل والإخفاق في تحقيق أهدافه المعلنة من العدوان على غزة من حلفائه في الائتلاف الحاكم قبل معارضيه، وتوشك حكومته على السقوط وهو ما قد يعرضه ليس فقط للمساءلة السياسية بل القضائية أيضًا، لجأ إلى "أعظم صديق لإسرائيل" لإنقاذه. وما كان من الأخير إلا أن فجر قنبلة "التهجير"، وألح عليها رغم ما أحدثته من ردود فعل غاضبة، فأعاد التماسك إلى الائتلاف اليميني الحاكم في تل أبيب الذي تلقف المقترح واعتبره حلًا يضمن أمن واستقرار الدولة العبرية.
ليس مجرد بالون!
ولكنَّ القلق تصاعد في دوائر صناعة القرار بالقاهرة، مع استشعار الأجهزة المعنية أن الأمر لم يعد يقف عند حدود "بالون الاختبار" أو "التكتيك التفاوضي" الذي يطرح من خلاله الرئيس التاجر عرضًا "خياليًا" على الطاولة، بينما هو مستعد للقبول بما هو أقل وأكثر منطقية، لتقبل حماس بسيناريو اليوم التالي الذي يُرضي نتنياهو ويسمح له بتحقيق أهدافه بإخفاء حماس من المشهد، واستئناف الاتفاقيات الإبراهيمية مع دول المنطقة وعلى رأسها السعودية، دون تقديم شيء في المقابل، محققًا ما أسماه "سلام القوة".
لكن مِن الرياض جاء رفض هذا المقترح وبشكل أسرع من المتوقع، إذ أصدَرت السعودية بيانًا عقب تصريحات ترامب التي تحدث فيها عن سيطرة بلاده على غزة وثقته في تطبيع العلاقات بين إسرائيل والمملكة، أعادت فيه التأكيد على أن موقفها من قيام الدولة الفلسطينية "راسخ ولا يتزعزع وليس محل تفاوض أو مزايدات"، مشددة أنها لن تقيم علاقات مع إسرائيل دون تحقيق ذلك. ومن جهة أخرى أكدت حماس أن إدارة القطاع وترتيب أوضاعه في اليوم التالي شأن فلسطيني بحت ولا يحق لأحد التدخل فيه.
أما الحكومة الإسرائيلية التي تلقفت "صفقة ترامب العقارية" لتحويل غزة إلى "ريفييرا الشرق الأوسط"، فشرعت بالفعل في تنفيذ مخطط لإخلاء القطاع من سكانه، بينما تعرقل قوات جيش الاحتلال على الأرض وصول المساعدات الغذائية والطبية والمنازل الجاهزة "الكرافانات" لتدفع الأهالي إلى النزوح مجددًا نحو رفح بعدما أصبح من المستحيل الحياة في باقي مدن القطاع. كما أعلنت عن سيناريو "يسهِّل مغادرة الغزيين للقطاع ويسمح لمن يرغب من سكانه في الرحيل إلى أي بلد"، حسبما كشف يسرائيل كاتس وزير دفاع الاحتلال.
كاتس أعلن صباح الخميس الماضي أنه أوعز إلى جيشه بوضع ترتيبات لتسهيل "المغادرة الطوعية" لسكان القطاع، لافتًا إلى أن الخطة ستشمل خيارات الخروج من المعابر البرية إضافة إلى الترتيبات الخاصة للمغادرة عبر البحر والجو.
وبعد ساعات من تصريحات كاتس، التي لاقت ترحيبًا من شركاء الائتلاف اليميني الحاكم في إسرائيل وبعض أحزاب المعارضة، أصدرت مصر بيانًا يعكس استشعارها بالخطر، عبَّرت فيه عن رفضها لأي طرح أو تصوّر يستهدف تصفية القضية الفلسطينية من خلال تهجير الشعب الفلسطيني من أرضه التاريخية والاستيلاء عليها، سواء بشكل مرحلي أو نهائي"، مؤكدة أن "مصر لن تكون طرفًا فيه"، وحذرت من مخاطر ذلك على المنطقة كلها وعلى أسس السلام، على حد ما جاء في بيان وزارة الخارجية المصرية.
تعمل القاهرة على بلورة موقف عربي موحد في مواجهة مخططات الولايات المتحدة وإسرائيل
بالتوزاي نقلت أسوشيتد برس عن مسؤوليَن مصريين تصريحات لافتة حذرا فيها من أن الحديث عن طرد الفلسطينيين من غزة من شأنه زعزعة استقرار المنطقة، وتقويض اتفاقية السلام مع إسرائيل، و"هي حجر الزاوية للنفوذ الأمريكي بالمنطقة منذ أكثر من أربعة عقود".
المسؤولان المصريان أكدا للوكالة الأمريكية أنَّ القاهرة أوضحت لإدارة ترامب وإسرائيل، أنها ستقاوم أي مقترح كهذا، وأشارا إلى أن اتفاقية السلام مع إسرائيل، التي صمدت لقرابة نصف قرن، "ستكون في خطر".
وفي اليوم التالي أجرى وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي، جملة من الاتصالات مع نظرائه العرب، بهدف حشد موقف عربي موحد يرفض أي "إجراءات تستهدف تهجير الشعب الفلسطيني من أرضه أو تشجيع نقلهم إلى دول أخرى، أو المساس بحقوقه المشروعة غير القابلة للتصرف".
وتعمل القاهرة على بلورة موقف عربي موحد في مواجهة مخططات الولايات المتحدة وإسرائيل، والتي لا تستهدف فقط الحقوق الفلسطينية بل من شأنها ضرب استقرار دول المنطقة، وفي مقدمتها مصر والأردن والسعودية بعد اقتراح نتنياهو إقامة دولة للفسطينيين داخل حدودها، الأمر الذي دفع مصر إلى رسم "خط أحمر" لإسرائيل في المملكة.
معركة سياسية تشبه العدوان الثلاثي
عندما سُئِل الرئيس الأمريكى عما يتوقعه من ردود فعل عربية حيال خطته تجاه غزة، قال "لا شيء.. فقد اعترضوا من قبل عندما أعلنت عن نقل السفارة إلى القدس ولم يفعلوا شيئًا". يراهن الرجل على أن الأمر سيقتصر في النهاية كعادته على بعض البيانات والتصريحات المناهضة التي لن تغير من مخططاته.
لكن تهجير أهل غزة وترحيلهم إلى بلاد أخرى، واستيلاء الولايات المتحدة على القطاع لإعادة بنائه، يختلفان عن نقل السفارة إلى القدس أو الاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان المحتل، فالأمر هنا لن يقف عند ضياع القضية الفلسطينية ومعها حقوق الفلسطينيين وحسب، بل يتعلق بالخطر الداهم الذي يهدد الأمن القومي لدول المنطقة، وعروش حكامها أيضًا.
تدرك الأنظمة العربية جيدًا أن أي تفريط قد يؤدي إلى نكبة جديدة من شأنها فتح "أبواب الجحيم" على الإقليم، فتوابع وارتدادات طوفان السابع من أكتوبر ستمتد حتمًا إلى عواصم المنطقة إذا قَبِل حكامها بتمرير مشروع ترامب/نتنياهو.
"نخوض معركة سياسية ودبلوماسية تتشابه مع المعركة التي خضناها في 1956 إبان العدوان الثلاثي على مصر"، يقول مصدر رسمي مصري مطلع هذا الملف لكاتب السطور، مشددًا على أن القاهرة لن تتنازل عن موقفها تحت أي ظرف وتستعد للتعامل مع كل الضغوط.
ويوضح مصدر آخر قريب من دوائر صناعة القرار، أن الدول العربية الفاعلة متوافقة مع الموقف المصري، وأبدت استعدادها لدعم القاهرة في حال ضغطت واشنطن اقتصاديًا، "إلى جانب المعركة الدبلوماسية، رفعنا استعداداتنا لأي مواجهة محتملة، وتهديدنا بإلغاء اتفاقية السلام تهديد محسوب العواقب".
وتراهن مصر ودول المنطقة المتوافقة معها على أن الولايات المتحدة ستتراجع في حال وصل الأمر إلى حافة المواجهة مع دولة الاحتلال، وفق المصدر الثاني الذي رجَّح أن إدارة ترامب "لن تحتمل دفع المنطقة إلى مواجهة عسكرية لا يدري أحد مداها الجغرافي أو تداعياتها على مصالح العالم كله"، وذلك قبل أن يتراجع الرئيس الأمريكي ويعلن عدم تعجله في إتمام "الصفقة العقارية" التي طرحها للاستثمار في غزة.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.