الصفحة الرسمية للمتحدث باسم رئاسة الجمهورية، فيسبوك
الرئيس عبد الفتاح السيسي وزعماء الدول العربية، قمة الرياض 10 نوفمبر 2024

القمة العربية.. على من تطلق الرصاص؟

هل يصحو النظام الرسمي العربي أم يعود إلى غيبوبته؟

منشور الاثنين 3 مارس 2025

يوم غد سيكون نقطةً فاصلةً في مسار النظام الرسمي العربي، فقرارات القمة المرتقبة التي ستعقد في القاهرة ستكون حكمًا على من أصدرها من الحكام وما يشكلونه من نظام رسمي عربي؛ هل يستطيع أن يصحو من غيبوبته العميقة أم يعود إليها في الطريق إلى موت إكلينيكي أو نهائي؟ 

عجز النظام الرسمي العربي طويل؛ بدأ مع كامب ديفيد التي أخرجت مصر من الصراع لتنهي أهم عوامل تماسك النظام العربي وهو مواجهة الوجود الصهيوني والالتزام بالسعي لتحرير فلسطين. خرجت كامب ديفيد أيضًا على أهم ثوابت هذا النظام المعلنة في قمة الخرطوم 1967 بلاءاتها الثلاث: لا صلح لا اعتراف لا تفاوض. ولما عادت مصر إلى جامعة الدول العربية لم تعد وقد تطهرت من خطيئة الصلح المنفرد مع العدو بل عادت بخطيئتها لتنقل عدواها إلى فلسطين بأوسلو (1993) والأردن بوادي عربة (1994) وكلها نماذج للصلح المنفرد.

ثم تبنّى النظام الرسمي المبادرة السعودية ليعمّدها في قمة بيروت 2002 مبادرةً عربيةً تقوم على مبدأ الأرض مقابل السلام وتطلب دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو وعاصمتها القدس الشرقية، مقابل تطبيع العلاقات مع الدول العربية.

السلام المهين

السادات مجتمعًا مع كارتر وبيجن في منتجع كامب ديفيد، 7 سبتمبر 1978

لكنَّ هذا المبدأ أُطيح به في اتفاقات سلام أبراهام الذي قاده الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في رئاسته الأولى، وعقد بموجبه أربع صفقات مع الإمارات والبحرين والمغرب والسودان تأسست على مبدأ -بالأحرى لا مبدأ- منطوقه السلام مقابل السلام ومضمونه السلام المجاني الذي تحصل فيه إسرائيل على ما تريد دون أن تمنح العرب أي مقابل، وهو سلام فاسد خاصة أن الدول الأربع التي قبلت به لم تكن أبدًا جزءًا من الحرب مع العدو ولا تتماس حدودها مع كيانه العدواني.

مارس بعض هؤلاء الإبراهيميين علاقتهم بإسرائيل بترخّص مهين كأن لسان حالهم يقول الاستنامة للعدو لنا عادة ولعق حذائه سعادة، وهو ما أوصل النظام الرسمي العربي إلى القاع في أداء مسؤوليته المفترضة تجاه القضية المركزية الجامعة له وهي قضية فلسطين، فاستحق وصف الرجل المريض. 

غير أن هذا المريض دخل في غيبوبة عميقة طوال 15 شهرًا منذ بدأ طوفان الأقصى الذي برهن على أن قوة هذه الأمة العربية في شعبها ومقاومته الشعبية، وأن نقطة ضعفها في نظامها الرسمي الذي عجز عن تنفيذ القرار الوحيد الذي اتخذته القمة العربية الإسلامية في بداية الحرب، بإدخال مواد الإغاثة إلى غزة التي تعرضت لإبادة جماعية وتدمير وحشي وصمدت ببسالة أسطورية وحرمت العدو من تحقيق أهدافه المعلنة، بينما كان النظام الرسمي العربي يحرمها قطرة الماء ولقمة الغذاء وحبة الدواء، مستغرقًا في غيبوبته خاذلًا متخاذلًا، عن عجز أو تواطؤ.

ثم استفاق هذا النظام على الرائحة الكريهة لخنزير التهجير الذي أطلقه عليه ترامب. لم يعد الخطر والتهديد قاصرًا على المقاومة في فلسطين ولبنان ولا الشعب والأرض في فلسطين، بل تصاعد نذير الخطر مداهمًا مصر والأردن ومهددًا أمنهما واستقرارهما. فتهجير الفلسطينيين من غزة إلى سيناء تهديد مباشر لا يمكن لمصر ولا مؤسستها الحاكمة قبوله أو دفع كلفته من أمنها واستقرارها. وتهجير الفلسطينيين من الضفة الغربية إلى الأردن أشد وأنكى؛ فهو لا يهدد فقط استقرار الأردن بل استمراره نظامًا وكيانًا.

جاءت الاستفاقة بحجم التهديد رفضًا حاسمًا لما أعلنه ترامب وتمسكًا مُعلنًا بحق الفلسطينيين في البقاء على أرضهم وإدانة قاطعة للتهجير. لغة جادة حادة تحدث بها الرئيس عبد الفتاح السيسي واستُخدمت في بيانات الخارجية المصرية لم نسمع مثلها منذ وُقِّعت كامب ديفيد قبل 46 عامًا. ولم تكن لغة الملك عبد الله والخارجية الأردنية أقل حدة وحسمًا.

وحين تطوع نتنياهو في نشوة فرحه بقنابل دخان ترامب، مقترحًا اقتطاع جزء من السعودية لتوطين الشعب الفلسطيني المُهجَّر، صعّدت المملكة من رفضها القاطع الحاسم، ليتشكَّل مشهد جديد غير مسبوق شاركت فيه معظم الأنظمة، في استفاقة محمودة وإن جاءت متأخرة للنظام الرسمي العربي. وكان طبيعيًا أن يلتف حولها الشعب العربي الجائع للشعور بالكرامة وأن يؤيدها علنًا معارضو هذه الأنظمة فضلًا عن الموالين.

هل يستفيق العرب؟

في هذا المناخ تنعقد القمة العربية غدًا. 

يرى الدكتور أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية المرموق، وفق حديثه في ندوة نظمها حزب الكرامة الشهر الماضي، أن النظام الرسمي العربي يدخل بهذا الرفض لصفاقة ترامب في مرحلة الصحوة. ولعل الأدق أنه في استفاقة، وعلى ضوء قرارات قمة الغد يمكن أن ينتقل منها إلى الصحوة، أو أن ينتكس إلى غيبوبة أعمق تودي به إلى الموت. ولكن الانتقال إلى الصحوة مرهون بعدة شروط.

الشرط الأول

الوعي بحقيقة الأهداف التي يريدها ترامب ويخفيها وراء قنابل دخانه وروائح خنازيره الكريهة التي يزكم بها الأنوف ويدوخ الرؤوس. فالهدف ليس التهجير لأنه مستحيل والفضل في استحالته يعود إلى الشعب الفلسطيني الصامد في أرضه قرابة القرن، رغم وحشية آلة الحرب الصهيونية التي انتهجت سبيل المجازر في البدء ووصلت إلى الإبادة الجماعية في المنتهى. سيصمد الشعب الفلسطيني حتى لو كان وحده وسيكون أقدر لو كانت أُمَّته معه.

 لهذا فإن نجاح القمة ليس في إيقاف التهجير وإنما إفشال الأهداف القريبة التي يخفيها وختمت بها مقالي السابق؛ وهي ضم نحو ثلثي الضفة الغربية، وترحيل المقاومة خارج كل فلسطين، ومنع الفلسطينيين من إدارة غزة لحساب إدارة مدنية ترضى عنها إسرائيل، وإعاقة أو تعليق عمليات الإعمار والإغاثة لتظل غزة طاردة لأهلها بمعايير جودة الحياة، والعمل على توسيع اتفاقات أبراهام.

المطلوب من القمة موقف حاسم يؤكد أن معبر رفح تحت السيادة المصرية الفلسطينية دون تدخل إسرائيل

يُلزم السعي لإفشال هذه الأهداف قمة الغد أن تكون واضحة حاسمة، ليس في رفضها للتهجير فقط وإنما أيضًا في رفضها نزع سلاح المقاومة الفلسطينية. فلا يجوز قانونًا ولا عقلًا أن يُطلَب من شعب تحت الاحتلال أن يلقي سلاحه بينما الشرعية الدولية تكفل له حق مقاومة الاحتلال حتى تمام تحرير الأرض المحتلة.

ويُلزمها أيضًا بالإصرار على أن يكون اليوم التالي يومًا فلسطينيًا خالصًا، وعلى أنَّ إدارة غزة شأن فلسطيني. والسيناريو الأنسب لذلك، هو ما عملت عليه مصر من قبل باسم لجنة الإسناد، التي تتشكل من فلسطينيين أكفاء بموافقة السلطة والمقاومة. هذه القمة قادرة إن أرادت أن تُلزم السلطة الفلسطينية وباقي فصائل المقاومة وأولاها حماس، بإنجاز وحدة فلسطينية أصبح التخلف عن تحقيقها خيانة للشعب الفلسطيني وتفريطًا في حقوقه.

ويُلزمها ثالثًا باعتماد خطة إغاثة دائمة لا تعطي إسرائيل فرصة إعاقتها أو إيقافها كما فعلت هذا الأسبوع بإعلانها إغلاق جميع المعابر ومنع كل أشكال الإغاثة، في قرار ما زال ساريًا ويُرجَّح أن تنعقد قمة الغد في ظل سريانه.

كما أن بيدها اتخاذ مبادرة بشنِّ هجوم مضاد على الكيان الصهيوني يتضمن حق العودة وملاحقة مجرمي الحرب من قادته، وعزله دوليًا، ومطالبته بالتعويضات عن جرائم الإبادة وتحمل تكلفة تعمير ما خربَّه في عدوانه على غزة.

المطلوب من القمة موقف حاسم يؤكد أن معبر رفح تحت السيادة المصرية الفلسطينية دون أدنى تدخل إسرائيلي، وأنه المنفذ الرئيس لتدفق الإغاثة ولكل آلات ومواد الإعمار.

الشرط الثاني

الوعي بحقيقة الهدف الأوسع والأكبر، ولا أقول الأبعد، الذي يريده ترامب ونتنياهو؛ وهو الإجهاز على النظام الرسمي العربي، فهو مرفوض صهيونيًا وأمريكيًا حتى في حالة المرض التي تصيبه. والمطلوب هدمه تمامًا ليُبنى على أنقاضه نظام تهيمن فيه "إسرائيل" وتقوده بإكراه السلاح والتقدم العلمي وتستتبع فيه العرب كمصدر للتمويل والأيدي العاملة الرخيصة والمواد الخام وكسوق للاستهلاك. نظام جديد السيد فيه "إسرائيل"، وحكام العرب هم العبيد.

لن تكون هناك نجاة فردية لأي قُطْرٍ أو حاكمٍ عربي على حدة من هذا المصير المهين. سبيل النجاة هو موقف عربي موحد متضامن يجسده نظام عربي متماسك يقظ، يتبنى مشروعًا عربيًا واضحًا يحفظ الحد الواجب من الأمن العربي والحقوق والكرامة العربية وفي القلب منها حقوق الشعب العربي الفلسطيني. موقف موحَّد يُعبِّر عن صحوة إذا تأكدت يمكنها أن تنقل هذا النظام إلى مرحلة الندية ليس فقط في إدارة المواجهة مع أعدائه في "إسرائيل" ومن ورائها أمريكا، ولكن أيضًا في إدارة التنافس والتكامل مع جيرانه في إيران وتركيا وإثيوبيا.

الشرط الثالث

محطة وقود في أوريجون، الولايات المتحدة، تعلن عن تقليص مواعيد عملها بسبب نقص الوقود في 1973

الوعي بحقيقة أن الأمة العربية تمتلك عوامل قوة كافية تكفل لها الانتصار في هذه المواجهة، وتُمكِّنها من إفشال الأهداف القريبة والهدف الأوسع الذي يسعى إليه نتنياهو وترامب، وفضلًا عن عوامل القوة التي تمثلها حقائق الموقع الجغرافي ووفرة الموارد الطبيعية والقوة السكانية والقيمة الأخلاقية النابعة من تراث حضاري تاريخي ممتد، وكلها عوامل تحسب في ميزان القوة، فإن بين يديّ النظام الرسمي العربي سلاحين حاسمين إذا أجاد استخدامهما ضمن النصر في هذه المواجهة، أولهما اقتصادي والثاني سياسي.

أما السلاح الاقتصادي، فهو الثروة العربية في المال والنفط والغاز. وقد سبق أن استخدم النظام العربي بعضًا منه، عندما أوقف إنتاج البترول في جولة المواجهة مع العدو الصهيوني في حرب أكتوبر. يستطيع النظام نفسه استخدام السلاح نفسه الآن وخصوصًا مع ترامب التاجر الجشع النصاب الذي يفهم لغة الصفقات، ولا أحبَّ إليه من مال العرب وإلا ما استهل فترته الرئاسية بطلب 500 مليار دولار من السعودية التي تبلغ استثماراتها الحالية في بلاده قرابة 770 مليارًا. ولو أن مكونات النظام الرسمي العربي، خصوصًا الخليجية، وضعت سلاح المال في المواجهة مع ترامب، فمن المرجح أنها ستكسب. 

أما السلاح الثاني فهو سياسي؛ إذ يستهدف ترامب توسيع مدى اتفاقات أبراهام التي ارتبطت به ونجح خلال رئاسته الأولى في فرضها على أربع دول عربية. ويمثل هذا الهدف طموحًا شخصيًا يريد ترامب بتحقيقه إثبات جدارته بجائزة نوبل للسلام! ويملك النظام العربي أن يحرمه هذا الطموح، وأن يستخدمه ورقة ضاغطة على مائدة التفاوض معه.

صحيح أننا في استخدام السلاحين الاقتصادي والسياسي نحتاج موقفًا موحدًا متضامنًا، لكن يبقى زناد السلاح الاقتصادي في يد المملكة السعودية بالدرجة الأولى كونها من تملك الثروة الأوفر مالًا ونفطًا، مثلما يظل زناد السلاح السياسي لدى مصر، التي لديها فضلًا عن الثقل التاريخي والجغرافي والديموغرافي، الاتفاقية الأخطر التي أسست لمسار الصلح. وهذا يلقي على عاتق الدولتين المسؤولية الأكبر والدور الأهم في نجاح هذه القمة، وصد هجوم التهجير والانتقال إلى مرحلة الصحوة.

استخدام هذين السلاحين يتطلب قرارين واضحين من القمة، ضمن قرارات أخرى، أولهما سحب الاستثمارات العربية من الولايات المتحدة الأمريكية وتخفيض إنتاج النفط والغاز العربي ومنع بيعهما إلى إسرائيل، وتفعيل مقاطعتها اقتصاديًا  وفق القرارات السابقة للجامعة العربية وإعادة تنشيط مكتب المقاطعة فيها. وثانيهما تجميد كل اتفاقيات السلام المنفرد مع إسرائيل؛ كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة واتفاقات أبراهام، وإعلان سحب مبادرة السلام العربية التي سبق إقرارها في قمة بيروت 2002 طالما لم تستجب لها إسرائيل طوال 23 سنة مضت.  

لا شك في امتلاك الأمة العربية هذين السلاحين الحاسمين، ولكن لا يقين في إرادة النظام الرسمي العربي وجديته في استخدامهما دفاعًا عن نفسه وعن قضيته المركزية فلسطين.

نعم الرصاصة ما زالت في جيب النظام الرسمي العربي، ولكن هل سيطلقها على عدوِّه أم على نفسه؟

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.