في أقل من عام واحد، ظهر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مرتين وهو يستعرض خرائط لفلسطين التاريخية، تبتلع فيها دولته الإحلالية ما تبقى من الضفة الغربية التي شهدت مدنها ومخيماتها خلال الأسبوع الماضي مواجهات دامية بين فصائل المقاومة وجيش الاحتلال.
فعقب الإعلان عن وفاة ستة أسرى إسرائيليين في غزة مطلع الأسبوع الماضي عقد نتنياهو مؤتمرًا صحفيًا توعَّد فيه بالثأر لمقتل هؤلاء، وأكد تمسكه بتحقيق أهداف حربه التي بدا أن المستويين العسكري والأمني في إسرائيل يرغبان في وضع حدٍّ لها والانسحاب من القطاع، بعدما أُنهك الجيش الإسرائيلي ولم يعد قادرًا على الغرق في مستنقع غزة أكثر من ذلك.
خلال ذلك المؤتمر وقف نتنياهو أمام لوحة تفاعلية لخريطة استعان بها لإقناع جمهور بلاده بضرورة التمسك بمحور فيلادلفيا (صلاح الدين)، حتى يتمكن من قطع الأكسجين عن حماس وفصائل المقاومة، إذ يزعم أن احتلاله لتلك المنطقة الحدودية سيمنع تهريب الأسلحة من سيناء إلى القطاع.
خريطة نتنياهو قسمت فلسطين التاريخية إلى جزأين؛ الأول ظلله باللون السماوي وسمَّاه "إسرائيل"، ويشمل الضفة الغربية دون إظهار حدودها أو مسماها. أما الثاني فظهر بالأصفر، وأشار إليه بـ"قطاع غزة"، مع إبرازٍ لمحور فيلادلفيا.
ليست نيةً خفيةً
لم تكن هذه خريطة نتنياهو الأولى التي تبتلع الضفة الغربية، فقبل نحو عام وقف رئيس الوزراء الإسرائيلي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة ممسكًا بخريطة لإسرائيل تلغي وجود الضفة الغربية ومن ثَمَّ الدولة الفلسطينية الموعودة التي بشرت بها اتفاقيات أوسلو قبل 30 عامًا.
في الخريطة التي رفعها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، طغى أيضًا اللون الأزرق الذي يحمل كلمة إسرائيل على خريطة الضفة الغربية المحتلة ومعها أيضًا قطاع غزة، وهو ما كشف حينها عن نوايا نتنياهو وائتلافه الحاكم الذي لا يعترف بالحدود التي رسمتها الأمم المتحدة للكيان عند تأسيسه قبل 75 عامًا، ولا بما أقرَّه مجلس الأمن الدولي عام 1967 في قراره الشهير.
يؤمن نتنياهو ومعه النخب الصهيونية المتطرفة وبشكل عقائدي أن الضفة الغربية التي يطلقون عليها الاسم التوراتي "يهودا والسامرة" جزء لا يتجزأ من دولتهم، وبالدرجة ذاتها يؤمنون أنهم سيقيمون هيكلهم المزعوم على أنقاض المسجد الأقصى. يطمح هؤلاء إلى تمدد دولة إسرائيل الكبرى حتى تضم كل الأراضي ما بين نهري النيل والفرات.
لم يعد الكلام عن ابتلاع دولة الاحتلال لما تبقى من أراضٍ فلسطينية أو حلم الصهاينة في إقامة دولة إسرائيل الكبرى مجرد أحاديث مجموعات صهيونية متطرفة هامشية أو إسلاميين وقوميين عرب يحرضون على كراهية الاحتلال وأعوانه من المطبعين العرب. بل صارت خططًا وخرائط معلنة أُعدّت ورُسمت بعناية وتبنَّتها الحكومة الإسرائيلية وبدأت تحويلها إلى واقع، مستغلةً الدعم الغربي اللامحدود، والضعف العربي اللامحدود أيضًا.
"بين البحر والأردن لن تكون هناك سوى السيادة الإسرائيلية"، تكشف تلك العبارة التي وردت في برنامج حزب الليكود اليميني الإسرائيلي عام 1977 بجلاء كيف يفكر نتنياهو ورفاقه الذين يرون أن حدود إسرائيل مؤقتة وأن دولتهم المستهدفة ستمتد من "النهر إلى البحر". أما الأحزاب الصهيونية الدينية المشاركة في الائتلاف الحاكم فتذهب إلى أبعد من ذلك، إذ يعلن أعضاؤها وبدون مواربة أن دولتهم ستتمدد "من الفرات إلى النيل".
خلال زيارته للعاصمة الفرنسية باريس، مطلع العام الماضي، عرض وزير المالية الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموتريتش رئيس حزب الصهيونية الدينية خريطةً لإسرائيل تضم حدود الأردن وكامل فلسطين التاريخية، وهو أمر يشاركه فيه إيتمار بن غفير وزير الأمن الإسرائيلي وعدد من أعضاء الائتلاف الحاكم.
بشكل عام، لا يعترف قادة دولة الاحتلال بالحدود لا الجغرافية ولا السياسية، فأهدافهم التوسعية لم تنتهِ بعد، وطموحهم بضم كل ما يقع تحت أيديها من أراضٍ لا يقف عند حدود قرارات الأمم المتحدة، التي لم تقدم لها حكومات إسرائيل المتعاقبة وثيقة بحدود دولتهم التي تأسست عام 1948 فوق أرض اغتصبت من أصحابها، وشرَّعت المنظمة الأممية هذا الاغتصاب.
عندما سُئل ديفيد بن جوريون أول رئيس وزراء لدولة الاحتلال عن حدود إسرائيل، أجاب بأن "حدودها حيث يصل حذاء الجندي الإسرائيلي الأخير". أما شيمون بيريز، رئيس الوزراء الأسبق صاحب نوبل لـ"السلام" الذي طالما قُدَّم باعتباره من الحمائم، فكان أكثر مكرًا عندما طُرح عليه السؤال نفسه قبل التوقيع على اتفاقية أوسلو، إذ قال "هناك ثلاثة أنواع من الحدود؛ حدود جغرافية سياسية سيتم الاتفاق عليها في المستقبل، وحدود أمنية تصل إلى مياه الخليج وبحر العرب وباب المندب، وحدود اقتصادية أوسع من ذلك كثيرًا".
إذن ما طرحه نتنياهو وسموتريتش وبن غفير ليس جديدًا، فمخططات قادة الكيان الاستعماري على تنوع توجهاتهم الأيديولوجية ترمي إلى ابتلاع أراضي فلسطين التاريخية وهضمها أولًا، لتبدأ المرحلة الثانية ثم الثالثة وهكذا.
متى نتكلم بلغة القوة؟
تأسست الدولة الصهيونية ككيان استعماري استيطاني إحلالي، لا يهدف إلى نهب ثروات البلاد التي يحتلها كالاستعمار القديم، بل لبلع الأراضي وإجبار أصحابها على النزوح وتغيير تركيبتها الديموغرافية، ليتسنى له إقامة مجتمع يهودي نقي خالٍ من "الأغيار".
هذه السياسة الاستيطانية التي تبنتها إسرائيل منذ تأسيسها، لم توقفها قرارات أممية أو ضغوط دولية، فالاحتلال لم يُعِد أرضًا أو يفكك مستوطنة إلا بسلاح أصحاب الأرض، سواء في حرب نظامية أو عمليات مقاومة.
حدث ذلك عقب حرب أكتوبر مع تفكيك المستوطنات الإسرائيلية في سيناء تمهيدًا للانسحاب منها. وعندما تراجعت عمليات تشييد المستوطنات إثر اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987. وتكرر الأمر في جنوب لبنان عام 2000، وفي قطاع غزة عام 2005، بعدما أقر رئيس الوزراء حينها آرييل شارون بتصاعد خطورة العمليات الموجهة ضد قواته ومستوطناته، ليباشر خطة الفصل الأحادي للانسحاب من قطاع غزة.
عملية طوفان الأقصى التي مر عليها نحو عام هي واحدة من محطات مقاومة مخططات الاستيطان الصهيوني بتوسيع حدود إسرائيل على حساب الأراضي الفلسطينية. فقد نُفّذت بعد نحو أسبوعين فقط من ظهور نتنياهو بخريطته في الأمم المتحدة، وبعد سنوات من سحق حكومات إسرائيل المتعاقبة لاتفاقيات أوسلو، وتسليم معظم الأنظمة الحاكمة في المنطقة بأن الكيان الاستيطاني صار أمرًا واقعًا، وعليهم التأقلم وقبوله دون مقاومة أو حتى اعتراض.
لن يهزم إسرائيل في حرب الخرائط ولن يوقف مخططات قادتها التوسعية في فلسطين وغيرها إلا استمرار عمليات المقاومة. ولتستمر المقاومة صامدة باسلة، لا بد من إسناد عربي.. فهل من مجيب؟