
إنقاذ نتنياهو أم إسرائيل.. إلى أي خيار ينحاز ترامب؟
لم يكن مستغربًا أن تمنح الإدارة الأمريكية ضوءًا أخضرَ لإسرائيل لاستئناف عدوانها على قطاع غزة، فالاستراتيجية الأمريكية تجاه الكيان الصهيوني لا تتبدل بتغيّر الإدارات، قد تختلف التكتيكات بين الجمهوريين والديمقراطيين، لكنَّ الهدف ثابت؛ الحفاظ على أمن واستقرار دولة الاحتلال وضمان تفوقها على كل جيرانها وإفلاتها من المساءلة والعقاب. هذا أصل متفق عليه لا يمكن لأي رئيس أمريكي تجاوزه.
طوال أكثر من 15 شهرًا دعمت خلالها الإدارة الديمقراطية حرب الإبادة الجماعية التي شنتها إسرائيل في غزة، منَح الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عشرات الفرص ليحقق أهدافه من الحرب، التي لخصها في القضاء على فصائل المقاومة المسلحة التي شنت هجوم السابع من أكتوبر، وعلى رأسها حماس، واستعادة الأسرى من القطاع بالضغط العسكري، والعمل على ألا تكون غزة مصدر تهديد لسكان إسرائيل لعقود مقبلة.
ورغم ما حصلت عليه تل أبيب من واشنطن في تلك الفترة من دعم عسكري ومالي وغطاء سياسي ودبلوماسي، تُرجم في تجنيب دولة الاحتلال من المحاسبة في أي محفل أممي؛ فشل الجيش الإسرائيلي فشلًا ذريعًا في تحقيق أهدافه، فلا حماس انتهت، ولا الأسرى عادوا إلا بصفقتي تبادل، وغزة لا تزال مفرخة للمقاومين والمسلحين المعبئين بمشاعر الثأر والانتقام، ما يجعلها بؤرة تهديد دائمة لأمن الدول العبرية.
هزيمة "بيبي"
دعم بايدن غير المسبوق لا ينفي خلافه مع حكومة اليمين الصهيوني التي تقود إسرائيل، فالرئيس الأمريكي السابق كان يؤمن أن نتنياهو ورفاقه يشكلون خطرًا على مستقبل الدولة التي تعدّها الولايات المتحدة حاملة طائرات أو قاعدة عسكرية متقدمة تحمي مصالحها في الشرق الأوسط. لذا حاولت الإدارة الديمقراطية مرارًا خلال العام الماضي كبح جماح المتطرفين الصهاينة الذين يحكمون الولاية الحادية والخمسين، لكنها لم تنجح في مساعيها، بل نجح نتنياهو في حسم الخلاف لصالحه، إذ حصل من إدارة بايدن على ما يريد دون منحها شيئًا، وكان أحد الأسباب التي أدت إلى سقوط المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس في الانتخابات الرئاسية لصالح صديقه الجمهوري دونالد ترامب.
تخدم الحرب مصالح نتنياهو الشخصية وتساعده على التهرب من ثلاثة مخاطر تهدد استمرار حكمه
عقب حسمه للسباق الرئاسي، وقبل وصوله إلى البيت الأبيض، خطط ترامب لمنح صديقه نتنياهو بالضغط السياسي والدبلوماسي ما فشل في تحقيقه بالقوة العسكرية. استقرار إسرائيل وتأمين مستقبلها كان هدف بايدن كما ترامب، إلا أن الأخير أضاف هدفًا آخرَ وهو إنقاذ صديقه وتأمين مستقبله الشخصي والسياسي، لذا ضغط عليه للقبول بصفقة تقضي إلى وقف مؤقت لإطلاق النار واستعادة بعض الأسرى في المرحلة الأولى على أن يتم الاتفاق على باقي التفاصيل إلى مراحل لاحقة.
يعلَم ترامب أن المُضيَّ في الصفقة التي وقعت عليها إسرائيل وحماس بضمانات أمريكية مصرية قطرية، سينتهي إلى انهيار الائتلاف الحاكم في إسرائيل، ما يعني الذهاب إلى انتخابات مبكرة، يصعب أن يعود من خلالها نتنياهو إلى موقعه مجددًا، فبمجرد مغادرة الرجل لمنصبه ستفتح عليه "أبواب الجحيم" السياسي، من مساءلةِ فشلِه في حماية سكان مستوطنات غلاف غزة، وإخفاقه في تحقيق ما وعد به من "نصر مطلق"، فضلًا عن استكمال محاكمته دون حصانة في كل التهم الجنائية التي تلاحقه.
ولأن دوائر خصومه في القضاء والجيش والأجهزة الأمنية لا حصر لها، فمن المؤكد أن نتنياهو لن يخرج من موقعه إلا إلى السجن، لتكون تلك نهاية أسوأ دراما تعرضت لها إسرائيل في تاريخها. وبدلًا من أن يُكتب على تتر نهاية تلك المأساة الإسرائيلية عبارة "النصر المطلق" أو حتى "أخيرًا.. عاد الأسرى والهدوء المستدام"، ستوضع عبارة "الهزيمة" في إطار دموي وبجوارها صورة "بيبي"، لتبدأ إسرائيل بعدها فصلًا جديدًا من صراعات داخلية قد تؤدي إلى انهيارها، كما توقع إيهود باراك رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق.
حرب لا نهائية
وحتى يتجنب هذا السيناريو، فلا سبيل أمام نتنياهو إلا أن يخوض "حربًا لا نهاية لها"، كما توقعت صحيفة هاآرتس في تحليلين، نشرت الأول قبل أربعة شهور، والثاني بعد استئناف العدوان على غزة الأسبوع الماضي.
في التحليل الأول الذي نُشِر في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، رأت الصحيفة أن "استمرار الحرب، لا سيما في قطاع غزة، يخدم البقاء السياسي لرئيس الوزراء الإسرائيلي"، مشيرةً إلى أنه "من الصعب تصديق أن الحرب ستنتهي طالما نتنياهو هو من يتخذ القرارات".
ووفقًا للصحيفة العبرية، تخدم الحرب مصالح نتنياهو الشخصية وتساعده على التهرب من ثلاثة مخاطر تهدد استمرار حكمه، وهي؛ أولًا الانتخابات المبكرة التي يخشى خسارتها، وثانيًا تشكيل لجنة حكومية للتحقيق في الإخفاقات التي سمحت بوقوع هجوم حماس في السابع من أكتوبر 2023، وثالثًا محاكمته جنائيًا.
قد يتخلص من صديقه بيبي لكنه بالقطع سيمنح دولة الاحتلال فرصة للبقاء ولو إلى حين
أما الأسبوع الماضي، فقالت الصحيفة إن مجموعةً من العوامل تضافرتْ لاستئناف حرب نتنياهو، على رأسها تغيُّر الموقف الأمريكي، والضوء الأخضر الذي حصلت عليه الحكومة اليمينية بعدما حمَّل مبعوث ترامب ستيف ويتكوف حركة حماس مسؤولية انهيار المفاوضات، وأخيرًا إعادة وزير الأمن القومي المتطرف إيتمار بن غفير إلى الحكومة، لضمان موافقته على الموازنة العامة حتى لا تسقط الحكومة.
وليضمن نتنياهو تحقيق هدفه، عمل على التخلص من كل مناوئي استئناف الحرب، بدعم أمريكي واضح، فالرئيس الأمريكي الذي تضم إدارته مجموعة من المتطرفين الصهاينة لا يختلفون في توجهاتهم مع بن غفير وسموترتيش، لن يترك صديقه وحيدًا وهو يواجه "أبواب الجحيم".
ما لا يدركه ترامب أن دعم ومساندة نتنياهو في مساعيه ومنحه فرصًا جديدة لضرب غزة والضغط على حماس لإجبارها على الاستسلام، ثم توسيع رقعة الحرب في الشرق الأوسط، هو ما سيُعجِّل بالنهاية، فالتوترات تصاعدت خلال الأيام الماضي، واستعادت شوارع وميادين دولة الاحتلال مشاهد احتجاجات الاعتراض على مشروع "الإصلاح القضائي" التي هزت إسرائيل قبل نحو عامين.
الأربعاء الماضي أطلق عدد من الجنرالات من قادة الأجهزة الأمنية الأساسية السابقين حملة تهدف إلى عزل رئيس الوزراء "المنفلت في الدوس على القانون والمساس بالأمن القومي"، وذلك احتجاجًا على قرار إقالة رئيس جهاز الشاباك رونين بار الذي علقته المحكمة العليا، وإقالة المستشارة القضائية للحكومة، جالي بهاراف ميارا، التي تعارض بدورها إقالة بار.
رأى الجنرالات السابقون أن استئناف الحرب على غزة "تفريط بحياة المحتجزين الإسرائيليين لدى حماس وتضحية بأرواح الجنود هباء"، ورغم أن هؤلاء الجنرالات شددوا على أن مساعيهم تتخذ "طابعًا قانونيًا بعيدًا عن العنف"، يحذر الكثير من الإسرائيليين من "التدهور مرة أخرى إلى حرب أهلية، في ذروة الحرب الخارجية على ست جبهات في آن واحد".
خلال مشاركته في مظاهرة الأربعاء الماضي قال رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إيهود باراك إنه "بدلًا من تنفيذ اتفاق وقف النار والعمل بإخلاص على إعادة جميع المخطوفين، نفذ نتنياهو تعهده للحلفاء من اليمين المتطرف، بن غفير، ورفيقه سموتريتش، وقرر التضحية بأبنائنا من أجل الحفاظ على ائتلافه".
أما رئيس الموساد الأسبق، تامير باردو، فشن هجومًا حادًا على نتنياهو، "18 مارس/آذار هو يوم أسود آخر في حملة الدمار التي يقودها المتهم بالفساد.. فما يحدث الآن هو حرب نتنياهو من أجل بقائه".
لا يعلم أحد إذا كان الرئيس الأمريكي "غير المتوقع" سيمضي مع نتنياهو حتى النهاية، أم أنه سيعمل على كبح جماحه حفاظًا على مستقبل الدولة العبرية، بعد أن يثبت فشل رئيس الوزراء الإسرائيلي في استثمار الفرصة الأخيرة التي منحته إياها الإدارة الجمهورية. لو اختار ترامب الخيار الأول فالنهاية قد تكون قريبة، وإن تفجرت قبلها أنهار من الدماء. أما لو انحاز للثاني، فقد يتخلص من صديقه بيبي، لكنه بالقطع سيمنح دولة الاحتلال فرصة للبقاء، ولو إلى حين.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.