منذ حوالي ثلاثة أعوام كنت مقيمًا في الولايات المتحدة، شهدت وقتها كيف بلغت صورة إسرائيل وسيرتها مستويات سلبية قياسية، سواء في وسائل الإعلام أو في دوائر السياسة والأكاديميا. وأكثر من مرة سمعت بالنص من يصفونها بأنها "حفرة خراء أخرى في الشرق الأوسط".
بعدها نجح ستة أسرى فلسطينيين في سجن جلبوع من الهروب عبر نفق حفروه داخل زنزانتهم بدأب وعلى مدى زمني طويل، في قصة تعكس مستوىً استثنائيًا يُزكم الأنوف من الترهل الأمني والفساد الداخلي. كل من يعرف ما هو تفتيش السجون في أي بلد مهما كان متخلفًا يدرك ذلك بسهولة.
ومنذ عام ونصف العام، نجح مجند احتياط مصري اسمه محمد صلاح في اختراق الحدود مع إسرائيل وقَتْل عددٍ من جنودها بمفرده، منفذًا خطة أعدها بنفسه استنادًا إلى خبرته في ألعاب الفيديو جيم. هل كان الشهيد محمد صلاح فردًا استثنائيًا أم كان ترهل الجانب الآخر استثنائيًا؟ في الأغلب الاثنان معًا.
ومنذ بداية عام 2023، تمر إسرائيل بأزمة سياسية انتهت إلى صدامات خطيرة، على خلفية صراع القوميين العلمانيين مع القوميين الدينيين بشأن خطة قوى الصهيونية الدينية، للحد من سلطة المحكمة العليا ومنح الائتلاف الحاكم بقيادة بنيامين نتنياهو أغلبية في اللجنة التي تعين القضاة. انتفض القوميون العلمانيون لما اعتبروه انقلابًا قضائيًا يرمي إلى تقويض مدنية الدولة والاعتداء على الحريات العامة والشخصية.
تواصلت المظاهرات طوال أربعة شهور وكانت بعضها مليونية، وصاحبتها مستويات غير معهودة من العنف، وصلت إلى الدهس المتبادل بالسيارات ورش المتظاهرين بالمبيدات. وقتها اتهم بنيامين نتنياهو خصومه بتنفيذ أجندات خارجية، وبأنهم مدعومون من الملياردير الأمريكي اليهودي جورج سورس ودوائر ليبرالية أمريكية، لتقويض سيادة إسرائيل!
ثم جاء طوفان الأقصى على خلفية كل ما سبق؛ العملية الأكثر إيلامًا في تاريخ إسرائيل، التي أظهرت تفاصيلها مستويات مذهلة من الانكشاف الأمني وانعدام الجاهزية العسكرية. هزيمة خاطفة من ميليشيات إنما تتحرك تحت السيادة الجوية والتقنية المستمرة والتامة والمطلقة لإسرائيل، لأن البعض ينسى أن قطاع غزة جزء محاصر داخل إسرائيل نفسها، تخضع كافة إمداداته للسيطرة.
لماذا أسرد كل هذه التفاصيل المعروفة؟
لأن هناك صدمة كبيرة هذه الأيام بسبب تحوُّل إسرائيل من هذا "الكيان" المكشوف سياسيًا، داخليًا وخارجيًا، عسكريًا وأمنيًا، إلى هذه "الدولة" التي نراها الآن وهي تمتلك أعلى مستويات الردع، الحقيقي والاستعراضي، لدرجة مكَّنتها من اغتيال إسماعيل هنية في قلب طهران، ثم تصفية قيادة حزب الله العسكرية بأكملها، وصولًا إلى حسن نصر الله نفسه.
فمن أين جاءت هذه القدرة على تحويل الهزيمة الاستراتيجية في عام واحد إلى ما يبدو انتصارًا استراتيجيًا على حد تعبير محمود هدهود في بوست ذكي وثاقب؟ أو بلغة أكثر حدة، كيف تحولت إسرائيل في سنة واحدة من كيان مهزوز إلى مشروع للإبادة الإقليمية؟
إسناد الرعاة والحلفاء.. والخصوم!
هناك ديناميكيات إسرائيلية داخلية مهمة بالطبع، من بينها قدراتها مستقلةً على الحشد والتعبئة والاختراق السياسي الخارجي، دبلوماسيًا واستخباراتيًا. هذه القدرات عالية ومؤثرة، لكنها لا تجعل من إسرائيل واحدًا صحيحًا، مثلما أن طبيعتها كامتداد أمريكي في المنطقة لا يجعل منها صفرًا كاملًا.
مسار وتداعيات الأحداث خلال عام تؤكد أن جبهات إسناد إسرائيل تشكل الجزء الأكبر من قوتها الحالية. إسرائيل بدون جبهات إسنادها شديدة الضعف، صحيح أنها شديدة العدوانية والإيذاء بحكم قوة بنيتها التحتية التقنية والعسكرية، ولكنَّ شدة العدوانية هذه سببها ضعف إسرائيل الشديد، رغم كل الدعم والإسناد اللذين تتلقياه.
جبهات الإسناد هنا ليست فقط إمدادات عسكرية وأغطية سياسية وبنوك معلومات أمنية يوفرها الرعاة والحلفاء، بل أيضًا الشروط الموضوعية التي خلقتها كل أطراف المنطقة وتفاعلاتها في العقود الماضية، بشكل يُعبِّد طريق الشر والجنون الإسرائيلي الحالي. والإسناد مثلما يأتي من الأصدقاء، فإنه يأتي أيضًا من الخصوم والأعداء، بضعفهم وارتباكهم وغبائهم وطغيانهم وانتهاء صلاحيتهم السياسية، أو خيانتهم لقضاياهم.
الجبهة الأمريكية: صاحبة القرار
لسنا في حاجة إلى شرح طبيعة العلاقات الأمريكية بإسرائيل؛ الولاية الحادية والخمسين والقاعدة العسكرية البشرية في الشرق الأوسط. ولا إلى التذكير بأن 14 مليونًا من أصل 16 مليون يهودي في العالم يعيشون بين أمريكا وإسرائيل، بل إن عدد مَن يستقر منهم في الولايات المتحدة يتجاوز فعليًا عدد مَن يعيشون في إسرائيل، أي أن المسألة اليهودية بالمعنى العالمي، هي مسألة داخلية أمريكية بالأساس.
تكرار ما سبق غباءٌ مملٌ، لكنْ هناك مستجدٌ أمريكيٌّ كبيرٌ أشرت إليه في مقالات سابقة العام الماضي، وهو أن واشنطن قررت منذ عامين أن تُنهي حالة السلام العالمي. إنهاء هذه الحالة لا يعني أن تعلن الولايات المتحدة حربًا عالمية جديدة على الفور، بل يكفي ألَّا تمانع انزلاق الأوضاع والصراعات إلى حدودٍ قد تفضي إليها.
في هذه الوضعية، تنخفض الكلفة البشرية للعنف والصراع إلى حدود غير مسبوقة. الحرب التي انفجرت في أوروبا راح ضحيتها حتى الآن مئات الآلاف ممن يسمونهم "رجلًا أبيض". بالمعيار الاستعلائي العنصري والطبقي في تصنيف البشر ومراتبهم، فإن المناطق التي يقطنها ذلك المحمد أقل تكلفة في مستويات قمعها وإخضاعها وصولًا إلى إبادة سكانها، بل ويمكن تجريب ما هو جديد وخبيث وإجرامي من أسلحة دون رجفة رمش.
المفتاح الرئيسى لفهم إسناد الولايات المتحدة لإسرائيل ليس طبيعة الأخيرة كجزءٍ من الأولى، بل الطبيعة الحالية للولايات المتحدة كإمبراطورية قررت مُركَّباتها الرأسمالية إخضاع العالم وأسواقه بالقنابل لا بالتنافس. وفي هذا السياق، فإسرائيل هي المهاجم رقم 9 في التشكيلة الأمريكية في الشرق الأوسط.
الجبهة الخليجية: جرأة إعلان الحِلف
مستويات الإسناد الخليجية المتعددة تحتاج إلى قدر من التفصيل؛ فهذه الأنظمة لم تنكر للحظة تبعيتها للولايات المتحدة. في فيديو قصير يلخص كل شيء، يتحدث وزير الخارجية السعودي الأسبق عادل الجبير إلى من استقبلوه في الولايات المتحدة عن تحالف بلديهما الممتد منذ 80 عامًا، الذي هزما فيه معًا عبد الناصر في الستينيات، ثم السوفييت في الثمانينيات.
لكن ما استجد في العقد الماضي، هو أن المسافة التي اعتادت دول الخليج أخذها من إسرائيل لم تعد موجودة، بعد أن جعل الربيعُ العربيُّ من انتفاضات الشعوبِ عدوَّ الخليج الأول والأساسي، قبل إيران وحلفائها.
في شتاء 2018، عقد أحد المراكز البحثية الأمريكية المهمة جلسة مغلقة، أخبرني أحد من حضروها أن تركي الفيصل، مدير المخابرات السعودية الأسبق، أكد خلالها وبلا مواربة أن بلاده ستفعل أي وكل شيء حتى لا تتكرر ثورة يناير 2011 في مصر مرة أخرى.
كانت قوى الثورة المضادة العربية أكثر وعيًا بالثورات من الثوار أنفسهم. وفي هذا السياق تركت الإمارات موقع حكيم العرب الاقتصادي لتصبح لاعبًا سياسيًا يدمِّر كل بقعة في المنطقة. ومن موقعها الجديد، أصبحَت حليفًا رسميًا لإسرائيل، تشاركها المعلومات والعمل السياسي والاستثمارات، وكل شيء. ثم تطور الأمر لتصبح فاعلًا بذاته، يُعبِّر عن مصالح إمبريالية ورأسمالية ربما تفوق في تعقيدها ما تُعبِّر عنه إسرائيل في المنطقة. صارت للدولة الشركة مشروعات إقليمية لها من السمات ما يتجاوز أفق إسرائيل في إذلال الشعوب وبخس قيمتهم.
أما في الرياض، فيتصور النظام السعودي أنه قادر على ضبط إيقاع الأحداث والنتائج وفقًا لرؤيته وتصوراته عن نفسه. يعلن هذا النظام منذ منتصف عقد الألفية الأول أن تناقضه الرئيسي في المنطقة مع إيران وعلى قاعدة عداء مذهبي بالأساس. لكن ما لم يصرح به أبدًا، أن تناقضه الثانوي مع إسرائيل بات أقل ثانوية، إلى حدود التحالف شبه المعلن.
تمدد إسرائيل الحالي ليس عنوان قوة ولا تعبيرًا عن مشروع بل هو الفوضى والإخفاق
ليس للسعودية خطة تجاه المنطقة، ولا خطة لنفسها حتى. فبعد نوم مشروع نيوم، كريستيانو رونالدو وحده لا يكفي، ولا أتصور أن لدى السعوديين تصورًا عن ترتيبات للمنطقة بعد نزع النفوذ الإيراني، اللهم إلا الإنفاق المرغم على التحركات الإسرائيلية.
يتصور النظام السعودي أنه قادر على إجبار إسرائيل على الاعتراف بدولة فلسطينية ما، وفقًا لخطة ترامب وكوشنر، بعد أن تتمم إسرائيل مهمتها ضد إيران نيابةً عن دول الخليج. وبالتالي يحفظ السعوديون لأنفسهم بعض ماء الوجه وهم يعلنون أن العرب لم يخرجوا من المولد بلا حمص. ووفقًا للتعبير المصري سيكون هذا "في المشمش".
بدأب شديد، يكرر الصحفيون الموالون للنظام في مصر عبارة شوفينية مسكينة تقول إن الهدف من كل ما يجري في المنطقة حاليًا هو مصر. في الحقيقة أرى أن الهدف الأمريكي الحالي من كل ما يجري في المنطقة هو المال الخليجي، الذي لا يجد قوة عربية تحميه ولا يريد أن يجد هذه القوة، حتى إنه انصهر انصهارًا مع الصهاينة. هذا المال بالكلية معرَّض للتطاير والتأميم حين يتطور الصراع الحالي إلى حدود أبعد، والأيام ليست بعيدة.
الجبهة السورية: نكبة الإنسان العربي
في سوريا، وضع بشار الأسد معيارًا جديدًا للإبادة أعاد تسعير النفس البشرية في منطقتنا إلى حدود الحضيض، استخدمه السفير الأمريكي الأسبق في إسرائيل ديفيد فريدمان في بداية الإبادة وهو يرد على الصحفيين الذين يتهمون إسرائيل بالتطهير العرقي، عبر تذكيرهم بأن عدد الضحايا في غزة لم يتجاوز حتى 5% من ضحايا الحرب السورية، التي استخدمت فيها الأسلحة الكيماوية.
إذا كانت إسرائيل حفرة خراء جديدة في الشرق الأوسط بالمعايير الأمريكية، التي تعتبر المنطقة بمجملها حفنة من الهمج، فإن حفرة الخراء الأعمق في منطقتنا بمعاييرنا نحن العرب هي سوريا بشار الأسد، الذي فتح بلاده للاستعمار الروسي والأمريكي والإيراني والتركي، وحوَّل نفسه إلى جهاز أمني داعم ومنسق لوجود كافة أشكال الاحتلال، وفي الأثناء حوّل ما تبقى من بلاده إلى مصنع للكبتاجون ومخدرات الهلوسة.
هذا النظام الشيطاني بالتعريف بؤرة حية للجريمة وكافة أشكال الاختراقات الأمنية الإقليمية والدولية، وقد يكون تورط إيران وحزب الله في دعمه وقمع ثورة العوام والمناطق السورية ضده، هو ما سبَّب انكشافهما الأمني والاستخباراتي غير المسبوق.
حولت الإبادة التي ارتكبها الأسد سوريا إلى معيار لما يمكن أن تؤول إليه النوائب والنوازل. أضحت سوريا حجة الاستبداد في مصر، لنحتمل كل ما قد نعاني منه تجنبًا لمصيرها. المقاربة هنا لا تتعلق فقط بمخاوف انفراط الدولة وامتداد الدواعش، بل أيضًا في قدرة الدولة وطبقاتها الداعمة على إبادة سكانها. أضحت سوريا مثالًا لدولة لن تكترث وإن أصبح ثلث مواطنيها لاجئين حول العالم، والثلث الثاني لاجئين داخل بلدهم.
جرّأ أيضًا المعيار السوري السعودية على ارتكاب جرائمها في اليمن بعدها بسنوات معدودة، حيث تحول القصف الجوي إلى فعل اعتيادي لا يستحق التعليق، وانسحب الأمر على الممارسة السياسية فوجدنا النظام السعودي يختطف ويرتهن رئيس الوزراء اللبناني، وتقطع أجهزته الأمنية أجساد معارضيه بالمناشير في مقرات البعثات الدبلوماسية في الخارج.
وإذا كان ذلك هو المعيار العربي في المقاربة مع سوريا، فماذا عن المعيار الإسرائيلي؟ استشرفتُ في 2016، بينما كان الأسد يفعل ما لا يُفعل في الشعب السوري، أن إسرائيل ستجعل أفعاله هذه معيارًا لإبادة الفلسطينيين وأي شعب عربي لاحقًا بلا أي رادع. وهذا ما يحدث أمام أعيننا الآن.
الجبهة المصرية: مستعمرة غير محتلة
هذه أكثر الجبهات تعاسةً، لأنها حاصل خيارات تاريخية ظنت القيادة المصرية وقتها أنها تعيد تشكيل المنطقة بما يناسب مصالحها، فإذا بتلك الخيارات تتحول إلى ورطة استراتيجية شديدة الضرر محليًا وإقليميًا.
أوضحت في مقال إن مصر وإسرائيل لشريكان.. فصباح الخير عام 2016 أن اتفاقية كامب ديفيد هي العمود الفقري لمنطقة الشرق الأوسط كله، وأنه لا يمكن لأي مشتغل بالسياسة في مصر إنكار ذلك أو التعامل على أساس مختلف. كامب ديفيد هي الماضي الحاضر المستمر لنحو نصف قرن، الذي حاولت مصر خلاله التملص من ورطتها بحيل التذاكي والخيارات الانتهازية، أو دفن الرؤوس في الرمال.
لكن الإسناد المصري ليس مجرد أثر لمعاهدة السلام، فرغم أن مصر مبارك كانت رهينة استحقاقات كامب ديفيد، لكن بكل تأكيد لم يكن من المتوقع أن يحدث ما نراه هذه الأيام. هذا الإسناد يحدث لأن مصر اليوم أسيرة تمامًا لأزمتها الممتدة منذ عام 2013، التي أفقدت شعبها مواطنته وإرادته على كل المستويات، ما أفقدها في النهاية مناعتها السياسية.
الجبهة الداخلية في مصر ليست ضعيفةً بل معدومة. عندما سمح النظام ببعض المظاهرات في بداية الإبادة الإسرائيلية، خرج المصريون إلى ميدان التحرير وهتفوا عيش حرية عدالة اجتماعية من جديد، لأنه لا يصح إلا الصحيح، فكانت النتيجة إلقاء القبض على بعض من فتح لهم النظام باب التظاهر.
الوضع الحالي هو حاصل جمع ضعف إسرائيل والاستخدام الأمريكي الأرعن والخيارات الخليجية المتماهية
الحكم الحالي يسابق الزمن للحفاظ على سلطته على حساب مستقبل هذا الشعب، ليُفقِد مصر استقلالها دون حروب. فالاستقلال إرادة، والسيادة هي سيادة الشعب على أصوله وممتلكاته وحياته وكرامته، ونحن الآن أبعد ما نكون عن هذا الموضع بينما تواجهنا تهديدات وجودية في منابع النيل، وشعبنا في السودان يقتل أو يُهجَّر بينما السودان يتمزق وقد أصبح وجوده على المحك، بيدٍ إماراتية، أي إسرائيلية،
في عام 2013 تحدثت مع دبلوماسي مصري رفيع في حوار سمحت صداقتنا الطيبة أن يكون صريحًا على المكشوف. قلت له إذا كانت مصر تريد أن تدير ظهرها إلى المشرق العربي ومشكلاته الهيكلية، وتعتبر أن خطها الأحمر الوحيد هو حدودنا مع إسرائيل، فليكن هذا الخيار الانعزالي خيارًا كاملًا وحاسمًا على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية، حتى وإن لم يكن خيارًا معقولًا ومبدئيًا بحكم حتمية وحدة المصير العربي. وكان رده لحظتها أن الانسحاب الكامل غير ممكن، لأن مصر ليس بإمكانها الاستغناء عن أموال الخليج واستثماراته.
هذه الرؤية غير المبدئية التي عبر عنها صديقي الدبلوماسي هي مربط فرس الأزمة المصرية. فحكام مصر يريدون مال الخليجيين واستثماراتهم وما يتبع ذلك من تماهٍ حتميٍّ مع خياراتهم السياسية في المنطقة، دون أن تكون مصر جزءًا من تشكيل مستقبل المشرق العربي. ووجود المال الخليجي في مصر سيعني أن مصير المصريين سيصبح مشابهًا لمصير شعوب المشرق، في ظل السيادة الإسرائيلية الخليجية عليها، وإعادة تشكيل المنطقة وفق تصوراتها. أي أننا سنخضع للاستعمار بلا احتلال وللإذلال بلا إبادة، أو للإبادة بلا قنابل، وهذا ما استفضت في شرحه العام الماضي في مقال خلجنة مصر وبنغلة الأفندية.
الجبهة الإيرانية: مأزق استنفاد الدور
وهي جبهة إسناد سلبي بعد أن استنفدت نفسها تاريخيًا هي ومشروعها للممانعة، وبعد أن حلت محل مصر على مستوى التوازن مع إسرائيل، وهو حل شاذ لا يستقيم مع الجغرافيا السياسية ولا فارسية إيران. فإسلامية الثورة التي انتصرت في إيران بالتزامن مع خروج مصر من معادلة الصراع، لا تملك المقومات والمقدرات التاريخية التي تسمح لها بلعب دورٍ قياديٍّ مهما توفرت الإرادة العقائدية الثورية والموارد المالية الضخمة.
كما أسلفت سابقًا، كانت اتفاقية كامب ديفيد هي حجر الزاوية في المنطقة، ومن بعدها راوح الجميع في مساحة كيف يكون السلام ومتى وبأي ثمن، ومن هذا الموقع خرج مصطلح "الممانعة".
الممانعة تعني أن هناك مشروعًا للسلام تمانعه قوى إقليمية لأنه لا يلبي متطلباتها وتصوراتها، مثلما حدث مع سوريا الأسد عندما دخلت في مفاوضات سلام وتسوية، تعثرت في النهاية بسبب رفض إسرائيل للسلام وليس العكس.
لم يعد لمشروع الممانعة وجود الآن، لأنه لم يعد هناك مشروع سلام لتمانعه، وليس هناك احتلال جزئي متفق على حدوده لتقاومه، كما فعل حزب الله في الثمانينيات والتسعينيات. هناك فقط عدوان مفتوح لإعادة تشكيل المنطقة كلها بالعنف وبقرار أمريكي متحمس تحت العلم الإسرائيلي، وهذا فوق قدرات هذا المحور الذي ينتمي إلى زمن انتهى.
على كل القوى العربية التي تريد الحفاظ على وجود شعوبنا حية أن تعيد بناء تصوراتها بما يتلاءم مع جلال الخطب
في الحدود القديمة للصراع مع إسرائيل، كان بإمكان إيران أن تقود هذا المحور، أما وأنَّ الصراع تجاوز الحدود القديمة، فإن انسحاب إيران منه بات حتميًا، بهزيمة عسكرية أو بدون. فإيران لها حساباتها الاستراتيجية وتياراتها الداخلية، المتنوعة حتى من داخل نظام ولاية الفقيه نفسه.
كثير من هذه التيارات تريد لإيران النأي بنفسها عن كل هذا الصراع في مقابل تسوية تاريخية مع الولايات المتحدة تضمن بقاء هذا النظام القمعي، الذي يشارك الأنظمة العربية تعاستها وقلة حيلتها، جاثمًا على أنفاس الإيرانيين، مقابل الانسحاب التدريجي من مناطق النفوذ التي اكتسبها في المشرق العربي بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، وهو ما ينساه البعض، وأغلبهم في الخليج. إيران لم تمارس مؤامرات وحيلًا لتكتسب هذا النفوذ، بل إنه امتد نتيجة الاحتلال.
إيران تسلمت السيادة على مناطق من المشرق العربى من يد الفشل الأمريكي المدمر؛ للعراق باحتلاله ولسوريا باستبقاء ذلك البشار المجرم، الذي تحول معه حزب الله اللبناني من حالة مقاومة يفخر بها الظهير الإيراني وأغلب العرب، إلى ميليشيا شيعية طائفية تفترس السوريين وتستبد باللبنانيين شيعةً وسنةً ومسيحيين ودروزًا.
فشلت إيران في إدارة المناطق التي تمددت فيها بعد 2003. يعاني الناس في العراق وسوريا ولبنان أشد المعاناة من الأنظمة التي ترعاها إيران. في 2019، شكلت الطبقات الوسطى الشيعية القوام الأساسي لانتفاضة العراقيين ضد بنية السلطة الفاسدة والمتخلفة، وضد النفوذ الإيراني والأمريكي الذي يرعاها. أما سوريا، فلسنا في حاجة إلى تبيان موقف الغالبية العظمى لسكانها من الحضور الإيراني فيها.
ينسى البعض أيضًا أن إيران على موعد مع تغيير كبير ومزلزل، كافٍ جدًا لإرباكها سياسيًا وعسكريًا على المستوى الإقليمي، كنت أشرت إليه في مقال سابق بعنوان أزمة نصف الجمهورية الإيرانية، ذلك أن خلافة علي خامنئي ليست بالمسألة الهينة والرجل على أعتاب موتٍ قد يضع نظام ولاية الفقيه كله على المحك، نظرًا لاستحالة وجود من يملأ موقعه، بالصلاحيات نفسها التي ورثها من الخميني.
إيران بلد كبير جدًا، تتعدد فيه الميول والتيارات، وهى أكبر من ثنائية المحافظين والإصلاحيين التي يصدرها نظام ولاية الفقيه إلى العالم، ونحن لا نعلم أين سينتهى الحال بهذا النظام الذي قمع وبمنتهى الضراوة والشراسة والإجرام خمس انتفاضات جماهيرية كبيرة في آخر سبع سنوات.
لا يمكن فصل كل ما سبق عن الضربة الرهيبة التي تعرضت لها قيادة حزب الله الأسبوع الماضي، المسألة أكبر من كونها اختراقًا استخباراتيًا، بل هي في صميم الحسابات والخيارات السياسية.
في النهاية، أود الإشارة إلى أن تمدد إسرائيل الحالي، رغم مظاهر الترهل التي أشرت إليها في بداية هذا المقال الطويل، ليس عنوان قوة ولا تعبيرًا عن مشروع، بل هو الفوضى والإخفاق عينه، وسيولد ما لا يمكن تخيله في الفترات المقبلة.
هذا التمدد هو حاصل جمع الضعف الإسرائيلي نفسه، مع الاستخدام الأمريكي الأرعن واللحظي، مع الخيارات الخليجية المتماهية مع المنطق الصهيوني، وهي تتبنى المعيار السوري الذي خسف الأرض بقيمة الإنسان العربي، في ظل تداعٍ مصريٍّ مُذلٍّ، وانكشاف إيراني كان واضحًا لكل ذي عقل.
وعلى كل القوى العربية التي تريد الحفاظ على وجود شعوبنا حية على الأقل، أن تعيد بناء تصوراتها وترتب أوراقها بما يتلاءم مع جلال الخطب الحالي.
وهذا سيكون موضوع المقال القادم.