الجدل الذي أعقب زيارة وزير الخارجية المصري سامح شكري لإسرائيل اتسم في رأيي بسمتين، أولهما العصبية الغاضبة وثانيهما الإنهاك. فلاشك أن الأيام توالي قذف المرارات في وجوهنا بلا رأفة أو رحمة، وفي مقدمتها أن الدولة الحالية تتحرر بالتدريج وفي الممارسة اليومية من كل أثقال التراث الوطني التقليدي، بالشكل الذي يحرم خصومها حتى من لذة مكايدتها بفجاجة تناقضاتها الخطابية أو المزايدة على وطنيتها المزعومة بوطنية قديمة لم تعد ممكنة.
وزير الخارجية المصري يزور مقر الحكومة الإسرائيلية في القدس لا في تل أبيب، ويشاهد نهائي بطولة أمم أوروبا مع بنيامين نتنياهو فى ألفة وحبور، ولا يعلق أي تعليق على خطط إسرائيل المعلنة قبل ساعات من الزيارة بالتوسع في دعم المستوطنات في الضفة الغربية. أشياء بها من الفجاجة والقبح ما دفع الأقلام للتناوب عليها بالإدانة والدهشة وإعادة إنتاج الدهشة بشكل مبالغ فيه مما جعلني أجد في نفسي حاجة إلى كتابة عدد من الملاحظات ذات الصلة حتى وإن بدت غاضبة بعض الشيء، فأنا أيضًا في حالٍ بين العصبية والإنهاك.
أولًا: يجب التصالح مع حقيقة أن عمر الصراع العربي الإسرائيلي سبعون عامًا، وأن عمر معاهدة السلام والتطبيع بين مصر وإسرائيل هو آخر أربعين عامًا من تلك السبعين، أي أن في حساب سنين الصراع العربي الإسرائيلي مصر صديقة لإسرائيل أكثر مما هي في خصومة معها، وفي ميزان السنين تلك الصداقة هي واقع آخر أربعين عامًا.
ثانيًا: السلام هو السلام والتطبيع هو التطبيع. لا يوجد في رأيي شيء اسمه سلام دافئ أو بارد أو ساخن أو سلام مُهتاج. مصر وإسرائيل دولتان صديقتان منذ عام 1979 حتى وإن كانت هناك بعض لحظات من المناكفة والتناقضات الثانوية والعض المحسوب للأصابع. هناك خرافة خطابية مُخترعة اسمها أن هناك في الدولة المصرية من يريد فرملة التطبيع مع إسرائيل، أو ما سمي اختصارا بالسلام البارد الذي لم أره يومًا سوى سحابة دخان لتغطية جوهر طبيعة التطبيع نفسه، وكونه تطبيع مُحتَكر من قِبَل الدولة وأجهزتها الأمنية وطغمتها الحاكمة وبعض أجهزتها البيروقراطية ورجال الأعمال والبرجوازية المرتبطين بها بشكل موثوق ووفي.
بمعنى أدق، لا تطبيع للشعب وكل التطبيع للدولة وفقًا لأجندتها وحساباتها. تلك الدولة التي استولدت أجيالًا وأجيالًا من بيروقراطيتها الأمنية والعسكرية التي نشأت وترعرعت في ظل هذا الوضع، وتم بالفعل هندسة وتصميم دورها ونشاطها واستعداداتها في ضوء المعطيات المادية لعالم ما بعد كامب ديفيد.
ثالثًا: اتفاقية كامب ديفيد هي الوثيقة الأكثر قِدمًا وصمودًا في منطقة الشرق الأوسط، وهي أكثر الاتفاقيات المبرمة صرامة والتزامًا من قبل أطرافها ببنودها، وتكاد تكون حجر الزاوية للمنطقة من وجهة نظر السياسة الخارجية المصرية.
كامب ديفيد أصمد وأوقع وأكثر عملية ومادية من جامعة الدول العربية، ويمكن لكيانات ودول عربية أن تتفكك أو تتصالح أو تتخاصم أو تقيم مجالس للتعاون العربي ومجالس للوحدة المغاربية تأتي وتذهب، ولكن تبقى كامب ديفيد المصرية-الإسرائيلية صامدة لا تهتز.
وأدعي أن العلاقات المصرية الإسرائيلية تتسم بالحكمة والتفهم المتبادل والانضباط اللغوي واللفظي في إدارة الخلافات، كما تتسم بالترفع الواثق عن شظايا حملات التنابذ الإعلامي المعدة للاستهلاكات المحلية. بشكل أكثر اختصارًا علاقة مصر بإسرائيل علاقة متينة وناضجة.
رابعًا: غرس أنور السادات وهمًا هيمن لفترة على وعي ووجدان الدولة والساسة الرسميين في مصر، وهو أن مصر تستطيع أن تشارك إسرائيل حب الولايات المتحدة وأن تكون الشريك الأكثر قربا بعد أن تتعاقد على صداقة حميمة مع إسرائيل، وبعدها تعرض مصر استعداداتها لتقديم غطاءات للولايات المتحدة في المنطقة لا طاقة لإسرائيل بها، منها على سبيل المثال تصدر مصر وقيادتها لتكوين تحالف سياسي إسلامي لدعم المجاهدين الأفغان في مواجهة الاتحاد السوفيتي عام 1980، وقيادتها الرسمية والسياسية لتكوين التحالف الإقليمي الداعم لحرب عاصفة الصحراء ضد العراق عام 1991.
خامسًا: لأن رابعًا فشلت فشلًا ذريعًا، واتضح أن المقابل الذي نالته مصر نظير كل تنازلاتها وخدماتها للولايات المتحدة كان بالأساس المعونة العسكرية وغير العسكرية، وإلغاء بعض الديون أحيانًا، وأن على مصر ألا تطمح فيما هو أبعد من ذلك. لذا فقد اتخذت مصر مدخل آخر في التسعينيات لتتحدث عن ضرورة إبطاء وتيرة السلام العربى مع إسرائيل –سلام الآخرين وليس سلامها هي المبرم بالفعل- واشتراط تسريعه بإيجاد حل مقبول للقضية الفلسطينية.
وفي هذا السياق ظهر عمرو موسى وكلامه الموزون وحديثه عن المهرولين من قطريين وتونسيين ثم عودة الناصريين من الباب الخلفي ليحاربوا كل المطبعين ما عدا الدولة المطبعة نفسها طبعًا. في هذه اللحظة خُلقت أسطورة السلام البارد والساخن والدافئ وماشابه من أوهام.
أما المتمردون على هذه الصيغة من أبناء الدولة السابقين أو المنتسبين لها عرضا فتم التعامل معهم بمنتهى القسوة والحزم بدء بـسليمان خاطر ونهاية بـمحمود نور الدين، إما بالانتحار المزعوم داخل السجن المؤبد كما جرى للأول، أو الموت البطيء داخل السجن المؤبد كما قضت المحكمة على الثاني.
سادسًا: هناك وجهة نظر كانت لها وجاهتها يومًا ما؛ تقول إن للدولة المصرية تراث من الخبرة في مواجهة الضغوط الغربية بشأن سياستها الداخلية القمعية يقوم على إسكات الأصوات الغربية الناقدة لها عبر تقديم مزيدا من التنازلات الإقليمية ولاسيما في شأن مسائل الصراع العربي الإسرائيلي، أو فيما كان يطلق عليه تيسير عملية السلام ولعب دور الوسيط النزيه ورمانة الميزان. وهو الدور الذي ما لبث لاحقًا أن تم مزاحمة مصر فيه من أطراف عربية أخرى على رأسها قطر.
سابعًا: لم يعد لسادسًا معنى في لحظتنا الراهنة. وأدعي أن علاقة مصر بإسرائيل منذ أواخر عهد حسني مبارك اتخذت منعطفًا مختلفًا، ففي رأيي لم تعد إسرائيل في حاجة لمصر كوسيط بينها وبين أطراف عربية، بقدر ما أصبحت مصر في حاجة للصديق الإسرائيلي من أجل تحسين علاقاتها الآخذة في التدهور مع كثير من الأطراف الغربية بل والإقليمية أحيانًا. تحولت إسرائيل إلى شفيع ووسيط لمصر لدى الولايات المتحدة وربما بعض دول حوض النيل.
في الميزان المادي للعلاقات مع الآخرين يعتبر ازدياد التدهور أو البرود أو العزلة في العلاقات الخارجية بين مصر والعالم، ولنفتح قوس ونكتب (إيطاليا – الولايات المتحدة – إثيوبيا) مساويًا لازدياد التقارب من إسرائيل وتوثيق العلاقات معها بحكم قوة علاقتها بتلك الأطراف.
ثامنًا: لا يمكن لعلاقة العشق في السر أن تستمر أبد الدهر، خاصة من جانب إسرائيل، التي مع الوقت ستضغط أكثر وأكثر على مصر من أجل إعلان واضح وصريح وصاخب للشراكة العميقة المشتركة التي تبدأ في سيناء وتمر بجوارنا العربي كله وتنتهي في منابع النيل. إسرائيل لن تصبر كثيرًا وستطالب أو تفرض أمرًا واقعًا اسمه "سامح شكرى سيأتي إلى إسرائيل ليشاهد نهائي أوروبا مع بنيامين نتانياهو بعد أن يوقع في دفتر تشريفات رئاسة الوزراء الإسرائيلي في القدس المحتلة وسيتم تصويره وهو سعيد ممتن".
تاسعًا: ربما لا يكون لدى الدولة المصرية مردود عقائدي وخطابي متماسك لكل الممارسات المادية المذكورة سابقًا، لكني أعتقد أن لحظة الحقيقة تقترب في شأن العلاقات المصرية الإسرائيلية مثل كل وأي حقيقة تخص أى التباسات أو غيوم أخرى. هزيمة الثورة وإنهاك مصر بالمجمل فتحا الباب أمام ما كان صعب تصوره سابقًا، ولكن بالتأمل في التاريخ يمكننا ابتلاع ذلك بحكمة وحزن، فقد سبق وضَحى آلاف الجنود والضباط المصريين بأرواحهم بين أعوام 1967 و 1973 ولم يكن من الممكن أبدًا أن يتصور أي من هؤلاء الأبطال أن بعد أعوام معدودة على أصابع اليد سيزور أنور السادات القدس ويصف مناحم بيجن بالصديق الوفى. ولكنه حدث!
لا يجب في ضوء كل ما سبق أن يتم تذكير الدولة المصرية وداعميها، عتابًا أو كيدًا أو ردحًا، بجمعة الشوان والريس زكريا وكريم عبد العزيز ونادية الجندي وأدهم صبري ومهماتهم في تل أبيب، فتلك أمور لإعادة إنتاج واستهلاك التسلية ظهرت في سنوات "السلام" عن سنوات "الصراع".
اللعب الآن أصبح على المكشوف وليست تيران وصنافير ببعيدة، فقد بيعت الأرض بالآجل وخطب سلمان بن العزيز تحت قبة البرلمان وجامعة القاهرة، وسُجِن المعارضون لما حدث، أما المحظوظون منهم فتم افتداؤهم بـ100 ألف جنيه للرأس، ولم تنفجر الأمة ولم ينشق القمر، ولم ولن يتوقف مؤيدي النظام من زومبي الناصرية والوطنية المصرية عن تأييده ومحاربة المؤامرات الصهيو-صهيونية والسعيو-سعودية والفارسوـإيرانية في نفس ذات الوقت.
اللعب أصبح على المكشوف متجردًا من أي رمز أو خطاب أو روادع قيمية أو تراث محكي أو أي ملابس داخلية أخلاقية من أي نوع. تذكير الدولة ومخالبها بتناقضاتهم لن يعني إلا مزيدًا من العدوان العصبي الغاضب على القوى التقدمية كحفنة من الصهيو-صهيونيين، أما رجل الشارع العادي حالًا والآن فربما أصابه كل هذا بقدر من الحيرة أو بغصة ما في حلقه لكنه في كل الأحوال يحمد الله على عدم انقطاع الكهرباء ويدعو له مبتهلًا أن يوسع رزقه من أجل دفع فواتيرها.
الضغط على العاطفة المتولدة من أدبيات تراث الوطنية المصرية واستحلابها أصبح كالضغط على أعمدة لا ترفع سقفًا. الصراع في مصر تجاوز بالفعل حدود تلك المعاني ولا أبالغ حين أقول إن هناك في مصر من لديه الاستعداد للترحيب بقوات الجيش الإسرائيلي في شوارع التجمع الخامس إذا ما ضمنت أمنه وأمانه وماله ونمط حياته في لحظة تهديد وجودي. ولا ننسى أنه وفقًا لأحد أهم رجال البرجوازية الصناعية محمد فريد خميس فإن أشد الفئات خطرًا على مصر هم المثقفون، وليس إسرائيل ولا عزرائيل أو إسرافيل.