
أنور السادات الذي سبقه عصرُه بعامين فقط
تحدثت في المقال السابق عن أن خيار أنور السادات السياسي بالدخول إلى المعية الأمريكية كان أكبر من كونه هوىً شخصيًا، نعم كان خيارًا يعبر عن ميوله وتصوره عن الصالح العام، ولكنه لم يكن ليتحقق دون تأييد متحمس من قطاعات مركزية في النظام وفي مقدمتها القوات المسلحة.
يساهم الرئيس بقوة في تحديد السياسات العامة وتوجيهها، بيدَ أنه شريك لآخرين طوال الوقت، ومهمته هي إدارة التوازنات والتناقضات داخل دولته ونظامه من أجنحةٍ ومؤسساتٍ ومراكز قوى، بمنتهى الدقة والحساب، لتتحول سياساته من فرمانات عليا إلى واقع مادي قابل للإنفاذ بالفعل.
شركاء الرئيس في الحكم، وإن توافقوا معه في المضامين العامة، فهم يتركون لشخصه تحديد الأشكال والطرق التي ستُنفَّذ من خلالها السياسات لتتناص مع تركيبته الشخصية، وفي حالة السادات تطبعت سياساته بطباعه الخاصة، فجاءت غامضة وجسورة واستعراضية ومتطرفة.
ينسى البعض أن السادات ابن أربعينيات القرن العشرين أُلقي به في السجن بسبب تخطيطه لاغتيال القائد الوفدي أمين عثمان وعزمه اغتيال مصطفى النحاس باشا بذات نفسه، كان السادات إرهابيًا بالتعريف التقني للإرهاب، ومغامرًا إلى حد ارتقاء درج المشنقة.
قتل رجالًا وجُرِّد هو من حريته ومن رتبته العسكرية، وانقلبت حياته رأسًا على عقب في أكثر من موضع، السادات هو عنوان التطرف السياسي الذي تمكن في ملابسات معينة من الصعود إلى أعلى مراتب السلطة.
السياسي المتطرف هو شخص شديد الإيمان بنفسه وبدوره في التاريخ، والمتطرف المغامر بأفعاله قبل أفكاره مثل أنور السادات هو إنسان مغرور بالتعريف، فالرجل الذي يضع حياته على المحك في أكثر من مناسبة عليه أن يؤمن بنفسه إلى حدود غير معتادة حيث شعرات قليلة غير مرئية تفصل بين العزم والهلاك والمكر والجنون.
المقامر يبهرك مع نجاح مقامرته الأولى لكن قانون القمار معروف للجميع، ستفوز وتفوز وتفوز، ثم ستأتي لحظة تخسر فيها كل ما فزت به.
لم يكن السادات جادًا بشأن الانفتاح الاقتصادي لأنه كان يفهم أنه لن يحدث دون انفتاح سياسي
كان السادات أيضًا وطنيًا يمينيًا عاطفيًا، يؤمن بمصر إيمانًا عقائديًا وهي في قلبه بعد الدين دين، ومن هذا اليقين الروحاني الراسخ حسب السادات كثيرًا من حساباته غير الواقعية.
حين روَّج لفكرة الحلف الأمريكى بعد زيارة الرئيس الأمريكى ريتشارد نيكسون إلى مصر عام 1974، قدم تصوره للرأي العام وللدولة في صورة حزمة متكاملة، عناصرها هي الرخاء الاقتصادي الذي سيتحقق بانفتاح السوق، ثم الديمقراطية والحرية السياسية التي ستضمنها دولة المؤسسات والقانون والتي بدورها ستحمي وتنظم عملية الانفتاح، وأخيرًا شَرط ما سبق بوجود استقرار إقليمي عنوانه السلام مع إسرائيل.
هل كان السادات جادًا بشأن الانفتاح الاقتصادي؟ أشك كثيرًا في ذلك فالسادات ينتمي للبرجوازية البيروقراطية أكثر مما ينتمي إلى برجوازية الإمعات التي خلقها بنفسه، ولو صاهرها، ومهما اقترب منها وتقرَّبت منه.
لم يكن السادات جادًا بشأن الانفتاح الاقتصادي لأنه كان يملك الذكاء الكافي لفهم أنه لن يحدث دون انفتاح سياسي على الدرجة نفسها، وهو كان يعلم تمام العلم أن طبيعة نظامه السياسي لا تحتمل هذا النوع من التحول، وعليه أن يختار بين الفكرة التي يسوق لها وعدم نجاته هو نفسه في حال تحققها، فاختار عدم تحققها بالطبع.
نظرية الثدي الأيمن والثدي الأيسر
حكى لي المناضل الراحل محمود مدحت عن خطاب ألقاه علوي حافظ أحد قادة الضباط الأحرار في مؤتمر انتخابي خلال ترشحه لمقعد مجلس الشعب عن دائرة الدرب الأحمر عام 1976، كان علوي يميني النزعة ومؤيدًا متحمسًا لخط أنور السادات السياسي.
وقف الرجل أمام جماهير الحي الشعبي العريق مخاطبًا إياهم قائلًا إن إسرائيل تجلس على حِجر الولايات المتحدة متشبثة بالثدي الأيمن لا تكف عن الرضاعة منه، وعلى مصر أن تجلس على الحجر الآخر لتشرب من الثدي الأيسر بنفس القوة والحماس.
بالطبع لم يقُل النائب الموقر هذه الكلمات بالفصحى بل نطقها بالعامية الفجة الصريحة، وكانت كلماته هذه هي تصور السادات عن موقع مصر الجديد في خريطة المنطقة في ظل استمرار الحرب الباردة.
كان السادات يرى أن مصر، لا إسرائيل ولا إيران، هي الأجدر بمرتبة الحليف الأمريكى الأول في المنطقة، لأن وزنها وقدرها يؤهلانها لذلك، مصر هي العربية وهي رائدة تحديث العرب وسيتبعونها شاؤوا أو أبوا، وهي مسألة وقت.
بل إن السادات كان يتصور أن مصر ستحتوي إسرائيل وتُضعفها بالسلام، أو ما سُمِّي وقتها بهجوم السلام الذي سوَّق له كُتَّاب ومفكرون يساريون بوزن الراحل محمد سيد أحمد. فما دامت إسرائيل هي علّة أمريكا في المنطقة في توازنات الحرب الباردة فلتنهِ مصر هذا التناقض وتضوي هذه الدويلة الدخيلة تحت جناحها بالسلام.
بل ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، متصورًا أن تحالفًا مصريًا إيرانيًا "شانشاهيًا" بمشاركة تركية، قد يعيد صياغة المنطقة في إطار أمريكي بشكل يجبر باقي الأطراف على الطاعة. تجسد هذا التصور من خلال الأدوار المحورية التي لعبتها مصر فيما سُمِّي وقتها نادي السفاري، الذي كان آلية تنسيق أمنية عالية التطور بين الأجهزة الأمنية للدول السالف ذكرها، ومعها المغرب والسعودية وإسرائيل ودول أوروبية أخرى.
بدا ما سبق عاديًا ومنطقيًا في سنوات 1975 و1976، لكن ولأن السادات كما أعتقد كان ابنًا بارًا لعالمه، بل ابنٌ محافظٌ له، لم يكن يتخيل أن العالم الذي بَنى عليه حساباته سينهار في سنوات معدودة.
اندلعت الانتفاضة الشعبية الجارفة في يناير/كانون الثاني 1977 ضد حكم السادات وضد شخصه، وأصبح نظامه محل شك شعبي كبير. سماها السادات انتفاضة حرامية ولكنه كان يعلم هو وحكمه أنها ليست كذلك، لذا عجل ببدء عملية التسوية مع إسرائيل بأشد الأشكال مظهرية واستعراضًا، فكانت زيارة القدس الشهيرة بعد الانتفاضة الشعبية بأقل من عشرة أشهر.
في الأثناء، بدأ تصور السادات عن مستقبل المنطقة في الانهيار، فها هي إيران الشاه تختفي في ظرف عام ليحل محلها نظام ثوري إسلامي مناهض لأمريكا وإسرائيل. سقط الشاه الذي كان يراه حلفاؤه أقوى نظام في المنطقة وواحة الاستقرار فيها، بل وبثورة شعبية جارفة ومفاجئة.
أما تركيا فغرقت في مستنقع الجنرال كنعان إيفرين الذي لم ينتظر انتقال الحراك الثورى الإيراني ليتمدد في بلاده بلافتات يسارية راديكالية، فأقدم على انقلاب عسكري هو الأعنف والأكثر دموية في تاريخ تركيا، جعلها تنكفئ على نفسها لسنوات طويلة.
وكانت المفاجأة الأكبر للسادات في إسرائيل، التي لم ترَ كامب ديفيد كما رآها هو، بل راحت بعد توقيعها تشن عدوانًا تلو الآخر في المشرق العربي؛ فضمت القدس الشرقية والجولان، ثم قصفت المفاعل النووي العراقي أوزيراك، واجتاحت بيروت في أول احتلال لعاصمة دولة عربية ذات سيادة في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.
فماذا فعل السادات أمام تلك التغيرات العنيفة والسريعة التي أعقبت توقيع كامب ديفيد مباشرة؟ هل راجع نفسه وحساباته، أم غرس بقدميه في المزيد والمزيد من الحسابات المتقادمة التي تنتمي إلى عالم مضى، إلى حدٍّ أضرَّ بمصر داخليًا أضرارًا استراتيجية ظلت البلاد تدفع ثمنها حتى لحظتنا الحالية؟
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.