
هل كان السادات سابقًا لعصره أم ابنًا بارًا له؟
تركة يوليو القديمة الممتدة
كثيرًا ما يردد البعض أن أنور السادات كان سابقًا لعصره، لكنه في الحقيقة كان ابنًا بارًا له، جاءت انحيازاته وحساباته وتكتيكاته كلها من بنات زمنه، لم يكن يتخيل أن العالم الذي يعيش فيه ويناور من داخله سيتغير. تبدلت الأحوال سريعًا وهو لا يزال في الحكم وعجز عن الإحاطة بهذه التحولات، فراح ضحية تأخره عن إدراك التغيرات حوله، وفقد حياته مخلِّفًا لنا تركة تراكمت أثقالها حتى لم تعد لنا حيلة للتخلص منها إلا بتغييرات عميقة.
تشكَّل السادات "الرئيس" لا السادات "الناصري" من داخل عالم هزيمة 1967 المروِّعة. كان السادات عاطفيًا ولم يصمد وجدانه أمام ما تحمَّله إدراكه من عمق المصيبة التي حلت بنا، فأصيب بأزمة قلبية في الأيام الأولى التي تلت الهزيمة، ليتعافى بعدها بالتحول إلى العدمية السياسية التي تتراوح بين الإبهار الشديد في حال نجاح رهاناتها أو العكس تمامًا إذا فشلت.
بعد 1952، كان معنى الاستقلال في مصر عدم التبعية لأي قوة عظمى ومناهضة الأحلاف العسكرية الدولية، واللعب على تناقضات الحرب الباردة، فكانت مصر عمودًا فقريًا مؤسسًا لمنظمة دول عدم الانحياز، وأيضًا من الدول القليلة التي تحصل على مساعدات سخية من الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة على حد سواء، واستمرت المساعدات الأمريكية حتى عام 1966.
لكن بعد هزيمة 1967 حدث نوع من أنواع التوافق داخل أركان النظام المختلفة بجناحيه اليميني واليساري على أن سياسة عدم الانحياز كانت سببًا في الهزيمة، كل من موقعه ورؤيته. وأن هذه السياسة بقدر ما أتت من ثمار في حرب 1956، سببت هزيمة مدوية في 1967، وكان هناك ما يشبه الإجماع على أن شركًا محكمًا نُصِب لمصر في هذه الحرب، وأن الاتحاد السوفيتي يريد مصر ضعيفة ومعتمدة عليه تمامًا، وأنه في أهدافه النهائية لا يختلف عن الولايات المتحدة.
ترتب على هذه القراءة صراع حول سؤال لمن سننحاز؛ هل للاتحاد السوفيتى الذي يعيد بناء قواتنا المسلحة بالفعل بعد تدميرها، أم للولايات المتحدة التي ترانا بلدًا مهزومًا لا يستحق الإنصات إليه؟
كان أنور السادات بالمناسبة يقف في موقع وسط أقرب إلى اليمين بين المزاجين، وهو ما جعله محط توافق في لحظة معينة ليبدو وكأن بالإمكان الاعتماد عليه لإنفاذ خيار دون الآخر، زكريا محيي الدين وعبد اللطيف البغدادي كانا واضحين بشأن ضرورة انتقال مصر للمعسكر الأمريكي، أما علي صبري وشعراوي جمعة والجيل الثاني من تلاميذ عبد الناصر في تنظيم الضباط الأحرار فكانوا أميل لتعميق الحلف السوفيتي.
يغضب الناصريون كثيرًا حين يقال لهم إن أنور السادات كان من أكثر الناصريين ناصرية، وأنه كان آخر أقرب رجال عبد الناصر من داخل مجلس قيادة الثورة والضباط الأحرار، وأن خلافته لعبد الناصر كانت لهذا السبب بالذات، أكثر من كونه دمية يمكن قيادتها من الخلف بواسطة مراكز القوى. يعلم الجميع في مصر أن "الريس" هو "الريس"، وأن منصبه ليس هزلًا ولا يمكن المخاطرة بوضع أيٍّ من كان في هذا الموقع، لأنه موقع يستمد قوته من ذاته.
بيد أن ما حسم الخيار بالفعل لم تكن صراعات الأجنحة في قمة النظام والسياسيين من حولهم، ولا رؤية الأجهزة الأمنية وأولوياتها، ولا الميل الأكثر شعبيةً في الشارع السياسي والطلابي وقتها. في الواقع ما حسم الخيار الاستراتيجي وقتها كان الميل الغالب داخل القوات المسلحة، الذي عبّر في أكثر من موضع عن نفور شديد جدًا من التقارب مع الاتحاد السوفيتي.
هذا الميل اتخذ أشكالًا عنيفةً وحاسمةً في صورة محاولتين انقلابيتين على أنور السادات وعلى قيادة أركان الجيش ممثلة في الفريق سعد الدين الشاذلي، كانت أهمهما وأخطرهما المحاولة التي قادها اللواء علي عبد الخبير قائد المنطقة المركزية، وكانت على وشك النجاح بالقبض على السادات والشاذلي أثناء زفاف ابنة الثاني.
هذه القصة المطمورة عمدًا في صفحات التاريخ المصرى الحديث ربما كانت السبب في محاكمة الشاذلى بتهمة إفشاء أسرار عسكرية في مذكراته المنشورة عن حرب أكتوبر، ولكن اللواء محمد زكي عكاشة أحد قادة القوات الجوية وقتها تحدث عنها بشكل أكثر إسهابًا في كتابه جندٌ من السماء.
كانت الرسالة واضحة من قطاعات مؤثرة في القوات المسلحة، خاصة بعد توقيع السادات اتفاقية الصداقة المصرية السوفيتية، إذ تحركت أجنحة داخل القوات المسلحة ضد النظام في وقت شديد الحساسية من تاريخ البلاد، كانت فيه القوات المسلحة في أشد درجات استعدادها للمعركة.
وحين تكون هناك محاولتا انقلاب على السادات بدعوة أنه دمية روسية، وهو من يصعب اتهامه بالذات بهذه التهمة، فهذا معناه أن قطاعات مؤثرة في القوات المسلحة قررت تحديد خيارين استراتيجيين لمصر؛ الأول هو الاستمرار في سياسة عدم الانحياز، وهو الخيار الذي تقرر تركه من البداية، والثاني هو التحالف الاستراتيجي والعضوي مع الولايات المتحدة، الأمر الذي حدث بالفعل في السنوات اللاحقة.
إن تركة أنور السادات أكبر بكثير من أن تُنسب إليه وحده، فهذا في جانب يعتبر ظلمًا كبيرًا لشخص الرجل وحدود قدراته الذاتية والفردية على فرض الخيارات وتحديد المسارات. نعم حاكم مصر فرعون، ولكنه لا يحكم وحده، فهناك نظام له ميول واتجاهات ومصالح وحسابات وكتل وحواضن اجتماعية، والفرعون ليس فرعونًا إلا برجاله وأركان حكمه.
هذا المسار لم يحدده السادات وحده، بل معه القوات المسلحة وقطاعات كبيرة في الأجهزة الأمنية وبرجوازية الريف وجزء معتبر من البرجوازية البيروقراطية وقطاعات من الطبقة الوسطى، في مواجهة قطاعات مجتمعية أكبر وأوسع. فنحن مجتمع ولسنا خرابة، وعزو التاريخ ومساراته إلى دور لأفراد بعينهم هو عين الإنكار والتحرر من المسؤولية الجماعية.
وبناءً على هذا الخيار الاستراتيجي للكتلة الغالبة لدولة يوليو في هذه المرحلة، قرر أنور السادات التوجه بتطرف نحو الخيار الجديد، بتطرف ومظهرية واستعراض، وبتصور محافظ جدًا عن السياسة وقتها، اعتبر أن لحظته الراهنة ستمتد إلى ما لا نهاية.
الحقيقة لم يكن السادات سابقًا لعصره بل ابن محافظ له، وربما بشكل زائد عن الحد، فدفع حياته ثمنًا لذلك. ولكن هذا موضوع مقالٍ قادمٍ.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.