
التماس إلى السيد المسؤول عن الملف الكيميتي
فجأةً، وبدون مقدمات سياسية أو حركية، وفي أجواء يتسيد فيها استبدادٌ غير مسبوق في تاريخ مصر الحديث أَخرَس المصريين وحرمهم من حرفتهم الأصيلة، وهى التعبير والكلام الحر، أطل علينا من الفضاء الرقمي تيار يُسمى بالكيميتيين أو الكمايتة، لا نعرف له أصولًا سياسية ولا تراثًا حركيًا أو رموزًا فكرية وأدبيات مكتوبة تُأصِّل له.
ولأنه حالة غريبة فعلًا، يخلط البعض بين الكيميتية والفرعونية الثقافية، ويعتبرونهما شيئًا واحدًا، وهذا غير صحيح. فالفراعنة الثقافيون الذين دعوا خلال القرن العشرين إلى تأصيل واحترام واستحضار الثقافة المصرية القديمة كان لديهم ميل واضح إلى احترام التعددية وإدراك التنوع التاريخي الضارب بجذوره في التاريخ المصري.
لذا، لم تكن أولويتهم تغليب مكون على آخر، بقدر إبراز امتزاج العناصر التي كوَّنت الهوية المصرية من وجهة نظرهم التي لا أتفق معها. لكنهم في النهاية حالة متسامحة ومنفتحة، تحب العامة ومفرداتهم، وتحترم المكونات الريفية، والأهم أنها تبحث بجديةٍ عن أواصر تربط هذا البلد بتاريخه وعناصر حياته اليومية التي تُشكِّل شخصية أبنائه.
كان المخرج الراحل شادي عبد السلام ممثلًا رقيقًا وأمينًا لهذا الميل الثقافي، عبر عنه بجمال وروعة في فيلمه الروائي الطويل الرائع المومياء.. يوم أن تُحصى السنين، وأفلام تسجيلية وقصيرة مثل شكاوى الفلاح الفصيح وجيوش الشمس وغيرهما، وجميعها صنعها شادي بالعربية الفصحى.
لكن هذا الميل الثقافي كانت له تجلياته الغاضبة التي عبَّرت عن رفضها طغيان المكون العروبي والإسلامي في مصر على مجمل اللوحة المصرية المعقدة، وصل بعضها في الحدة إلى حد إنكار العربية كلغة للمصريين والسعي إلى فصلها بشكل تام وقسري عن العامية المصرية التي اعتبروها لغة بذاتها.
عبر عن هذا المزاج وبوضوح بيومي قنديل في كتابه حاضر الثقافة في مصر، لكن في كل الأحوال، وعلى اختلاف الدرجة والعمق والرصانة الثقافية والمعرفية، حملت هذه التجليات الغاضبة في داخلها عناصر الجدية والانفتاح، حتى لو تخللتها بعض الأنفاس الطائفية أحيانًا.
خليط متنافر في عقلٍ سيادي
أما الحالة الكيميتية، فتتصف بالعدوانية الشديدة تجاه أي آخر، في الداخل أو الخارج، في الحاضر أو التاريخ. محورها تقديس الدولة والتنبيه إلى المخاطر التي تحيق بها من كل جانب، إلى جانب الهجوم على المعارضة واليسار والعروبية والميول الإسلامية والمهاجرين والعرب، عدا الإمارات، والأفارقة والسودانيين وطابور طويل من العناصر المتنافرة والميول المختلفة والمتناقضة أحيانًا، باعتبارهم جميعًا كتلةً واحدةً مصمتةً تراها الكيميتية في وحدتها ضد مصر شرًا محضًا خالصًا يحيط بها من كل جانب، وَجَبت محاربته واجتثاثه.
ركزت الكيميتية بالأساس على محاربة نظريات المركزية الإفريقية، وهو ما يحمل قدرًا من المنطق، غير المقبول، في إطار محاولة التعبئة ضد إثيوبيا ومعركة المياه المصيرية التي تخوضها مصر، وهي المعركة الأكثر جدية وحسمًا في تاريخها كله. ولكن الكيميتية تركز أيضًا على الانعزالية المصرية وتراها ضرورية في سياق حربها على الميول العروبية وكراهيتها القضية الفلسطينية وخطابات التغيير الاجتماعي باعتبار ذلك كله أجندات للإسلام السياسي.
لن تحتاج إلى جهد كبير لتدرك أن الكيميتية خليط متنافر من أفكار تتخبط داخل مساحة في عقل سادة من السياديين، أفرادًا وأجهزة، تولدت من تروما ثورة يناير التي اعتبروها مؤامرة الكل والجميع ضد مصر. الكل في الداخل والخارج عداهم هم حصرًا، باعتبارهم الممثل الشرعي والوحيد للوطنية المصرية.
تنتمي الحالة الكيميتية إلى مدرسة الحشد المعنوي والتعبوي، ومحاولة توجيه النشء والرأي العام نحو وجهة تتبناها الدولة وأجهزتها. سبق مثلًا في الثمانينيات والتسعينيات إبراز ورعاية سلسلة روايات مصرية للجيب، خاصة أعمال الكاتب نبيل فاروق التي تركزت على تعليم الأطفال والمراهقين محورية واستمرار الصراع مع إسرائيل في الحاضر والمستقبل ومن خلال جهاز المخابرات العامة بالذات. فكان أدهم صبري رجل المستحيل ممثلًا لصراع الماضي القريب والحاضر المستمر، وكان نور الدين محمود وسلوى ورمزي ومحمود ممثلين للصراع في المستقبل من خلال جهاز "المخابرات العلمية" في سلسلة ملف المستقبل.
تزامن هذا مع إنتاج مسلسلات جاسوسية أعقبت اتفاقية السلام مع إسرائيل مباشرة، كان أبرزها دموع في عيون وقحة ورأفت الهجان، رسالتها هي أن الصراع مستمر، وإن اختلفت وسائله والتشكيلات التي تخوض غماره. وصحيح أن الجيش توقف عن الحرب بعد معاهدة السلام، ولكن هناك دومًا رجال آخرون سيظلون في المعركة.
لو قارنَّا الحالة السابقة بما يجرى الآن، سنجدها مقارنة حزينة وتعيسة، فالأولوية الآن للكراهية والعصاب والتركيز على عداء من لا يجب عداءهم. لا توجد أدبيات أو كتب أو رموز أو نسق متماسك اللهم وسيم السيسي، أيضًا ويا للمفارقة، بل إنك ستجد تركيزًا على إبراز المصرية كضدٍّ لما عداها، ومحاولة تأصيلها بأشكال فاشية ونازية من نوع إثبات نقاء العرق والجينات وتأكيد بياض البشرة في مواجهة سوادها، وهي أمور معيبة ولا تليق. فالوطنية المصرية مهما حملت من ملامح تعصُّب هي ليست فاشية الجذر، بل تنتصر لسردية الفلاح البسيط في مواجهة السلطة المستبدة، لا تنتصر لعرق على آخر ولا تثبت علوَّها بالنسب والفخار الجاهلي.
كيف نشتبك مع الجهالة المحرجة؟
على عكس ما يتصور البعض، وأغلبهم مسكون بالمظلومية الطائفية "المحقة"، فإن موت اللغة المصرية القديمة لم يكن قرار حاكم مجنون يكره الأقباط. موت أي لغة عملية طويلة جدًا، تبدأ بأن تكف عن إنتاج المعرفة والثقافة والآداب بالتدوين المكتوب، وعن أن تصبح اللغة الرسمية لمكاتبات الدولة، ثم يبدأ انحسارها في المدن لتكف عن أن تكون لغة الأسواق والبيع والشراء، ثم وبالتدريج تكف عن كونها لغة الرجال الذين يسيطرون على الحيز العام.
لذا، لم تكن مصادفة أن يكون آخر من شوهد يتحدث القبطية، نساء فلاحات داخل غيطان الصعيد في القرن الخامس عشر، وليست مصادفة أيضًا أن تكون نساء مصر هن من حاولن بوعيٍ أولًا، ثم بشكل غير واعٍ ثانيًا، الحفاظ على اللغة القديمة وتعليمها لأطفالهن ولا سيما الرضع.
لا يوجد مبرر منطقي يجعل كل أم مصرية تقول لرضيعها "إمبو" و"كخ" و"ننا هو" و"عو" وما شابه، بدلًا من ماء أو مية أو غير ذلك من مرادفات عربية. فالكلمات القديمة أو العربية كلها سهلة عمومًا ولا تفضيل لواحدة على أخرى، لذا قاموس الكلمات القديمة الباقية كثير منها يستخدم مع الأطفال الرضع، كانت هذه الممارسة واعية في فترات تاريخية ثم لم تعد واعية بذاتها حتى يومنا هذا.
لذا وبما أني من محبي الحضارة المصرية القديمة، وقدمت من وقتي الكثير للقراءة عنها ومعرفتها، خصوصًا أسئلة التحول الديني واللغوي، أعتقد أنه سيكون من الأفضل محاولة دفع الحالة الكيميتية هذه نحو ما هو بنَّاء.
فبدلًا من ترديد تمتمات غنائية باعتبارها لغة المصريين القدماء في سلوك أشبه بحفلات الزار الشعبى، لمَ لا يُبذل جهد حقيقي في إطار جهود علم اللسانيات والإنسان، نحو استنباط التراث اللغوي القديم من خلال المحكيات التي على وشك الانقراض، مثل دارجات سكان حلايب وشلاتين أو النوبية، باعتبارها حالات لغوية مغلقة يمكن من خلالها استنباط الكثير؟
الشيء نفسه ينطبق على التراث اللغوي في قرى وجهي بحري وقبلي، لا سيما النائي منها، ممن لا تزال تحافظ على مفردات خاصة بها، اللغة تبدأ وتنتهي من الناس وليس من الوهم الحجري أو حفلات الأوبرا.
لماذا أيضًا لا تترجم كل النقوش على الحوائط؟ فالتراث المكتوب بالهيروغليفية يظل تراثًا محدودًا جدًا بمحدودية الجدران والمعابد، كون المصريين القدماء لم يُخلِّفوا وراءهم كتبًا، فلماذا لا يُترجم كل هذا ويُقدَّم بشكل متماسك ومفيد لأوسع قطاع من الجمهور وبوسائط سمعية وبصرية ومكتوبة؟
أليس هذا أفضل من أن نجرى خلف إثبات أن الممثلة الشقراء فلانة الفلانية تمتلك في جيناتها مكونًا فرعونيًا غالبًا بنسبة 98%؟ ما الذي يمكن أن يترتب على ذلك سوى إثبات أن الخيل والليل والبيداء تعرفنا، لتقول بعدها إن المصريين ليسوا عربًا؟
ياله من عبث.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.
أبناء كيميت وكتابهم المقدس
12-5-2023

في نقد "المركزية المصرية".. كيف نرى الأفروسنتريك؟
6-3-2023

أسطورة العمالقة في مواجهة الحقيقة العلمية.. كيف بنى المصريون القدماء الأهرامات؟
22-10-2024

رمضان واكتشاف الليل طفلًا
6-3-2025

لماذا صمتوا.. لماذا صمتوا؟
4-1-2024

العائلات المصرية.. كنز اجتماعي وسياسي منسي
11-11-2023
