لم يُعطَ تاريخ العائلات المصرية وتكوينها ومساراتها المتعرجة أو المستقيمة حقه في الدراسات الاجتماعية المعاصرة، رغم أن الحوليِّات التاريخية الشهيرة كانت تلتفت إليها، فيحرص الجبرتي مثلا في كتابه "عجائب الآثار في التاريخ والأخبار"، على تتبع أخبار وجهاء الريف والمدن، في محطات حياتهم الفارقة ولحظات وفاتهم. ويصير هذا جزءًا أصيلًا من تأريخه الاجتماعي والسياسي. وكذلك فعل علي مبارك في كتابه العمدة "الخطط التوفيقية"، حيث خصص جانبًا منها لرصد العائلات وأدوارها.
وفي السنوات الأخيرة التفتت مكتبة الإسكندرية إلى أهمية دراسة العائلات الممتدة، ففتش باحثون في أضابير دار المحفوظات وسجلات المحاكم، وغيرها، في محاولة لرسم خريطة اجتماعية مختلفة لا تقتصر على دراسة الوحدات الكبرى، كالنجع أو الكفر أو المدينة، إنما تفتش في الفروع الأكثر تجذرًا في الزمان والمكان.
هذا المشروع كان محور محاضرة رائعة ألقاها الدكتور خالد عزب، في المركز الثقافي الفرنسي في القاهرة مؤخرًا، عرج فيها على الأفكار الأساسية للمشروع، وعرض ملامحه العامة، لتبدو لنا مدى صعوبته وأهميته في آن، لا سيما في ظل ضياع أو إهمال جزء كبير من الوثائق والأوراق الثبوتية للدولة المصرية.
من أين جاءت العائلات
أتذكر في هذا المقام، أنَّ الموضوع كان يشغل أستاذي الراحل الدكتور كمال المنوفي، العميد الأسبق لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وطالما حدَّثني عن رغبته في دراسة العائلة والسياسة في مصر، على غرار الدراسة التي أعدَّها ونشرها عن العائلة والسياسة في الكويت الشقيقة. لكنَّ الأجل لم يُمهله ليقطع شوطًا ذا بال على هذا الدرب المهم والشيق.
الانتساب إلى العائلة والحرص عليه، وحفظ تاريخها الشفاهي، هو قسمة مشتركة بين المصريين جميعًا
يظلُّ التاريخ الأكبر للعائلات يجري على الألسنة حكايات شفاهية، تغوص إلى الجذور وتتفرع، وتتحري أسباب الأنساب والكنيات التي تُعطى للعائلات في الريف والمدينة، سواء كان نسبها إلى المكان، أو الحرفة والمهنة، أو البارزين من الأجداد، أو الصفات والنعوت التي يُلصقها الناس بهم.
لم يُجمَع هذا التاريخ الشفاهي، رغم حيويته وإلهامه لبعض الأدباء، مثل أحمد صبري أبو الفتوح، الذي كتب رواية طويلة في عدة أجزاء عن تاريخ السراسوة في دلتا مصر بعنوان "ملحمة السراسوة". كما اخترع نجيب محفوظ عائلة عاشور الناجي في "ملحمة الحرافيش"، التي يرى بعض النقاد أنها تغطي تطور هذه العائلة المختلقة لخمسة قرون كاملة. ويعود محفوظ في "الباقي من الزمن ساعة" و"حديث الصباح والمساء"، كروايتي أجيال، ليكتب عن عائلتين تمددتا عبر تاريخ اجتماعيٍّ وسياسيٍّ طويل.
يحدث هذا رغم ثراء هذا الجانب من تاريخنا الاجتماعي، بفضل مَن استقبلتهم مصر عبر زمن طويل مِن عائلات كثيرة مهاجرة من الغرب، بسبب هجرات المغاربة، عربًا وأمازيغ، فارين من الاستعمار الفرنسي، وقبله كان أولئك الرجال الذين استقروا في مصر أثناء عودتهم من الحج إلى مكة، وأسسوا عائلات، تنسب إليهم أو إلى مساقط رؤوسهم.
وهناك أيضًا الهجرات التي جاءت من بلاد الشام هربًا من عسف الإمبراطورية العثمانية، سواء من العرب أو الأرمن، إلى جانب الترك أنفسهم الذين استقروا في مصر، وقت أن كانت ولاية عثمانية، ولم يبرحوها، وأسسوا عائلات، بعضها لا يزال يلعب دورًا اجتماعيًا وسياسيًا في حياتنا المعاصرة، وقبلهم كان المماليك والإخشيدين.
ولصعيد مصر قصة مختلفة إلى حد ما في هذا المضمار، حيث تعود أصول بعض العائلات هناك إلى شبه الجزيرة العربية، لا سيما اليمن والحجاز، ما يعني أنَّ دراسة تاريخ هذه العائلات يتطلب الإلمام بتاريخ القبائل التي تنتمي كل عائلة إليها. ولا ننسى في هذا المقام النسب الذي تُقرِّه "نقابة الأشراف"، التي تعطي منتسبيها فرصة القول بانحدارهم من نسل الرسول (ص)، وهي مسألة يغلب على بعضها الادعاء والزعم.
ويؤشر هذا إلى أن الهجرات الجديدة إلى مصر، من العراق وسوريا واليمن وليبيا، ستؤدي، مع حصول بعضهم على الجنسية وفق القوانين التي سُنَّت مؤخرًا، إلى تأسيس عائلات جديدة، هي الآن في طور التشكل، خاصة أن هناك أسرًا كاملة استوطنت مصر، وراق لها البقاء فيها.
والانتساب إلى العائلة والحرص عليه، وحفظ تاريخها الشفاهي، هو قسمة مشتركة بين المصريين جميعًا، باختلاف أديانهم وأصولهم سواء كانوا من المصريين الأقحاح أو عربًا أو نوبيين أو أمازيغ يسكنون طرف الصحراء الغربية.
وإلى جانب الهجرات، كان تعاقب احتلال قوى عديدة لمصر، سببًا آخر من أسباب تكوين العائلات، في ظل تفضيل بعض المحتلين البقاء، لينصهروا في مجتمع يحتضن الغريب ويُمصِّره تباعًا، حتى يصبح جزءًا من النسيج الاجتماعي العام.
الأدوار الوظيفية للعائلة
ولعبت العائلة في التاريخ المصري دورًا مهمًا، سواء من خلال التكافل بين شرائحها الطبقية؛ الثرية والمتوسطة والفقيرة، أو توفير الحماية لأفرادها، أو إعطاء حياتهم بعض المعاني. وهناك عائلات حافظت على مهن معينة تنتمي إليها، أو وظائف حكومية مالت إليها، ووسع المتمكنين من هذه الوظائف فرصًا للشباب الوارد جديدًا إلى نيلها، وتوريثها.
لم تنل الظروف الاقتصادية الصعبة من تمسك المصريين بالعائلة
وبعض العائلات مدت يدها لمساعدة الدولة، وقدّمت صورة أكثر أصالة للمجتمع المدني أو الأهلي، فأنشأت المدارس والجامعات والبنوك والمصانع، أو استصلحت الأراضي في المستنقعات والصحاري، وتملكتها، فأضافت إلى الموارد العامة الكثير.
أما الدور السياسي للعائلة فهو أحد أبرز وجوه الحياة العامة، التي يتجاور ويتفاعل فيه التقليدي مع التحديثي دون عنت أو عناء. فالعائلة تُمثل، لا سيما في المجتمعات الريفية، جماعة مصالح أو قوة ضغط على السلطة المركزية والفرعية، بحماية أفرادها من العسف، أو بفتح الطريق لبعضهم كي يصعد إلى قمة الهرم السياسي، خاصة عبر التمثيل النيابي.
حتى إننا نجد بعض المقاعد في البرلمانات المتلاحقة كانت محجوزة لعائلات بعينها، سواء من خلال تكتل العائلة وراء مرشحها في الانتخابات التنافسية، أو حرص السلطة العليا على تعيين بعض وجهاء العائلات في هذه البرلمانات، في ظل سياسة التراضي، أو توزيع المنافع، التي تتبعها السلطة المصرية، وترى فيها أحد أسباب نيل الشرعية، وتحقيق التوافق والاستقرار.
وبعد ملتزمي الأراضي، الذين ظلوا من أيام العثمانيين حتى محمد علي، احتكرت العائلات الكبرى في الريف مناصب العمدة وشيخ البلد قرونًا طويلة، ولا يزال هذا الأمر جاريًا وساريًا، وهي مسألة تحرص السلطة المركزية نفسها عليها، لأنها تجد في منتمين لعائلات كبرى قوة وقدرة على تسيير الأمور، وفض المنازعات، مستغلة في هذا إمكانياتهم المالية، أو هيبتهم الرمزية، أو عزوتهم الكبيرة.
وما يزيد من أهمية ذلك أن المصريين، كمجتمع متماسك، ورغم التغيير المتلاحق الذي تهب رياحه عليهم بلا هوادة، لا يزالون متمسكين بوجود العائلة، الرمزي والمعنوي والمادي، في حياتهم المعاصرة. كما أن الحصار الذي يُفرض على المجتمع المدني الحديث يجعل من شكله القديم، المتمثل في العائلة، ملاذًا للخائفين والمحاصرين والمطاردين، إن وجدوا أنفسهم وجهًا لوجه مع السلطة المستبدة أو المستحوذة.
ومع السلبيات المترتبة على شيوع الفردانية والاغتراب، والتفكك الاجتماعي المتواصل في ظل زحف المدن أو مغالبة مسار العصرنة وروحها، تظل العائلة، بفروعها وأسرها النووية، شيئًا ثمينًا لا يجب أن يتخلى عنه الناس، في ظل حاجة الفرد إلى الجماعة، واضطرار المنبت إلى البحث عن جذوره، ورغبة الغريب في الانتماء إلى شيء. ويبقى عليهم فقط أن ينزعوا عن هذا الانتماء روح العصبية والتعصب الأعمى الممقوت.
لم تنل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تضطر الفرد للانكفاء على ذاته أو أسرته الصغيرة، ولا رياح العولمة التي أرادت خلع الفرد من جذوره لينداح في مجتمع أوسع، تحت لافتات "المجتمع البشري" أو "المواطن العالمي"، من تمسك المصريين بالعائلة. فوجدنا الناس يستخدمون مثلا وسائل التواصل الاجتماعي، وهي واحدة من ذرى التطور التقني والمعرفي، في البحث عن العائلة المتفرقة في البلاد. فنطالع على فيسبوك مثلًا صفحات عائلات ممتدة أو قبائل، يسارع أفرادها، أيًا كان المكان الذي حلوا فيه، إلى الانضمام إليها.
إن دراسة العائلات المصرية مسألة حيوية، بل ضرورية، يجب أن يعطيها الباحثون في علم الاجتماع والأنثربولوجيا والنظم المحلية والسياسية جزءًا غير يسير من أوقاتهم، إن كنا نريد أن نقف على طبيعة مجتمعنا وطبائع أهله، وهي مسألة لا غنى عنها في أي خطط للتنمية أو التحديث.