يضرب الموروث الشعبي المصري بجذور عفية في تربتنا الحضارية والثقافية، حاملًا روح الناس وتصورهم الأصيل عن الذات والمجتمع والوجود والعالم والكون، واعدًا المجتمع بالتماسك، والأفراد بالتسرية، والهوية بالرسوخ، ليصنع جزءًا كبيرًا من الشخصية الاجتماعية، سواءً بما يقره من طقوس يرثها الحاضرون عن الغابرين، أو من مقولات تتداولها الألسنة على مر الزمن وتريد لها البقاء.
ويتسم فلكلورنا، شأنه شأن غيره، بعدة سمات بارزة، يمكن استعراضها وتحليلها في النقاط التالية:
- هو ثقافتنا القديمة، التي نبتت في رحاب المجتمع قبل آلاف السنين.
- هو ثقاقتنا المتواصلة، فثقافة النخبة يمكن أن تتغير بتغير أيديولوجية النظم الحاكمة، أو اتجاهات المجتمع.
- هو ثقافتنا المتمهلة الراسخة، التي صنعت عبر قرون طويلة، وتناقلتها أجيال تلو أخرى.
- هو ثقافتنا الجامعة، إذ أن الفلكلور ابن الجماعة كلها، يأخذ منها جميعًا، ويصنع الثقافة الأصيلة، التي تصب فيها الثقافات الفرعية، فتغذيها، وتعطيها قدرة على السير في طريقها.
- هو ثقافتنا الهجين، إذ يمزج الفلكلور بين الكثير من العطاءات التي تهديها التجارب الحياتية، والمأثورات الدينية، والاحتياحات الاجتماعية، وتفرضها الظروف المادية، وهو في الوقت نفسه موضع مساءلة أو أخذ ورد مع العلوم الإنسانية.
- هو ثقافننا الاختيارية الطوعية، صنعتها الجماعة وارتضتها، ولم تُفرض عليها من عل، باسم مشروع ثقافي للسلطة، أو انحياز أيديولوجي لنخبة مهيمنة، أو ميل سلوكي تصنعه الظروف الاقتصادية.
- هو ثقافتنا التعددية، ففي وقت قد تنشأ صراعات بين النخب الثقافية يريد كل منها أن ينتصر لمذهب أو مدرسة أو اتجاه فكري أو نقدي، يطرح الفلكلور تعدديته في هدوء.
- هو ثقافتنا الواعدة دومًا، إذ لا يمكن وضع مشروع قومي أو وطني، أو حتى خطة للنهضة الثقافية، في بلادنا، تتجنب ما في الفلكلور من ثراء إنساني وقيمي ومعرفي، أو تتجاهل دوره في تشكيل الوعي بالحياة والوجود.
- هو ثقافتنا المُطبِبة لجراحات الجماعة، ففي السير والحكايات والخرافات والمواويل والأمثلة والنوادر ما يمثل تسرية عن الأوجاع التي تسببها الظروف الاقتصادية، والأحوال الاجتماعية، والتدابير السلطوية. وفي الفلكلور ما يُعين الناس على مقاومة القهر، والوقوف على نقاط القوة والضعف في الجماعة البشرية، ومد الناس بنماذج إرشادية في القول والفعل، وهو هنا يلعب لدى الطبقات الشعبية ما يلعبه الوعي بالتاريخ عند النخبة الثقافية والسياسية.
- هو ثقافتنا الحامية، إذ طالما كان الفلكلور جدارًا يحجب عن الجماعة الوطنية تغول ثقافات أخرى غريبة، ويصد ويرد كل ما يزعزع اليقين المتأصل في النفوس حيال قدرة الذات على الفعل والاستمرار.
- هو ثقافتنا الملهمة، فالموروث الشعبي كان، ولا يزال، مصدرًا مهمًا لثقافة النخبة، حيث استعارته في قصائد شعرية وروايات ومسرحيات وقصص قصيرة، إما بالنقل المباشر عنه، أو بتعديله وتحويره، أو بالتقاط الكثير من مفرداته وتركيباته البلاغية وصوره وأساليبه.
رياح الشر
هذا الفلكلور، بكل حمولاته وخصائصه وتنوعه ودوره المهم، كما أسلفنا، تهب عليه الآن ريح غير طيبة، تريد، عامدة أو دون قصد، أن تهيل عليه التراب، أو تنحيه جانبًا، أو تقلل من شأنه ودوره وفاعليته في الحياة بشكل عام.
هذه الريح تندفع في الأشكال الحديثة من الفنون والطقوس وطرائق العيش، التي ساهم الراديو ثم التليفزيون فالإنترنت في نشرها على نطاق واسع، وفتح الباب لثقافات وافدة أن تدخل قوية، وتتغلغل وتصل إلى الأعماق الثقافية للمجتمع، فتزاحم موروثها، وتزعزع خصوصيتها، وتملأ الذاكرة الشعبية بالكثير مما لم تصنعه الجماعة البشرية بوجدانها وأذهانها وتجاربها الذاتية.
ولم تكن توجد مشكلة لو كانت الثقافة الجديدة، التي تقف خلفها إمكانيات مادية ووسائل ذيوع قوية ومنتجون لها منتفعون بها، منتظمة وفق نسق إيجابي متماسك، يساعد على تزكية الوعي، وتفجير ينابيع النهضة.
إنما العكس هو الصحيح، إذ أن الثقافة التي يتحمس أصحاب القدرات المادية والمنابر الإعلامية على نشرها تتسم بالعشوائية، وتلعب على الغرائز، وتزكي النزعات الاستهلاكية، وتجور على الهويات والخصوصيات، التي إن كانت في حاجة إلى الانفتاح على الجديد في العالم، فهي مطالبة بأن تأخذ منه ما يغذي الأصل ويفيده، لا أن يطمره، ويزيحه تدريجيًا، حتى يموت.
إن تضييع الفلكلور أمر خطير، لا سيما في ظل كسل كثير من الباحثين في التراث الشعبي عن الحفاظ على أدائه
لقد رأينا كيف اختفى الشاعر، الذي كان يتصدر المجالس في مقاهي المدن مع ظهور الراديو، ورأينا كيف راح فن خيال الظل تدريجيًا مع انطلاق الدراما المتلفزة، وكيف تراجعت السيرة الشعبية لحساب الفيلم السينمائي، واستبدل الجيل الجديد بالأمثلة الشعبية المقولات المعلبة التي تتناسل وتتناقل على السوشيال ميديا.
وشاهدنا كيف انتهى الحال والمقام بالألعاب الشعبية التي تراجعت ابتداءً أمام اجتياح الألعاب المصنعة المستوردة للسوق المحلية، ثم في وجه الألعاب الإلكترونية.
ووجدنا كيف انجرف الكثير من الأفراح الشعبية، التي كانت تطلق فيها الأغنيات والمواويل والحكايات الشفهية، أمام الإقبال على تشغيل الأغاني والموسيقى الجديدة، وأغلبها هابط، عبر الكاسيت ومن بعده الدي جي، الذي صار سيد الأفراح في القرى، يردد الناس معه، ويرقصون على موسيقاه، ناسين مع مرور الوقت موسيقاهم وأغنياتهم الأصيلة، وهم في هذا مضطرون لضيق ذات اليد.
من قبل كانت ثقافة النخبة تُطعم جسدها أحيانًا بما تحمله الثقافات الشعبية من زاد ثري متنوع، وكان الجمهور الشعبي يأخذ بعض ما يستملحه أو يجاري هواه مما تنتجه النخبة ويردده بطريقته، وقد يحذف منه أو يضيف إليه. وكان ذلك التبادل يمضي على مهل، حافظًا لكل رافد قوامه وخصائصه، لكن ما نراه اليوم ليس تغذية مرتدة أو ارتجاعية بين هذين الصنفين الثقافيين، إنما جور المتمكن ماديًا وإعلاميًا منها على ما عداه.
إن تضييع الفلكلور على هذا النحو أمر جد خطير، لاسيما في ظل كسل كثير من الباحثين في التراث الشعبي عن الحفاظ على أدائه طقسا وقولًا، وليس فقط الاكتفاء بجمعه ليستقر في بطون كتب لا تقرأها الطبقات الشعبية، وإن قرأه بعضها قد يراه غريبًا.
إن تحويل الفلكلور إلى مادة دراسية، ستصبح بمرور الوقت مختصة بشيء من الغرائب أو التاريخ الثقافي، يقضي تدريجيًا على جانب مهم من روح الجماعة وعقلها الكلي، ويجرح الشخصية القومية لأمتنا، ويجعل نخبتها الثقافية والسياسية جاهلة أو غافلة عن الوعي بالمجتمع، ولهذا آثار خطيرة على السياسات العامة.