ما إن يموت أحد حتى يُسارع المصريون إلى ذكر محاسنه، لدرجة أن من يستمع إلى ما يُقال، أو يقرأ ما يكتب عن الميت، يندهش ويتساءل: هل كان المرحوم يتمتع بكل هذه الخصال، ونحن لا نعرف؟ وقد يلوي شفتيه، ويلوذ بالصمت الحائر، بل قد يشرع هو الآخر في تأبين ينطق بمجاملة واضحة.
يستوي في هذا جميع من ماتوا، لكن يظهر المديح والاستملاح والتقريظ أكثر، إن كان المتوفي واحدًا من المعروفين، فيفرط مؤبنوه في ذكر مآثره ومناقبه، ويغضون الطرف عن مثالبه ومعايبه.
استمرت هذه السمة زمنًا طويلًا، آلاف السنين، ولم يجرحها سوى فترات من الفتن، ومثل الاستقطاب السياسي الذي أوجد الشماتة والتشفي في السنوات الأخيرة، وطال بعض من يقفون على طرفي النقيض في الصراع، أو من يحسبهم أتباع كل طرف كذلك.
لكن هذا يستهجنه التيار الاجتماعي العريض، ويراه نافرًا من الاستواء العام إزاء الموت، والذي يقوم على احترامه والضعف أمامه، والغفران للميت، واستهجان كل إساءة إليه.
قدسية الموت ومهابته
لدينا فكرة راسخة ترى أن حضارتنا صنعتها نظرة المصريين إلى الموت. فسر التحنيط الذي لم يُكتشف إلا بعد عشرات القرون، والأهرام التي يقف الكل أمامها مشدوهين، من صنع تصور المصري عن الحياة الأخرى. وحتى الكنوز التي لا تزال مطمورة، هي بنت تصور المصري القديم لحياة أخرى بعد الموت، عليه أن يدخر لها من الذهب ما يعينه على أن يبقى فيها مُنعمًا.
كان المصريون يقولون عن الميت "سافر في الغروب"، أي ذهبت روحه في اتجاه الشمس الغاربة، ولذا بنوا مقابرهم في الغرب، بعيدا عن المساحات التي يزرعونها ويعيشون فيها على ضفاف النيل، وآمنوا بأن الموت انتقال، يبدو فيه الميت أقرب لمسافر؛ يجب أن يجتمع الناس لتوديعه.
وتنشغل الأغلبية الساحقة من المصريين، لاسيما حين يتقدم بهم العمر، بالموت، ويتعدون في هذا انشغال أبناء أمم أخرى، فتكثر في أحاديثهم عبارات "حسن الختام"، و"الكفن ليس له جيوب"، ودعاء "اللهم طيبنا له". ونجد الفقير منهم مهمومًا بتجهيز "الخرجة"، وتعني مصروفات تكفين الميت وتشييعه وعزائه. وبعض الناس يشتري كفنه في آخر أيامه. وهناك نساء ريفيات وشعبيات يحتفظن بقطعة حلي، ويوصين ببيعها فور موتهن، لينفق منها على "الخرجة".
يتحدث الناس في مشارق الأرض ومغاربها عن الموت، في قلق منه، وسؤال حوله، وهو ما أظهرته دراسات كثيرة نفسية واجتماعية. لكن أعتقد أن المصريين هم أكثرهم حديثًا في هذا الشأن، بل يزيدون عن الكل في شعورهم بالتواصل مع الموتى، ليس من خلال رؤى الليل وأحلامه، ولا تحرر روح الميت وانكشاف السر له فيكون بوسعه متابعة ذويه من العالم الآخر، إنما عبر تبادل المنفعة مع الموتى، والاعتقاد في قدرتهم على التأثير في مسار الأحياء ومصيرهم.
والدليل على هذا ظاهرة التبرك بأضرحة الأولياء والقديسين، باعتبارهم واسطة، أو أقرب إلى الله، ومن ثم بوسعهم أن ينفعوا رافع أكف الدعاء أسرع. وقد يأخذ الأمر معنى أعمق رمزية، وله تجليات مادية مباشرة، مثلما رصد عالم الاجتماع الكبير سيد عويس في تحليله للخطابات التي يرسلها المصريون إلى ضريح الإمام الشافعي، ليس باعتباره فقيهًا أو عالم دين، إنما لأنه قاضٍ عادل ورع، يمكن أن يشكو إليه الناس الظلم الذي يلاقونه في حياتهم.
في مصر المعاصرة، يستغل الحكام ثقافة الموت أسوأ استغلال، بحديثهم عن أنهم مسؤولون أمام الله وليس الشعب
قد يكون المصريون هم أكثر أهل الأرض تطبيقًا لحديث منسوب للرسول محمد، عليه الصلاة والسلام، يقول: "اذكروا محاسن موتاكم"، وهو قول يُذكّر كل واحد منهم أخاه به، إن خاض بسوء في سيرة أحد الراحلين. وهذه فضيلة لا ينكر ما لها من أثر حسن.
لكن هذه الخصلة لها آثار أخرى، يمكن أن يختلف الناس في تقدير مدى إيجابياتها وسلبياتها، خاصة عندما تتسبب أحيانًا في ظلم الأحياء، أو إصابة البعض بـ"الإرجائية السياسية"، وإصابة المجتمع كله بتقليل حجم فداحة وبشاعة ما يلقاه إثر تخلف يصنع الفساد والاستبداد والظلم البشري، باعتبار أنها حياة دنيا ستمر أيًا كانت مشقاتها، وعلى المرء أن يفكر في الآخرة.
ويبدو هؤلاء وكأنهم يطبقون، دون أن ينطقوا ذلك صراحة، ما جاء في الإنجيل "اعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله"، وهو ما استغله الملوك، بمساعدة الكنيسة، في العصر الوسيط بأوروبا، وترتب عليه استعباد طويل في ظل نظام الاقطاع، لا يزال المستبدون ينظرون إليه باعجاب، ويتمنون لو استرجعوا "الحق الإلهي للملوك".
ثقافة الموت في خدمة الحاكم
وفي مصر القديمة كان الملوك يؤمنون بأنهم سيبعثون بعد الموت على هيئتهم في الدنيا، بسلطانهم ومالهم، وأدى هذا إلى كنزهم ثروات طائلة، كانت تدفن معهم، حتى إن بعثوا أعطتهم تميزًا عن سائر الناس.
وفي مصر المعاصرة، لا يؤمن حكامها بهذا، لكنهم يستغلون "ثقافة الموت" هذه أسوأ استغلال، بحديثهم عن أنهم مسؤولون أمام الله وليس الشعب، ليظهروا للناس أنهم يخشون الله فيهم، ويتهربون في الوقت نفسه من المساءلة الدنيوية الواجبة، أو بصناعة صورة نزيهة لأنفسهم، انطلت على الشعب سنين، وساعدت هؤلاء على تعزيز شرعيتهم في بداية حكمهم، بحديثهم عن أن الميت لا يأخذ شيئًا من ماله أو جاهه معه.
من زاوية أخرى، يكون الموت حلًا ينتظره الناس حين يعجزون عن التغيير بأيديهم، فيرفعون أكفهم دعاء على ظالمهم أن تأتي ساعة رحيله سريعًا، أو على الأقل يذكرونه بالموت والحساب، الذي لو وضعه نصب عينيه، ما ظلم أو بطش أو قتل أو سرق أبدًا.
ويكون الموت أيضًا معيار حكم على محبة الحاكم من عدمه، وهي مسألة لا تعكسها الجنائز الرسمية ولا سرادقات العزاء التي يذهب إليها الكبار رياءً أو امتثالًا، إنما الجنائز الشعبية، التي يخرج فيها الناس طواعية، ليشيعوا من أحبوه إلى مثواه الأخير.
وهذا المعيار وضعه الفقيه أحمد بن حنبل، حين قال لخصومه "بيننا وبينكم الجنائز"، وقد أثبتت الأحداث خلال القرون الفائتة صحته. فالحاكم إن مات ذهبت معه قُدرته، وصار مجردًا من كل حول وطول، ولا سلطان له على الناس، فإن كانوا له كارهين، انفضوا عن تشييعه، أما إن كانوا محبين، أو يشعرون بأنه كان يعمل لهم ويشفق عليهم، حتى لو أخطأ في بعض سياساته، أقبلوا على جنازته مودعين دامعين، ليسجلوا في التاريخ أنه كان حاكمًا محبوبًا، وأن رحيله سيترك فراغًا كبيرًا.
ولا تعول الثقافة المصرية على السطوة في إظهار تبجيل ميت، ويضرب المصريون على هذا مثلًا دالًا يقول "كلب العمدة مات الناس كلها مشيت في جنازته، والعمدة لما مات مفيش كلب مشي في جنازته". إنما يعولون على تبجيل يأتي بعد أن ذهب سلطان الميت.
وفضلًا عن هذا الجانب السياسي، فهناك بعد اجتماعي سلبي لـ "ثقافة الموت" في مصر، تتمثل في إكبار كل من رحلوا، وتقديسهم لدى البعض، والتقليل من شأن الأحياء أو المعاصرين، إذا قورنوا بهم، مع أن من بين العائشين من يَفضُلون الراحلين في كل شيء. ويمتد هذا من الكتابة والثقافة إلى السياسة والإدارة والأدوار الاجتماعية والأنشطة الاقتصادية.