كان هناك من يتوقع أن يمتد التعديل الوزراي ليشمل رئيس الحكومة مصطفى مدبولي، لا سيما بعد هجوم الإعلام الموجه عليه في الشهور الأخيرة، بشكل متقطع، وتحميله مسؤولية الكثير من المشكلات، بل الأزمات الاقتصادية العميقة، التي تمر بها مصر. لكن جاءت الريح بما لا تشتهي السفن، وكُلّف الرجل بتشكيل حكومة جديدة، قديمة في جوهرها، وإن تبدلت وجوه وزرائها.
فأسلوب الحكم في مصر لن يتغير وإن جاء إلى رئاسة الوزارة، أو لكل وزارة، أكثر المصريين ذكاء وخبرة، وأعمقهم رؤية في الاقتصاد والإدارة، طالما أنَّ الحكومة بلا صلاحيات حقيقية، وطالما أنَّ الدولة الآن بلا استراتيجية، ولا حتى خطة مُحكمة تعمل لصالح عموم الشعب.
إن حكومة مدبولي، مثل الحكومتين اللتين سبقتاها، لم تشارك في "صناعة السياسات" وفق نص دستور 2014 وتعديلاته لسنة 2019، أو على الأقل هذا ما يظهر للشعب، الذي تقع أمام عينيه موافقة رئيس الحكومة بشكل دائم على آراء وقرارات رئيس الجمهورية وإجراءاته وتصوراته، في الاجتماعات واللقاءات والمؤتمرات والاحتفالات المتلفزة. ولا يوجد ما يُظهر للناس أنَّ الوزارة تشارك في صنع السياسة ولو في الغرف المغلقة، إنما تبدو أكثر كجهة لتنفيذ سياسات موضوعة سلفًا، لا يمكنها أن تحيد عنها أبدًا.
الجهاز التنفيذي الكبير
في مادته 167، يضع الدستور للحكومة تسعة اختصاصات، هي الاشتراك مع رئيس الجمهورية فى وضع السياسة العامة للدولة والإشراف على تنفيذها، والمحافظة على أمن الوطن وحماية حقوق المواطنين ومصالح الدولة، وتوجيه أعمال الوزارات والجهات والهيئات العامة التابعة لها، وإعداد مشروعات القوانين والقرارات، وإصدار القرارات الإدارية وفقًا للقانون، وإعداد مشروع الخطة العامة للدولة، وإعداد مشروع الموازنة العامة للدولة، وعقد القروض ومنحها، وأخيرًا تنفيذ القوانين.
لا يبدو وزراء الحكومة وكأنهم يديرون شؤون الشعب بل مجرد موظفين عند صندوق النقد الدولي
وبالطبع فإن الوزارة اشتبكت مع كل هذه البنود بطريقة شكلية أو إجرائية، على أقصى تقدير، وهي تنتظر التوجيهات العامة من رئيس الجمهورية، ثم تترجمها إلى قرارات وإجراءات وتشريعات ولوائح فرعية وبروتوكولات تعاون واتفاقيات ومعاهدات.. إلخ، ثم تلتزم بتنفيذ القوانين طالما هي في صالح السلطة، فإن كانت ضدها لا تلتزم بها، أو تتلكأ في تنفيذها.
وسأضرب هنا مثلًا بتبرير الحكومة لمسألة رفع الدعم عن الخبز والوقود، حيث نجدها لا تضع في اعتبارها أنَّ نحو نصف موارد الدولة في الموازنة العامة تأتي من ضرائب يدفعها الشعب، والمال المكدس في الصناديق الخاصة من جيوب الناس، وكثير مما في ميزانيات مختلف المؤسسات من عرق الشعب، بشكل مباشر وغير مباشر، ثم تتوهم السلطة أنها تمول دعم الخبز من جيبها، وتتحدث وتتصرف وكأنَّ المال هبط عليها من السماء، أو خرج لها من جوف الأرض، وليس للشعب أي دور في جمعه، ولا أي حق فيه.
يبدو وزراء الحكومة وكأنهم مجرد موظفين عند صندوق النقد الدولي، فهم لا يديرون شؤون الشعب وماله، كما ينص الدستور، كما يبين الواقع الأليم الذي نعيشه. وهذه مسألة تتناقض أيضًا مع الدستور نفسه، الذي ينص على أنَّ واحدة من مهام رئيس الجمهورية ومعه الحكومة، هي رعاية مصالح الشعب.
وعلى مستوى كل وزارة على حدة، تنص المادة 168 من الدستور على أن "يتولى الوزير وضع سياسة وزارته بالتنسيق مع الجهات المعنية، ومتابعة تنفيذها، والتوجيه والرقابة، وذلك فى إطار السياسة العامة للدولة. وتشمل مناصب الإدارة العليا لكل وزارة وكيلًا أولًا بما يكفل تحقيق الاستقرار المؤسسي ورفع مستوى الكفاءة فى تنفيذ سياستها".
لكنَّ الواقع يختلف عن النص، إذ إن الوزير يبدو مجرد موظف إداري كبير، وليس صانع سياسة. فالنظام كله ينظر إلى السياسة باعتبارها أمرًا كريهًا، أو زائدة دودية يمكن الاستغناء عنها، أو مجرد أريكة لصناعة الثرثرة، والوزراء لم يأتوا من خلفيات سياسية، إنما هم مجرد خبراء أو تكنوقراط أو مديرين كبار.
من هنا فإن استمرار مدبولي من عدمه لن يغير شيئًا، إذ إنَّ مصر في حاجة ماسة إلى تغيير في السياسات وليس تغييرًا في الوجوه، لا سيما أنَّ أي وجوه جديدة سترد إلى مختلف الوزارات في ظل النظام الحالي ستخضع لشروط الانتقاء والاختبار والاختيار المتعارف عليها، التي ستكون مخرجاتها متشابهة، بل واحدة.
ما يعنيه استمرار مدبولي
مع هذا فإن استمرار مدبولي رئيسًا للوزراء يعكس ثلاثة أمور، لا يمكن التقليل من خطرها، أو آثارها السلبية على الأقل.
الأمر الأول، أنَّ هذا الاستمرار وليد إنكار مزمن لخطأ المسار الذي أُخذت البلاد إليه في السنوات العشر الماضية. ومعنى استمرار الرجل أنَّ هناك إصرارًا على المضي في الطريق نفسه، ورفض كل الأصوات التي تقول للسلطة ناصحة: توقفوا، وادرسوا، واعتبروا، وتحسسوا موضع أقدامكم، واختاروا دربًا أنجع، ينقذ البلاد من الذهاب إلى الهاوية.
أما الثاني، فهو أنَّ استمرار مدبولي يعني بوضوح أنَّ السلطة مصرة على رؤيتها التي تعتقد أنه لا علاقة بين السياسة والاقتصاد، وإلا كانت قد لجأت إلى رئيس وزراء له علاقة بالسياسة اشتغالًا أو انشغالًا، يدرك ما للسياسة من تأثير لا شك فيه على الاقتصاد بمختلف أشكاله، وأنَّ هناك أسبابًا أساسية للوعكة الاقتصادية الشديدة التي تعيشها مصر، تعود إلى غياب السياسة، بمعنى تقييد المجال العام، وغياب المشاركة الشعبية الحقيقية، وعدم تمثيل الشعب في القرار، ورفض التعددية، وعدم وجود أفق لتداول السلطة.
ورغم أنَّ الفصل بين السياسة والاقتصاد هو أمر خاطئ تمامًا، بل خطيئة، يدفع المصريون ثمنها الباهظ الآن، فإنَّ استمرار مدبولي سيحافظ على هذا الفصام النكد بين مجالين لا يمكن سلخ أحدهما عن الآخر، إلا على سبيل الوهم.
ويبقى الأمر الثالث والأخير، وهو انفصال السلطة الكبير عن نبض الشارع، الذي كان ملموسًا في عهود حكم سابقة. كان رئيس الجمهورية، حسب ما اعتاده المصريون، يغيِّر رئيس الحكومة تخفيفًا للاحتقان، أو بحثًا عن طريقة مختلفة في صنع السياسة والإدارة، أو على الأقل، لإعطاء الشعب إيحاء بأنَّ رأيه يؤخذ في الاعتبار ولو جزئيًا، بما يحفظ له ولو قدرًا ضئيلًا من الاقتدار السياسي، بدلًا من تجاهله تمامًا، والاستمتاع بتغييبه، بل سحقه.