لا يمر يوم دون أن تفاجِئ، أو بالأحرى تفجِع، السلطةُ السياسية في مصر الشعبَ بقرارات أو إجراءات، لا يعرف أحد كيف وصلت إلى رؤوس من بيدهم القرار، ومتى درَسْوها، ولماذا أصدروها، وما الآثار التي تترتب عليها لمجتمع وجد نفسه محشورًا في الزاوية كملاكم منهك، ليس أمامه سوى تلقي الضربات المتوالية، بينما تتداعى قدرته على الصد والرد.
يكاد المصريون لا يلتقطون أنفاسهم بين ظهور الخطة والبرنامج وما يليه، وتشريع القانون وأخيه، وإبرام الاتفاقية وأختها، واتخاذ القرار الذي يؤثر واسعًا وعميقًا في حياتهم. يحدث كل ذلك دون أن يكون لهم رأي فيه، أو يد في تنفيذه. لا ينصت أحد إلى رأيهم، ولو حتى عبر المؤسسات الوسيطة مثل مجلس النواب، وإن كان شكليًا، لمناقشة الأمر على نحو علني متمهل، يصل إلى أسماع الناس، فيعرفون ما يدور بشأنهم، ويدلون برأيهم فيه، فربما ينصت إليه أهل القرار، فيأخذون، ولو طرفًا منه، في اعتبارهم.
وحتى الذين يستسلمون لهذا المسار السياسي الإجباري، لا يمكنهم تجنب الفضول الذي تنبت بسببه الأسئلة أشواكًا في الرؤوس والنفوس حول ما يجري خلف الكواليس، وإلى أي تجربة أو خبرة سياسية سابقة يمكن إحالته، وكيف يمكن التقليل من أذاه، وهل ستتم مراجعته عما قريب، أما أنه سيستمر طالما استمر النظام؟
لا ينكر منصف أننا نعيش الآن في زمن "الغرفة المظلمة المغلقة". إنها شيء معلق في الفراغ، يعرفه الجميع، لكن لا يراه أحد. لا نعرف كيف يُصنع القرار في هذا البلد، هل هي تصورات فوقية تسقط على بعض الرؤوس من أعلى، فيسارعون إلى ترجمتها في قوانين وتشريعات وخطط وبرامج وقرارات وإجراءات؟ أم هي تصورات تصعد من أسفل إلى أعلى لتنال التصديق؟
ولكن مهما كان اتجاه القرار، صاعدًا أو هابطًا، فإن النتيجة الماثلة للعيان هي أن المصريين يفاجأون، بين حين وآخر، بأشياء مهمة تمس حياتهم، تُقر سريعًا، دون أن يعرفوا ما إذا كانت قد دُرست جيدًا أم لا.
على مدار عشر سنوات، توالت الأمثلة الدالة على ذلك، وكان أولها مشروع توسعة قناة السويس. فقد فوجئ المصريون بالطريقة التي أدير بها الأمر، حيث صرح الرئيس السابق لهيئة قناة السويس الفريق مهاب مميش بأنه كان قد جهز ملفًا حول التوسعة، ورفعه إلى رئيس الجمهورية منتظرًا قراره، فتلقى اتصالًا في وقت مبكر من صباح اليوم من الرئيس يقول له فيه: توكل على الله.
ولم يكن موضوع تيران وصنافير مختلفًا، إذ فوجئ المصريون بحديث عن التنازل عن الجزيرتين، ثم بالرئيس يطلب منهم عدم التطرق إلى هذا الموضوع مرة أخرى، ثم موافقة سريعة من مجلس النواب. كل شيء تم على هذا النحو، دون أن يعرف الشعب، كيف بدأت المباحثات حول المسألة، وكيف سارت إلى هذه النهاية؟
وانطبق الأمر نفسه على توقيع اتفاقية المبادئ الخاصة بمياه النيل، واتفاقيات غاز البحر المتوسط مع اليونان وقبرص، وبيع بعض المناطق المميزة مثل رأس الحكمة، وإسناد المواني والمطارات إلى شركة أجنبية تديرها، وفتح الباب أمام المستثمرين الأجانب لشراء أصول الدولة. وبالتزامن، تراجعت قدرة الحكومة على تقديم الخدمات، وتواصل التفنن في تحصيل الأموال من جيوب الناس الخاوية، من ضرائب ورسوم وغرامات.
وآخر مفاجآت الدولة للشعب، "نظام الثانوية العامة"، عندما خرج وزير التعليم الجديد ليخبرنا بعد أربعين يومًا فقط من تعيينه، ورغم الاعتراض عليه لاتهامه بتزوير شهادة الدكتوراه، أنه أجرى حوارًا مجتمعيًا حول هذا النظام قبل إقراره، ردًا على دهشة الناس من تقديمه خطة على هذا النحو بعد أسابيع قليلة من توليه منصبه.
معروف من يتخذ القرار، ويصدِّق عليه، وهذه سمة راسخة في النظام السياسي المصري منذ عقود، لكن لا نعرف كيف يُصنع القرار، وما أهداف صانعيه على وجه الدقة؟ لا سيما في ظل تعطل المؤسسات الأخرى، وجهل الناس بأسماء أي رجال أو نساء نافذين في النظام السياسي الراهن، خلافًا لمن عرفهم الشعب واشتهرت أسماؤهم في عهود سابقة.
ومهما قيل من تبرير لهذه العتمة، مثل مقتضيات الأمن القومي الذي يتم الآن الإفراط في تعريفه ومداه إلى حد أنه شمل كل التفاصيل تقريبًا، فإنها واحدة من الأسباب المسؤولة عما يراه محللون "فقدان الثقة بين الشعب وأصحاب القرار" وهي أحد مصادر السؤال المرعب الذي يسري في الشارع الآن: هل هناك تعمد حقًا لجذب العربة إلى الوراء؟
إن التعامل مع الشعب على أنه قاصر هو وجه بشع للاستبداد. لا يستقيم هذا مع المنطق والحق والخير، لكون الشعب هو صاحب المال والشرعية والسيادة، ولا يتواءم مع ما تستوجبه الدول الحديثة، أن يُفاجأ الناس بقرارات قد تقلب حياتهم رأسًا على عقب، دون أن يساهموا، ولو من بعيد، في صناعتها، سواء عبر استطلاع الرأي، أو حتى تقارير الأمن، أو الآراء التي تتدفق على السوشيال ميديا، أو الوسائط التي تمثل الناس، وتعبر عن مصالحهم، ولو جزئيًا.
مثل هذا الوضع يزيد الهوة بين السلطة والشعب، ويفتح باب الشكوك في نوايا أهل القرار وأهدافهم. وهنا تولد بيئة خصبة لنمو أي قول يمس الحقيقة، أو يكون محض شائعات وتقولات وأكاذيب.
إن اتساع الهواجس والوساوس والهلاوس ليست في صالح هذا البلد أبدًا.