إذا كان التيار السياسي يجرفنا بعيدًا عمّا نأمل فيه ونتنماه ونستحقه، فإن السباحة ضده ضرورية، شرط أن تكون في النور، ووفق قواعد اللعبة التي تعارفت عليها الجماعة الوطنية.
هذا النوع من السباحة ليس هواية أبدًا، إنما واجب، بل بطولة ونبل، تبتعد بالسابحين عن الانجراف مع سيل عرمرم، قد يعم ويطم ويأخذنا جميعًا إلى ما لا تحمد عقباه.
وتزداد هذه الضرورة مع وجود من يعتقد وهمًا في أن الكل يجب أن يخضع لجريان ذلك التيار، وأنه يسيل ويتقدم في الطريق الصائب، وليس له أن يتوقف ولو لبرهة ليسأل نفسه: هل هو ماء طيب مستساغ يسقي الزرع والضرع أم أنه طوفان يجرف كل شيء بلا روية ولا تدبر؟
يقال دومًا عمن يعارض في بلادنا إنه يسبح ضد التيار، وقائلو ذلك يفترضون، وهمًا، أن الكل معهم بالضرورة، أو أن من معهم ليس من حقه أن ينصرف عنهم أو يتمهل ويتوقف عن الجريان في ركابهم. كما أنهم يعتقدون، كذبًا، أن ركبهم يسير طيلة الوقت، وفي كل القضايا والقرارات، على الدرب النافع.
ويقال عن السلطة في بلادنا دومًا إنها التيار الوحيد الذي علينا جميعا أن نسبح معه، مغمضي العيون، وكان يحلو، ولا يزال، لأتباع السلطة أن يصفوا رئيس الجمهورية بأنه "الربان الماهر الذي يقود السفينة في بحر متلاطم الأمواج".
فطالما قال ذلك صفوت الشريف، أمين عام الحزب الوطني المنحل، في وصفه للمخلوع حسني مبارك، وكرر الإخوان العبارة بلغتهم عن مرسي فتحدثوا عنه على أنه امتداد لـ "المرشد" الذي يعرف كيف يسير بنا إلى "الحق" في وجه الباطل، ونعتوا كل من لا يقبل ذلك بأنه "خارج عن الصف" و"مفارق للجماعة"، ودعونا جميعًا أن نمضي مع "القطيع" ونسلم رؤوسنا لـ "القيادة الربانية" التي لا تنطق عن هوى، ولا تهفو في التعبير ولا التدبير أبدًا.
في المجتمعات الصحية لا يوجد تيار واحد، إنما تيارات متوازية تتقدم متفقة في الغاية ومختلفة في الوسائل
وسمعت على فترات متقطعة من عاد يصف الرئيس عبد الفتاح السياسي بالربان، والبلد بالسفينة، والأوضاع التي نمر بها بالبحر الهائج متلاطم الأمواج، ويقول إن الربان يعرف كل شيء عن البحار والمحيطات وأنواع السفن وخرائط الملاحة.
سنة إنسانية
في المجتمعات الحية الصحية لا يوجد تيار واحد، إنما تيارات متوازية تتقدم متفقة في الغاية، ومختلفة في الوسائل. وفي هذه المجتمعات يمثل المختلفون نهيرات صغيرة تصب في النهر الكبير، لكنها تحافظ على استقلالها في السير والجريان، بما يضبط إيقاع التيار ومدى سيره ومساره، ويجعل ماءه يسقي النسل والحرث، ولا يتحول إلى فيضان مدمر، أو ينحرف نحو المستنقعات.
والسباحة ضد التيار إن كانت فريضة حين لا يكون أمام الفرد الإيجابي من سبيل سواها، فإنها أيضًا طبيعة، إذ ترتبط بالدفع والدافعية، إلى حد كبير. والدفع لغة هو الإزالة بالقوة، ويقال تدافع الأقوام، أي دفع بعضهم بعضًا، وبذا يدل أصل الدفع على تنحية الشيء جانبًا، وهو التحريك لمواقع الأطراف المختلفة من درجة إلى أخرى، تصحيحًا للعلاقة بين أطراف متعددة.
والدفع سنة إلهية تختص بالأمم والحضارات منذ خلق الله عز وجل هذه المعمورة، ولهذا كان مبعث الأنبياء والرسل. وقال القرطبي (توفي 671 هـ) إن الدفع بما شرع على ألسنة الرسل من الشرائع، ولولا ذلك لتسالب الناس وتناهبوا وهلكوا.
وأعطى البعض مفهوم الدفع بعدًا مختلفًا بإحالة فعله إلى السلطة، سواء كانت سلطة الدين حيث كان السلطان المقام باسم الدين هو المانع من ظلم الناس لبعضهم البعض أو السلطة السياسية، حيث يقول المالقي (توفي 873 هـ) لولا أن الله سبحانه وتعالى أقام السلطان في الأرض، ليدفع القوى عن الضعيف، وينصف المظلوم من الظالم، لأهلك القوي الضعيف. وهذه صورة مثالية لا تأخذ في الحسبان أن أغلب هؤلاء السلاطين تحولوا إلى قوة تجبر وظلم، فُرضت ضرورة دفعها بالمقاومة بشتى صورها وأشكالها.
أوسع الفقه والفكر الإسلامي شرحًا لتلك المسألة في تناوله لـ "جهاد الدفع"، الذي يعني رد الأعداء إذا هاجموا ديار الإسلام، وهو في رأي الفقهاء فرض عين على كل مسلم، ونقيضه هو جهاد الطلب.
وهناك فروق بين هذين النوعين من الجهاد، فجهاد الدفع أو الدفاع اضطراري، أما جهاد الطلب فاختياري. والأول فرض عين أما الثاني ففرض كفاية، ويفوض إنفاذه إلى الحاكم، ومدى تقديره لمصلحة الشعب. وظهرت الكتب التي تؤصل للجهاد في القرنين الثامن والتاسع الميلاديين، في ظل سعي الفقهاء إلى إيجاد إطار تفسيري شرعي للفتوحات.
لكن هناك علماء محدثين يؤكدون أن الأصل في الإسلام جهاد الدفع، أما جهاد الطلب فلا وجود له في الشريعة، لأن الله سبحانه وتعالى شرع الجهاد لرد العدوان، وكف المسلمين عن الاعتداء. فالله جل وعلا يقول في محكم آياته (وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم و لا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين). ويوسع بعض الفقهاء في شرح معنى الدفع ليضم صورًا عديدة مثل الدفاع عن المظلومين فى العالم، ومقاومة الطغيان والاستغلال.
.. ونفسية أيضًا
وقبل الدفع تأتي الدافعية، التي تعني إنجاز أشياء صعبة، مادية أو معنوية، في سرعة واستقلالية، والتغلب على العقبات، والتفوق على الذات وتقديرها، ومنافسة الآخرين وتجاوزهم. ولهذا فإن الدافعية تبدو استعدادًا نفسيًا للشخصية، يحدد مدى سعي الفرد ومثابرته في سبيل بلوغ النجاح، ويترتب عليها نوع من الإشباع.
والدافعية قوة محركة منشطة تدفع الفرد نحو سلوك في ظروف معينة، وتوجهه نحو إشباع حاجة أو هدف، وتعزز معرفة الانسان بنفسه وغيره، وتدفعه إلى التصرف بما تقتضيه مختلف الظروف، وتجعله أكثر قدرة على تفسير تصرفات الآخرين، والتنبؤ بسلوكهم.
يفرض النشاط الإنساني السوي على الفرد أن يسبح ضد التيار إن كان ينجرف بالكل نحو الهاوية
ومن حيث المنشأ تتوزع الدوافع على نوعين، الأول فطري مثل الجوع والعطش والأمومة والجنس، والثاني مُكتسب يستلهمه الإنسان من بيئته الاجتماعية، كالدافع إلى الإنجاز والتحصيل والسيطرة وحب الاستطلاع والانتماء. ومن زاوية التأثير فهناك دوافع تخلقها مصادر خارجية مثل المعلم والواعظ والرفاق، أو داخلية نابعة من الذات.
واختلفت مدارس علم النفس في البحث عن تلك الدوافع واستكناه أصلها ومسارها وتأثيرها ومآلها. فهناك مدرسة الغرائز التي رسم ماكدوجال حدودها بحديثه عن أربعة عشر غريزة تقف وراء سلوكنا كله، ومنها: الوالدية وحب الاجتماع وحب السيطرة والخضوع والتملك والجنس والحل والتركيب.
ثم جاء تلميذه كاتل لينتصر للجانب الفطري في الدوافع، ويثبت أنها تتفاوت من شخص إلى آخر، وفي الفرد الواحد من فترة إلى أخرى. ثم وضع ثلاثة خصائص لكل دافع، الأول هو نزعة الفرد إلى أن يدرك في الحال مجموعة من الأشياء التي تتصل بدافع ما، والثاني هو نزعته إلى الشعور بحالة انفعالية تتعلق بهذه الأشياء، أما الثالث فالشروع في سلسلة من الأفعال التي تتوقف عند التوصل إلى الهدف المحدد.
وتوالت النظريات النفسية التي تدرس الدوافع، فأتت نظرية "الفعل المنعكس" التي ترى أن الإنسان يولد مزودًا بردود أفعال فطرية يمكن استثارتها بالمؤثر المناسب. ونظرية "الاستقلال الذاتي الوظيفي" تقوم على أن الدوافع تتغير مع تقدم العمر. و"النظرية الديناميكية" التي ترى أن نشاط الإنسان موزع على اتجاهين، استهلاكي واستعدادي. ونظرية "المجال" التي تنطلق من أن الكائن الحي في تفاعل دائم مع السياق الذي يحيط به، أو البيئة التي يعيش فيها.
ثم جاء سيجموند فرويد ليستفيض شرحا لغريزة الجنس ودورها في تحريك بواعث الإنسان.
إن النشاط الإنساني السوي يفرض على الفرد أن يسبح ضد التيار إن كان ينجرف بالكل نحو الهاوية. فوقتها يصبح هذا النوع من السباحة فرض عين على كل قادر واعي، يسعى إلى تغيير الأوضاع إلى الأفضل، وتحسين شروط الحياة.