على الدراسات الثرية في العلوم الإنسانية إثارة أسئلة كثيرة بقدر ما تقدم تصورات عبر الوصف والتحليل، ذلك لأنَّ من يُعدِّها يؤمن بأنَّ "العلم المطلق، جهل مطلق"، كما يقول النفري. على الوجه الآخر، المكمل، فإنَّ أيَّ دراسة جيدة يجب أن تسعى للإجابة عن أسئلة مصاغة بعناية، تعبِّر عن الهدف الذي يسعى إليه الباحث، أو الغاية التي يصبو إليها.
هذا شيء مقبول، بل مطلوب جدًا، على مستوى العلم والمعرفة، لكن يظلُّ الوضع صحيًا طالما أن الأسئلة المطروحة تلقى إجابات شافية أو على الأقل مقنعة. أما حين لا تجد الأسئلة إجابات، أو تكون مجرد تكهنات أو تخمينات، أو تجنح لتصبح تهويمات وأوهامًا، فإنَّ هذا معناه افتقاد اليقين الذي لا يأتي معه الفهم، بالتالي لن يستطيع الإدلاء برأي سديد واتخاذ قرار صائب.
في الأمور الروحية التي تعتمد على العرفان والمعرفة الحدسية، يمكن للإنسان ألَّا يكون مشغولًا بإيجاد إجابات محددة عن أسئلته. ولعل بإمكاننا في هذا تفهّم ما ذهب إليه الصوفي الكبير أبو يزيد البسطامي حين سأل من اتهمه بأن كلامه خارج العلم "أكلَّ العِلم قد بلغت؟ فقال: لا. رد البسطامي: هذا من العلم في النصف الذي لم يبلغك".
ولكنَّ رد البسطامي هذا لا يصلح من مسؤول اقتصادي أو سياسي، وليس يُقبَل في هذين المجالين الحديثُ عن علم باطني كشفي لا يخضع للبرهان، هو "العلم اللدني"، فهذا أمر ذاتي ونادر، ولا يمكن أن تُبنى عليه خطط دول، ولا قرارات أنظمة حكم.
في ظل هذا التصور، الذي يقوم على ضرورة الإجابة المحددة عن الأسئلة، يكون من المهم أن نتساءل عما آلت إليه أوضاعنا. نطلق الأسئلة بلا خوف، ولا حدود وقيود وسدود، محاولين تبديد الحيرة التي تسكن نفوسنا، والظنون التي تشغل رؤوسنا.
أين الذين كلما صرخ مجلود من الألم صرخوا في وجهه: اكتم صوتك حتى لا يتضرر الأمن القومي؟
إننا في حاجة ماسة إلى أن نسأل بوضوح، الآن وهنا، وبلا مواربة: هل صرنا في فوضى بلا صراخ أو ضجيج؟ ولهذا السؤال ما يبرره، إذ يرى الناظر إلى حال الأسواق المصرية هذا دون أن يبذل أي جهد. فآذان السلطة السياسية مفتوحة طول الوقت على كل من يهمس ضدها، صغيرًا كان أو كبيرًا، لكنها غافلة دومًا عما يجري في المجتمع من انهيار غير معلن، إذ صار أغلب الناس يجدون صعوبة بالغة في الاستمرار على قيد الحياة.
وهنا نعود إلى سؤال جديد: أيُّ إدارة للبلاد يمكنها الحديث عن الإمساك بزمام الأمر، والسلعة الواحدة لها عشرة أسعار في شارع واحد، بينها تفاوت كبير، وبين اليوم والذي يليه يتضاعف السعر لأسباب كثيرٌ منها واهٍ؟ وأيُّ إدارة هذه التي تركت الناس يتطاحنون في صمت، ولا يشغلها من الأمر سوى كتم الأنين، وتعتبر هذا إنجازها الكبير؟ وأيُّ إدارة هذه التي تعتقد أنَّ معادلة "الاستقرار والاستمرار" لا تزال صالحة؟
وعطفًا على هذا تأتي أسئلة أكثر حرجًا مثل: هل فلت زمام الاقتصاد المصري من يد السلطة؟ وهو سؤال له ما يبرره أيضًا، إذ يبدو الأمر في إفلات فعلًا، وإلا ما الذي يمنع السلطة من تطبيق الحلول التي يطرحها العارفون بالاقتصاد، لإنقاذ البلاد من غرق محقق؟
هل هي مراكز قوى اقتصادية توحشت في الفترة الأخيرة، ولا رادَّ لها؟ أم قوى خارجية تريد الهيمنة على اقتصاد معروض للبيع بثمن بخس؟ أم كل هذا؟ ومن الذي يساعد من الداخل لأنه صاحب مصلحة أو منفعة؟ أم هناك وجاهة لمن يزعمون أن كل ذلك مقصود لتركيع مصر، وتسليمها للغريب؟
الحلول الاقتصادية الحالية هي أقرب إلى خافض الحرارة الذي يقدم لمريض بالسرطان
أين الذين كلما صرخ مجلود من الألم، أو جائع من فراغ بطنه، صرخوا في وجهه: اكتم صوتك حتى لا يتضرر الأمن القومي؟ أين الأمن القومي، بل أين الدولة يا أصحاب الصوت والصيت والسوط والوصاية؟
إنَّ كل هذا يجري بينما لا توجد ثقة، حتى عند رجل الشارع البسيط، في أنَّ الطرق المطروحة للخروج من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي نعيشها، ستكلل بالنجاح. فالعيوب التي تحيط باقتصادنا ليست أمرًا طارئًا، ولا ترجع إلى خطأ في الإجراءات أو لظروف مفاجئة قاهرة، إنما هي أقرب إلى "عيب المصنع".
إنها عيوب مرتبطة بطريقة التفكير، ومركزية القرار، وبنية النظام السياسي الراهن، والتغير الجارح في النظرة إلى مؤسسات الدولة وأدوارها المتعارف عليها، والبنية التشريعية، وقدرة الواردين الجدد على الحياة السياسية والاقتصادية في إدارة الأمور.
وطالما لا توجد نية ولم يبدأ إجراء لتغيير كل هذا، فالحلول الاقتصادية الحالية هي أقرب إلى خافض الحرارة الذي يقدم لمريض بالسرطان. مريضنا الاقتصادي يحتاج إلى علاج جذري، يشترط أولًا أن يُقر المريض بأنه مريض.
وهنا نسأل: متى يعترف المريض بأنه كذلك؟ ومتى يدرك أن الدوران حول جوهر المشكلة لن يحلها؟ ومتى يفهم أن الطلاءات ذات الألوان المبهرة، التي تشبه أكاذيب السلطة، لا يمكنها أن تمنع الجدار الآيل للسقوط من الانهيار؟ ومتى يعرف من يطلقون الأكاذيب أنَّ السياسة في مصر صارت مسرحية هابطة؟
هل يعتقد هؤلاء أنَّ الشعب ساذج، وأنه ليس في هذا البلد من يعرف تاريخ الأشخاص الذين يمثلون علينا المعارضة في البرلمان وارتباطاتهم؟
متى يؤمن أصحاب القرار أنَّ الأشد قسوة من سرقة أي شعب وقهره هو استغباؤه؟ ومتى يدرك مجلس النواب أنَّ صراخه على وزير أو محافظ أو انشغاله بالهوامش ليس هو الكلام المطلوب منه، لا سيما بعد أن تفاقم الأمر إلى مستوى مخيف؟
مرر هذا البرلمان كلَّ القوانين والاتفاقيات التي يعاني منها الشعب وسيظل، ووافق عليها الذين استأسدوا على وزير التموين، مثلًا، وهم يعرفون أنهم مفعول به. متى يدرك الذين يروق لهم ما يقوله مجلس النواب، أنَّ امتصاص غضب الناس لا يكون بالصراخ بل بأفعال جادة تقيم العدل والحرية والكفاية، فتنزع الفتيل قبل الانفجار؟
طرح كلِّ هذه الأسئلة ليس ترفًا ولا فذلكةً معرفيةً، بل هو تعبير عن الحيرة التي نعيشها، التي لا يختلف فيها وعليها أحد. هي أسئلة تراكمت على مدار سنوات عسر وانقباض، مُورس فيها الغموض التام لأسباب واهية، فحُرم الشعب، صاحب السيادة والشرعية والمال، من معرفة الحقيقة، لأنَّ السلطة تراه قاصرًا، أو لا يستحق أن يعلم، ولا يجب عليه أن يشارك في القرار.
هي أسئلة واجبة، استُبعد طرحها لسنوات، أو هكذا ظنَّ من عليهم الإجابة عنها، وإذ بها اليوم تهجم بقوة، تطلقها الألسنة في شجاعة، بل في تحدٍّ، ولم يعد هناك مفر أمام السلطة من الإجابة عليها إن كانت، على الأقل، معنية بمصلحتها المباشرة، إن افترضنا أنها ليست مشغولة بمصالح الشعب، أو لا تدرك أن للشعب حقوقًا يجب أن تُؤدى.