عانت مصر طوال تاريخها من مركزية قاتلة، تعرف معها الاستثمارات والخدمات طريقها جيدًا إلى المركز، لكنها تغيب عن الأطراف، بما يُبقي على ظاهرة "الرأس الكاسح والجسد الكسيح"، التي يعاني منها المجتمع المصري عبر تاريخه.
وبينما كانت الأصوات تعلو وتنبِّه إلى أن اللامركزية في الإدارة المحلية ضرورة لإنهاء التحجر الإداري، وتركز القرار في مكان واحد، أو شخص واحد، بما يعوق مصالح المواطنين، حدث العكس تمامًا؛ فالمركزية التي كانت تُبنى على أكتاف مؤسسة أو هيئة أو حتى مجموعة أصبحت في يد شخص واحد.
وفي سياق هذه المركزية، التي تفتح الأبواب للاستبداد والفساد، تدفع مصر ثمن الانفراد بالقرار، الذي أصبح يُتَّخذ دون دراسة، أو بالاعتماد على أشياء وأمور عشوائية أو غيبية لا علاقة لها بالعلم، لينتج لنا نموذج نظام أشد قسوة وتحكمًا مما عرفنا، يعود بنا إلى الوراء بكل المقاييس.
سلطوية تامة
ومن العيوب التي أصابت النظام السياسي المصري الاستهانة بالدستور وإهدار أحكامه. مع أن نظام الحكم الدستوري الديمقراطي هو الركن الأساسي للدولة المدنية الحديثة، التي تتشدق السلطة دومًا بأنها تعمل على بنائها. لكن هذا الحكم الدستوري لا يكون إلا بإقرار سيادة الشعب، ووجود تعددية سياسية غير مقيدة، وغياب أي موانع أمام تداول السلطة، والفصل بين السلطات، والحفاظ على توازنها، وهذه أشياء لم نعد نراها الآن.
إحدى مظاهر هذه الاستهانة، الخلط بين مفهومي "نظام الحكم" و"الدولة"، واعتبار الثانية مجرد انعكاس للأول، أو أن السلطة السياسية هي الدولة، وبالتالي فالاختلاف مع هذه السلطة، أو معارضتها، اختلاف ومعارضة لـ"الدولة" نفسها. لكن نظم الحكم تقوم وتذهب بينما الدولة باقية، والحكومة ليست سوى إدارة مؤقتة لها، حتى لو طال بها المقام في كراسي الحكم.
اجتماع الخوف والفقر لا يعزز الشعور بالكرامة
أما الدولة فهي حاصل تفاعل شعب موجود على أرض محددة يخضع لنظم وقوانين متفق عليها، وتمثله حكومة تدير شؤونه، ومن هنا ينشأ دور أو وظيفة السلطة باعتبارها أداة لتحقيق مصالح المواطنين. لكن السلطة اليوم تدمج الدولة في النظام، ولا تراها خارجه.
ورغم كفاح الجماعة الوطنية الطويل في سبيل استقلال القضاء كشرط أساسي لتحقيق العدالة الناجزة، فإن هذا لم يتحقق على النحو المطلوب، بل عدنا فيه إلى الخلف خطوات واسعة. إن تحقيق هذا المبدأ يتطلب ألا يسمح بتدخل شخص أيًا كان موقعه، وجهة أيًا كانت موضعها أو طريقة تدخلها في شؤونه، بالإضافة إلى إنهاء وسائل إلحاق القضاة بسلطات أخرى، مثلما يحدث عند انتدابهم لوظائف تحت ولاية السلطتين التنفيذية والتشريعية.
.. تسحق المواطنة
وبينما تتماهى السلطات والمؤسسات العامة على تمايزها في بوتقة واحدة اسمها "الدولة" تحكم بإرادتها المنفردة، تتآكل الحريات بدرجة كبيرة ولا يجري التعامل معها كفريضة، سواء ما يرتبط منها بحُرمة الحياة الخاصة، أو بمعناها العام المتعلق بحرية الاختيار والتعبير عن الرأي، وهي جميعًا حقوق يكفلها القانون والدستور، ويحظر تقييدها مثلما يحدث اليوم.
صحيحٌ أن الحريات الخاصة والعامة يجب أن تكون مقرونة بعدم انتهاك الدستور حتى لا تنقلب إلى اضطراب وفوضى، لكن النظام الحالي، وبحجة تثبيت أركان الدولة ومواجهة الفوضى المحتملة، جار على الحريات جورًا ظاهرًا، ونال منها بشكل بارح وجارح، تدل عليه القوانين الاستثنائية، والإجراءات القسرية، ومصادرة الرأي المختلف، بل معاقبته.
تُشكل هذه الممارسات انتهاكات لحقوق الإنسان التي يصونها الدستور، وفق ما أقره الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة عام 1948، وكل ما تبعه من اتفاقيات دولية وقعت عليها مصر، تحمي حقوق الأقليات والمرأة والطفل.
ومع أن الاعتداء على هذه الحقوق أو انتهاكها جريمة ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم، فإن السلطة الحالية لم تهتم بذلك، ولم تقدم طوال عقد من الزمن إلا على بضعة إجراءات شكلية أو تزيينية تضطر إليها بين حين وآخر، ترتبط على الأغلب بمراجعة ملف حقوق الإنسان أمام هيئات دولية، أو بالاستجابة لبعض مطالب مؤسسات التمويل الدولية.
وهناك أيضًا إصرار على تفريغ الحياة الحزبية من مضمونها، رغم أن وجودها ضرورة، ليحرم المصريون من ممارسة السياسة عبر أحزاب شرعية شعبية غير مقيدة أو ممنوعة من الاتصال الجماهيري والوصول إلى منابع التمويل الوطني كما يحدث اليوم، في ظل تغييب الإعلام الذي لا تنظر إليه السلطة باعتباره ضمير الأمة ولسانها فتعمل على ضمان استقلاله، بل تضع القيود على إطلاق منابره المستقلة وفق القانون، بينما وسائل الإعلام المملوكة للدولة لا تتسم بالحيادية والنزاهة، وإنما رهينة من بيده السلطة التنفيذية.
لم تعد السلطة تكترث أو تمتثل لمبدأ صيانة كرامة المواطن. فبالإضافة إلى انتهاك حقوقه في المعرفة والتعبير، لا يأمن المصري اليوم من الخوف، ولم يعد مُحصنًا من العوز، بما يسمح له بالسعي الكريم لتحقيق طموحات حياته المشروعة. فالحقيقة أن التخويف صار سياسة، والتجويع بات مفروضًا على الناس بفعل سياسة الإفقار المنظم، جراء سياسات اقتصادية لا تضع العدل الاجتماعي موضعه الطبيعي والحقيقي والمناسب. واجتماع الخوف والفقر لا يعزز الشعور بالكرامة.
.. وتمزق المجتمع
وبينما تمضي في سياساتها التي تفقر المزيد من السكان كل عام، لا تبدو السلطة مشغولة بتوسيع الطبقة الاجتماعية الوسطى، التي تمثل رمانة الميزان لمجتمع سليم، فهي التي تحافظ على القيم الإيجابية، وتحرص على تعليم أبنائها، فترفد المجتمع بالمختصين في المجالات كافة.
مدَّت الطبقة الوسطى مصر الحديثة بملايين من المدرسين والمهندسين والأطباء والزراعيين والعلميين والأدباء والمفكرين والفنانين على مدار عقود، فقامت على أكتافهم نهضة مصر حتى أدخلوها فضاء التحديث. كما أنها الطبقة التي تحرص على المشاركة السياسية، لا سيما إن وجدت أمامها ضمانات لاحترام أمانها وإرادتها.
إن السلطة الحالية لم تتعامل بحذر في سياساتها التي أفقرت شرائحَ من الطبقة الوسطى، حتى عجزت عن الإنفاق على التعليم والصحة. كما أنها لم تعمل بجدية واجتهاد في سبيل تحسين أحوال معيشة الطبقات الأقل دخلًا، بما يؤدي إلى دفعها اجتماعيًا إلى الأمام، والتحاقها بأيٍّ من شرائح الطبقة الوسطى. فمشروع تكافل وكرامة لا يلبي الاحتياجات الأساسية، والشرائح التي تحصل على الدعم يضيق أمامها السبيل بمرور الوقت، مع تراجع قدرة الإدارة على توفير فرص العمل.
قدرة الإدارة تتراجع أيضًا في توفير الآلية الأهم التي تساعد المصريين على التحقق في سوق العمل؛ أي التعليم، فالسلطة الحالية تتعامل معه باستهانة، بل تعطي ظهرها له، ولا يشغلها عجز الفئات الفقيرة عن تعليم أبنائها، في ظل انحياز واضح لـ"تعليم القلة"، أو تعليم من يقدر على الإنفاق على أبنائه حين يلتحقون بالمدارس والجامعات، والأخيرة صارت كالسجن الانفرادي.
عام 2008، كتبت دراسة بعنوان "جامعات سجينة" عن القيود الأمنية المفروضة على الجامعات المصرية، واليوم صار الوضع أشدَّ قسوةً وصرامةً وتحجرًا، وفُرضِت قيود على الجامعة بها استهانة بدورها واستقلاليتها واستقلالية القائمين عليها، بطريقة لا يمكن معها أن يحدثنا أحد عن رغبة في إصلاح أو صناعة نهضة أو تقدم.
فلا يمكن بناء دولة جديدة بلا تعليم جيد وأكاديميون مستقلون وبيئة حرة للبحث والنقاش العلمي، ولا فرص عمل وطبقة وسطى وحريات فردية وعامة وتداول للسلطة واحترام للدستور والقوانين، وبعض الكرامة!