حين سُئِل جمال عبد الناصر عن سبب محاكمة خصومه السياسيين أمام قضاء استثنائي، سواء كانت محكمة للثورة أو محاكم عسكرية، برر ذلك بأن الضباط الأحرار اختاروا أن يكونوا القاضي والخصم في الوقت نفسه، ليُجنبوا القضاء "الطبيعي" الخوض في هذا المسار، حفاظًا على نزاهته!
كان عبد الناصر يعلم أن محاكماته سياسية وغير عادلة بالتعريف، وأنها تعبر عن إرادة سياسية لتغيير خريطة ومواقع القوى في المجتمع باسم "التطهير". ومعها رُفِع شعار "كل الحرية للشعب ولا حرية لأعداء الشعب".
أعداء الشعب بالنسبة لثورة يوليو يجب أن يكونوا أقليةً مندسةً بالتعريف؛ فالشعب طاهر ومقدس وربما ساذج وبريء، لكنه القائد والمعلم في الوقت نفسه. وعليه؛ فأعداء الشعب فئات محددة جدًا ولها عنوان واضح وسياسي بالأساس.
لطالما حكَمَ طغاة مصر في العصر الحديث عبر القوانين الاستثنائية وحالة الطوارئ، ودائمًا ما نظرنا إلى ذلك عنوانًا للاستبداد والاستسهال معًا.
لكنَّ جانبًا آخرَ غاب عنا في منطق الحكم بالطوارئ وحالة الاستثناء، وهو إيمان السلطة القمعية بالحقوق والحريات الطبيعية والدستورية المكفولة للمواطنين، وكذلك بالدولة والمجتمع الحديث الذي كَفل وضَمن ونظَّم هذه الحقوق. وعليه، فاللجوء للطوارئ والاستثناء كان اعترافًا بأنه خرق لحالة طبيعية، حتى وإن لم تتحقق في أي لحظة من اللحظات. الدولة الحديثة حق وهدف، حتى لو كانت مشروعًا مؤجلًا تأجيلًا أبديًا.
إبان الثورة الفرنسية عام 1789، وفي طورها الأكثر راديكالية تحت سلطة كتلة اليعاقبة، استُفتي من لهم حق التصويت من الفرنسيين عام 1793 على الإعلان الثاني لحقوق الإنسان والمواطن، الذي كان بمثابة الدستور الأكثر تقدمًا وتطورًا في التاريخ الإنساني وقتها، وكفل التعليم العام والتنظيم والتمرد على السلطة المستبدة كحقوقٍ أصيلةٍ للمواطن. وبعدها بشهور أُلغي الرق في المستعمرات.
لكنَّ اليعاقبة أنفسهم، الذين كانوا وقتها أغلبيةً في المؤتمر الوطني الفرنسي، أجلوا العمل بهذا الدستور حتى يتحقق السلام العام والنصر للثورة ضد أعدائها الداخليين والخارجيين، وفوضوا لجنة الأمن والسلامة العامة بقيادة ماكسميليان روبسبيير لإدارة الدولة بسلطات مطلقة واستبدادية. كان الاستثناء لصيقًا باللحظات الأولى لميلاد أول أرقى الوثائق الدستورية في التاريخ.
ولو رأى كارل شميت ضرورة للاستثناء ولوضع قواعد جديدة خارج القانون في فترات معينة، ولو ذهب جورجيو أجامبين إلى أن الاستثناء حالة دائمة وممتدة ولصيقة بالنظم السياسية الغربية، إلا أنهما، كابنين شرعيَّين للحداثة التي ينتقدانها، لم يتصورا أبدًا أن يوضع الاستثناء في صلب القواعد والقوانين المركزية، وأن يغادر موقع الحالة المؤقتة ولو استمرت، إلى موقع القانون المستقر والطبيعي.
قانون إجراءات جلد فلاح العزبة
حسنًا، تريد الدولة المصرية في طورها الحالي تغيير قانون الإجراءات الجنائية، على نحوٍ يهدر أبسط قواعد المحاكمة العادلة والمنصفة، بحيث يُلغَى فعليًا الفصل بين السلطات، وتُشطَب ضمانات وحقوق المتهم في الدفاع عن نفسه، ويُنسَف بشكلٍ كاملٍ دور المحامي في الدفاع عن المتهم، وتُسقَط حرمات المنازل. مشروع يحيل الاستثناء إلى قاعدة، ببساطة هو مشروع قانون ضد حداثي ومعادٍ للشعب.
الشيطان يكمن في التفاصيل، والعدالة لا يمكن أن تتلمس طريقها إلا بسلامة إجراءات التحقيق، ولكن هذا لو كنا نريد العدالة من الأساس.
منذ عام 2014 تفشَّى مصطلح غبي اسمه العدالة الناجزة، ينضح بالكسل والرغبة في التخفف من عبء القانون والحداثة، تحت دعوى محاربة أعداء الشعب، وهو الإرهاب هذه المرة.
مفهوم العدالة الناجزة هذا يتنكر ابتداءً لمبدأ براءة المتهم حتى تثبت إدانته، ليتحول إلى بلاغة لغوية أو بيت شعر ممتع ليس إلا استيفاءً لعملية بيروقراطية ورقية آن وقت التخلص من حمولاتها. فنحن نعرف أن المتهم مدان من اللحظة الأولى، التي اتخذت فيها أجهزة الأمن قرار القبض عليه وحبسه احتياطيًا.
حين أقدَمَ البطل سليمان الحلبى على اغتيال الحاكم العسكري الفرنسي كليبر إبان الاحتلال الفرنسي لديار مصر عام 1800، تعجب المؤرخ والمثقف النابه عبد الرحمن الجبرتي من حرص الفرنسيين على استيفاء الجوانب الإجرائية الشكلانية لمحاكمته.
فالرجل قتلَ كليبر، وقُبِض عليه متلبسًا، وهو لا ينكر صنيعه بل يفخر به، فلماذا يحرص الفرنسيون على عقد محاكمة معقدة الإجراءات من ضمنها وجود محامٍ، لرجل نعرف حتمًا أن أحشاءه ستمُزَّق في النهاية فوق الخازوق؟ كان هذا في الزمانات، وقت كانت البشرية كلها في موقع أقل تقدمًا بكثير. نتحدث عن 224 عامًا مضت.
بعد ثورة يناير لم يعد من الممكن وصف أعداء الدولة بأنهم قلة مندسة ومنحرفة
علمونا أن تبرئة مائة مجرم خير من إدانة بريء واحد. هذه ليست طيبةً ولا بلاهة، بل نزوع للعدل والمساواة على قاعدة أن البشر إخوة. لكن ماذا لو لم نعُد إخوةً في نظر الحكام؟ ماذا لو أصبح الشعب عدوًا للدولة وبادلته هي العداء؟ ماذا لو صرنا نعيش في ظل سلطة تستبطن أن الشعب مشتبه به بالتعريف، وأن عقابه حق وواجب؟
هنا سيصبح لمشروع قانون الإجراءات الجنائية الحالي منطقٌ، لكنه منطق مأفون وأرعن في الوقت نفسه، فالسلطة الحالية ارتكبت جريمتين استراتيجيتين تاريخيتين؛ الأولى حين حوَّلت سلطات العدالة إلى مرفق عقابي، وورطته في هذه العملية بشكل استطال زمنيًا حتى أصبح في حكم الطبيعي، والثانية وهي تحاول معالجة ذلك بتقنين ما لا يمكن تقنينه، عبر العبث بالعدالة كمفهوم نظري يؤسس لوجودنا المشترك، كشعب وأمة حديثة.
السلطة الحالية تحتقر الشعب احتقارًا مخيفًا، لكنها عاجزة عن صياغة هذا الاحتقار على نحو يحافظ على البلاد من ردة سحيقة. وها هي تبث لغمًا يسعى إلى تفجير ما تبقى من ملامح الدولة الحديثة في مصر. لم تكن هذه الدولة الحديثة التي يتراكم تأسيسها عبر أكثر من قرن ونصف القرن من الزمان متقدمةً ولا عادلةً، ولم تملك يومًا مقومات النهضة الحقيقية، لكنها على الأقل حازت الحد الأدنى من الأساس النظري والبنائي الحديث.
لكن لماذا استهداف الشعب كله، وليس قلة مندسة وجماعات سياسية بعينها كما اعتادت الدولة المصرية القمعية عبر أجيال؟ كيف يمكن أن يصل الاستسهال إلى حدود التجرؤ وتجريد كل المواطنين من حقوقهم كمتهمين محتملين في قضايا عادية ويومية؟
الإجابة هي ثورة يناير، وما خلقته من شرخ عظيم في علاقة الدولة المصرية بالشعب المصري. فبعدها لم يعد من الممكن وصف أعداء الدولة بأنهم قلة مندسة ومنحرفة، فالثورة كانت ثورة، وكانت شعبية مهما صرخ إعلام الهذيان شبه النازي بعكس ذلك. أدى ذلك إلى اتخاذ الدولة وأركانها ومرافقها وضعية التشكيل العسكري المتأهب دائمًا للانقضاض على المواطنين، باعتبارهم أعداءً محتملين دائمين. هذه حالة نفسية وسياسية فريدة تستحق الدراسة والتأمل، ولكن بعد وضع حدٍّ لها أولًا.
يمكن ابتلاع عصابية الدولة في حدود أن تمنع مشجعي كرة القدم من حقهم في المتعة داخل المدرجات، فالعيش المنكد جزء من أي حكم استبدادي، لكن أن تتعامل الدولة مع مصر كعزبة، ومع المصريين كفلاحين مرتهنين في حدود زراعاتها، تفعل فيهم ما تشاء متى تشاء، فهذا لا يمكن له الاستمرار، لأنه ببساطة غير ممكن.
لا يوجد 100 مليون فلاح قن، والشرط الوحيد لجعل ذلك ممكنًا، هو إبادة نسبة معتبرة من السكان، ومن أراد فليجرب.