يعي المصريون أنهم محاصرون بمشكلات عويصة تتدهور أحوالهم في ظلها بسرعة لا تخطئها عين، لكنهم في الوقت نفسه، تستبد بهم قناعة ترى أن محاولة حل المشكلات قد تذهب بهم إلى ما هو أسوأ. ومع ترسخ هذا الوعي المضطرب، تيبَّس الجسد المصري وأضحى مصابًا بنوع من الاكتئاب السريري.
في ظل هذا الوضع، تذهب كل الطاقة العامة لإنتاج تواطؤٍ يسعى للتعايش مع ما نوقن تمام اليقين أنه عيشٌ رديءٌ ومتدهور، بل ونتحايل بكل الطرق لنتجنب الخوض في أصول ومكامن مصابنا الجلل.
ولكن إذا لم تكن هذه ردة، فما الردة إذن؟
ما أعنيه بأساسات الردة المصرية هو الردة على المستوى السياسي تحديدًا، فلا أحد بإمكانه الإحاطة بكل تجليات وأشكال الردة على كافة الأصعدة في مجموعة مقالات، لكني أؤمن بأن الردة السياسية هي التي فتحت أبواب الجحيم لكل الردات الأخرى وأطلقتها من عقالها بشكل همجي وانتحاري.
لا أريد من سلسلة المقالات هذه أن أُراكِم همومًا فوق الهموم، بل أن أتلمَّس أطراف الحلول. لكن أي حل نظري لن يتحقق على المستوى المادي إلا لو وقف على أرض صلبة تعي طبيعة الصراع والرهانات الممكنة من داخله. وما عدا ذلك، سيعني إعادة إنتاج المغامرات الملحمية اليائسة التي تتضمن مشهديات كثيرة ودموعًا أكثر. فالتفكير بالتمني لا ينتج سياسة ولا يؤسس مشاريع مستدامة في لحظة أصبحت المحافظة على العلاقات الاجتماعية الحالية بأي ثمن هي الانتحار ذاته.
يسعى هذا المقال إلى فهم أسباب عجز البرجوازية المدنية المصرية عن إقامة وقيادة عملية ديمقراطية وحكم مدني دستوري مستقر شأنها شأن مثيلاتها من بلدان العالم المتقدم والمتخلف، وتفنيد التذرع بشراسة واحتكار طبقة رأسمالية الدولة والبرجوازية البيروقراطية بقيادة الجيش، كسبب وحيد لتفسير هذا العجز، ومحاولات تأصيل ذلك تاريخيًا بالعودة إلى لحظة استيلاء تنظيم الضباط الأحرار على السلطة في عام 1952، لتُحرم البرجوازية المدنية من لعب أدوار سياسية.
كما يسعى المقال إلى تقصي الأسباب الأبعد من هذا الطرح الدعائي الشكَّاء، تتعلق بوعي طبقة رجال الأعمال بذواتهم وعلاقتهم بباقي طبقات الأمة، وبتصورهم الأناني ضيق الأفق عن مفهوم المسؤولية العامة والتعاقد الاجتماعي، بينما تشعر هذه الطبقة بمظلومية تاريخية وانعدام الأمان نحو سلطة الدولة التي قد تجردهم من ملكياتهم الخاصة في أي لحظة.
كما يحاول المقال فهم أسباب فشل التجربة القصيرة للبرجوازية المصرية في مشاركة الحكم مع الملكين فؤاد وفاروق التي انتهت بحريق القاهرة، بالتالي حكم تنظيم الضباط الأحرار، وأسباب إحجام هذه البرجوازية بعدها بستين سنة عن لعب دور سياسي واضح ومستقل بعد ثورة يناير 2011.
لماذا لم يستثمروا في العمل السياسي بشجاعة وسخاء على المستويين المالي والتنظيمي، في وقت كانت فيه الملاعب مفتوحةً تمامًا؟
عقيدة احتقار الفلاحين ثم العمال ثم الجميع
تقول القاعدة السياسية إن لا ديمقراطية وانتقالًا سلميًا للسلطة بدون برجوازية مستقلة وواعية بذاتها كطبقة قائدة. صحيح، ولكن هذه القاعدة تُكمِل أخرى تقول بأن لا برجوازية من الأساس بدون شعب وجمهور.
فالبرجوازية ليست مجرد موقع متسيد ومتحكم داخل شبكة علاقات الإنتاج والملكية، بل أيضًا حالة سياسية ووجدانية "تدَّعي" تمثيل وقيادة فكرة أكبر وأعم اسمها "الشعب". وهذا هو الفارق السياسي الذي يميِّزها عن الطبقة الارستقراطية في زمن الإقطاع. تلك هي قواعد اللعبة السياسية منذ زمن الثورة الفرنسية عام 1789 ونشأة الدولة القومية.
فماذا إذن لو وصل الحال بالبرجوازية المدنية إلى أنها تحمل كراهية واحتقارًا لأغلب فئات الشعب وتمقته من صميم فؤادها وبعموم جوارحها، بل وتراه عبئًا وجوديًا لا يتوقف عن التكاثر وتتهمه بالكسل والتواكل وتسعى طول الوقت لسلبه أي مكتسب عام، متبنية في ذلك خطابات لا تجرؤ حتى أشد القوى يمينية في أمريكا على الجهر بها، مثل دعوات إصلاح "خطأ" التعليم المجاني.
مستوى الكراهية والعداء والخوف الغريزي هذا ليس بإمكانه تأسيس أي شكل من أشكال التمثيل السياسي على النطاق الوطني، فهذا عداء شبه عسكري لا يمكن حتى أن يؤسس ديمقراطية حصرية للبرجوازية والطبقات الوسطى، أو ديمقراطية صورية تستدعي العامة في مواسم التصويت وفقط.
لكن السؤال هو، مَن خيَّل لبرجوازية الإمعات من طبقة رجال الأعمال أن التفعيل الأبدي لخواص الاستبداد سيعني تمكينهم سياسيًا؟ فعلى العكس تمامًا؛ دائمًا ما يأتي نتاج المعادلة السابقة إما حكمًا ملكيًا سلطانيًا، أو نصف جمهورية استبدادية على غرار دولة الضباط الأحرار، وهذا في أحسن الأحوال. أما أسوأها؛ فهو حكم عسكري فظ ينتزع من هذه البرجوازية نفسها أهليتها ويكيل لها الإهانات بلا توقف.
هذا النوع الأناني من البرجوازيات التي تريد حداثة بلا شعب، وحرية حصرية لها فقط، ستؤول دولتهم إلى حيث لا برجوازية أصلًا إلا برجوازية إمعات وسكرتارية من الخدم المرتعد لسلطة الدولة. مجرد رأسمالية تابعة لرأسمالية الدولة، تتغير وجوهها مع كل فترة حكم وكل سلطة عسكرية جديدة، ورموزها هم رجال أعمال تستخدمهم أطراف خفية داخل الجهاز البيروقراطي الأمني والعسكري كواجهات.
علينا ألَّا ننسى الجذور الأولى للقصة، فالبرجوازية المصرية نضجت وتبلورت في أحضان سلطة شديدة القمعية، نمت تحت رقابتها وفي إطار الحدود التي رسمتها لها. لم تكن تلك السلطة مجرد استبداد سلطاني أو خديوي، بل كانت سلطة الاحتلال البريطاني نفسه.
فلو كانت الإرهاصات الأولى للبرجوازية المصرية بدأت في عهدي الوالي سعيد باشا والخديو إسماعيل باشا، فإن الإنجليز لاحقًا هم من رسموا لهذه الطبقة ملامحها ومعالم طريقها، وحددوا ملاعبها وأسواقها وشكلوا أحلامها وكوابيسها.
لم يكن خضوع البرجوازية المصرية للإنجليز مجرد خضوع ناتج عن قبولها التعاون معهم بعد هزيمة عرابي أو بسبب الخضوع للأدوار المرسومة التي حددتها لهم لندن في الأسواق العالمية عندما ربطتهم بماكينة الإنتاج الرأسمالي البريطاني، بل امتد إلى المستويين المعنوي والنفسي، فالبرجوازية المصرية انتعشت تحت مظلة سلطة عسكرية قادرة على الإطاحة بها في أي وقت، وعلاقتهما التعاقدية كانت دائمًا قائمة على الإذعان والتبعية.
فمهما ادَّعى الاحتلال أن علة مجيئه إلى بلادنا هي غرس قيم الحداثة في بلد متخلف وتأسيس سلطة رشيدة وتسييد حكم القانون، فطبيعته العسكرية تجعله تعريفًا للبطش والاستباحة، بالتالي الفساد، مهما تصور عن نفسه عكس ذلك. لذا دأبت البرجوازية المصرية على إرسال شكواها للبرلمانيين البريطانيين من أفعال سلطتهم العسكرية في مصر وتقديم الالتماسات لمجلس العموم وأعضائه "المتمدنين".
من هذا الجذر نبتت ثمرة البرجوازية الإمعة في مصر، حيث الإذعان والضآلة عنوان علاقتها بسلطة الدولة، أي دولة، في مصر، عثمانية كانت أو بريطانية، ملكية أو جمهورية عسكرية، وبصرف النظر عن توازن القوى الحقيقي بينهما، الذي كان في بعض الأحوال في صالح البرجوازية المصرية، لكن طبيعتها الجبانة والتابعة حرمتها من استخدام الأوراق التي كانت بين أيديها.
سيقول البعض وماذا عن ثورة 1919؛ ألم تكن وثبة البرجوازية المصرية الشجاعة من أجل التحرر من سلطان البريطانيين وإقامة حكم وطني ودستوري؟
يتناسى الكثيرون هنا، عمدًا على الأغلب، أن ثورة القرن العشرين كانت شعبيةً بالأساس واتخذت في عام 1918 شكل الانتفاضات الريفية العنيفة والعصيان المسلح ضد الإنجليز والسلطة المصرية على السواء، التي تزامن معها نهاية الغطاء الشرعي والأخلاقي للسلطة المحلية في مصر بانهيار الدولة العثمانية وهزيمتها في الحرب العالمية الأولى، نهاية بتوقيع السلطان على اتفاقية سيفر المُذلة بعد احتلال البريطانيين للقسطنطينية.
فى ظل هذه الأوضاع، حاولت البرجوازية المصرية وبخجلٍ شديدٍ، اللحاق بالثورة الشعبية المشتعلة عبر تقديم التماس مهذب لسلطة الاحتلال يطالب بحضور مؤتمر باريس لعرض القضية المصرية أمامه، وكان الحصاد محدودًا والتكتيك مترددًا ومنخفض السقف والطموح.
وهذا ما عبّر عنه بألم ومرارة مؤرخنا الكبير الراحل صلاح عيسى في كتابه المهم البرجوازية المصرية وأسلوب المفاوضة، بل إن ميثاق العمل الوطني الذي صدر في عهد عبد الناصر نعى في مقدمته ثورة 1919 باعتبارها ثورة الشعب المصرى المغدورة التي تنكر قادتها لبُعديها الاجتماعي والشعبي، فخسرت مضمونها الوطني مع الوقت عبر مسار من التنازلات والمساومات مع الإنجليز.
لقد أخذت البرجوازية المصرية كثيرًا من صفات سادتها المؤسسين واللاحقين؛ احتقار المصريين والفقراء، ادعاء تمثيل الفلاحين والانتماء لهم مع الحط من قدرهم في الوقت نفسه، ومحاولة قصر الرابطة مع عموم السكان على كونها رابطة ثقافية وهوية دينية، مع الخوف العميق من كل حركة للجماهير والسعي لوأدها بالاعتماد الكامل على جهاز الدولة في الوساطة بينها وبين باقي فئات الشعب.
رحلة طويلة تكرس موقعها كإمعة لسلطة السلاح، خاصة مع تلك النسخ التي نشأت لاحقًا في عهدي السادات ومبارك.
.. ثم إمعات لرأسمالية الدولة وبيروقراطيتها
ازداد حال البرجوازية المصرية سوءًا مع الطور الإمعة الجديد الذي صاحب عهد الانفتاح الساداتي. فالعائدون إلى السوق المفتوحة من قدامى الطبقة لديهم رهاب التأميم الناصري، والقادمون الجدد من الجرابيع هم صنيعة النظام الساداتي نفسه. وهذا ما جعل علاقة تبعية طبقة رجال الأعمال لرأسمالية الدولة أشد وأقوى من فترة ما قبل تأميمات 1961، وأضحى هامش مساومة برجوازية الإمعات مع البرجوازية البيروقراطية متناهي الصغر ومتعاظم الانحطاط.
فرجال الأعمال سيسعون إلى رشوة البيروقراطية للحصول على أنصبة في السوق، والبيروقراطية المرتشية من ناحيتها ستساوم وتبتز طبقة رجال الأعمال على فسادها وستعيد تشكيلها من وقت لآخر، وهكذا دواليك.
نشأ جزء معتبر من طبقة إمعات البرجوازية في عهدي السادات ومبارك من داخل برجوازية الدولة البيروقراطية التي طالما احتكرت لنفسها المعلومة الاقتصادية الصحيحة وتوقيتاتها المربحة وكوَّنت عبر ذلك تراكمات رأسمالية سرية من داخل أقبية فساد القطاع العام، مما سمح لها بالانطلاق في عهد السادات بقوة.
كان الرئيس الأسبق حسني مبارك شديد الانضباط في أحاديثه العامة. لكنه، وهو الذي عُرف بأنه سليط اللسان إلى حد البذاءة، كان أكثر انطلاقًا وتحررًا وهو خلف الكاميرات. وفي أحد اجتماعاته مع بعض رجال الأعمال المصريين في أواخر التسعينيات لم يعجبه كلام بعضهم، فحسم الحديث بقوله "لأ اعرفوا إنتو بتتكلموا إزاي بدل ما أرجعكم تاني تركبوا بسكلتات في نادي الجزيرة زي زمان".
هل يحتاج رئيس اتحاد الصناعات لأن يقول لرئيس الوزراء اسمعني أنا هنا؟
في هذه القصة المتداولة التي حكاها لي أحد من حضروا الاجتماع، كان مبارك يُذكِّر برجوازييه أنهم مجرد إمعات، وأن مواقعهم في السوق مرهونة بإرادة رأسمالية الدولة والأجهزة البيروقراطية، مهما تبنى هو شخصيًا خطابات الدعوة للخصخصة وسياسات التكيف الهيكلي وفقًا لأجندة الصندوق والبنك الدوليين.
لكن هذا لم يمنع بعض الطامحين من رجال الأعمال من محاولة التسلل إلى السياسة عبر البوابة الآمنة؛ حزب الدولة والأجهزة البيروقراطية المسمى وقتها بالحزب الوطني. حاولوا تأبط قيادته بالعمل تحت جناح جمال مبارك الذي حاول لعب دور الوسيط بين الرئاسة والطبقة، باستخدام موقعه العائلي في التغلغل داخل أروقة بيروقراطية الدولة ولا سيما الأمنية منها.
فشلت المحاولة بالطبع، لأن هدف رجال الأعمال كان وكالعادة الاستيلاء على جهاز الدولة وتسخيره لمصلحتهم هم فقط. عشر سنوات من صعود نجم جمال مبارك ولم يتخطَّ خطابهم العام ومشروعهم السياسي الاقتصادي مساحة الوعد بأن الثمار الاجتماعية للخصخصة والإصلاح الاقتصادي ستتساقط من أعلى إلى أسفل مع الوقت، من تلقاء نفسها أو بيد السوق الإلهية، لا كمسؤولية وبرنامج من الدولة تجاه المجتمع وبسياسات واضحة.
كانت النتيجة اختمار الشروط السياسية لثورة يناير 2011، التي أعطت فرصة ذهبية لقطاعات واسعة من رجال الأعمال الكبار والمتوسطين، غير الملتصقين تمامًا بقمة السلطة، للعب دور سياسي في عالم ما بعد مبارك. فكان أشجع ما فعلوه في الشهور التالية للثورة أنهم أخذوا مسافة بسيطة من الأجهزة الأمنية المترنحة وقتها، لكنهم سرعان ما خضعوا لها مرة أخرى خوفًا من الجماهير والمطالب الاجتماعية المتزايدة، وكانوا في طليعة المطالبين بالقبضة الحديدية أيًا كان صاحبها.
ففي أحد الاجتماعات الحزبية المغلقة التي حضرتها في أواخر عام 2012، تحدث رئيس أحد الأحزاب بصوت جهوري مطالبًا الرئيس الأسبق محمد مرسي بإعلان الأحكام العرفية ووضع حد للإضرابات العمالية والفئوية وإطلاق يد القوات المسلحة في حفظ الأمن. قد يظن القارئ أن هذا الرجل كان رئيس حزب إسلامي متحالف مع الإخوان المسلمين، لكنه كان نبيل دعبس، رئيس حزب مصر الحديثة، المحسوب على فلول الحزب الوطني، وهو رجل الأعمال الشهير صاحب أكاديميات ومدارس وقنوات مودرن.
قبلها بعام، نشر محمد فريد خميس رئيس اتحاد الصناعات الأسبق "سر خلطة النجاح الاقتصادي" على صفحتين كاملتين في الأهرام، في صورة رسالة مفتوحة إلى كمال الجنزوري رئيس الوزراء وقتها، محددًا وجهة نظره بالتفصيل في السياسات الضريبية والتشريعية المقترحة من أجل إنجاز عملية إصلاح اقتصادي متوازن.
سألت نفسي وقتها، ألا يملك محمد فريد خميس وسيلة اتصال مباشرة بالجنزوري يشاركه من خلالها رؤيته؟ ولماذا لم ينضم إلى حزب أو يؤسس حزبًا سياسيًا جديدًا؟ أجابني بعدها أحد النافذين في مجتمع الأعمال المصري، وهو يتهمني بالسذاجة المفرطة، أن سلوك خميس لم يكن أبعد من كونه استعراضًا وإعلانَ وجود على الساحة، لا أكثر.
لكن هل يحتاج رئيس اتحاد الصناعات لأن يقول لرئيس الوزراء اسمعني أنا هنا؟ ولو كان هذا حال وحدود واحد من ألمع وجوه الطبقة من رجالات الصناعة، فكيف يكون حال البقية؟
في الفترة نفسها، أسس المهندس نجيب ساويرس، الذي يعتبر من أكثر رجال الأعمال تسييسًا وثقافة في مصر قياسًا بأقرانه، حزب المصريين الأحرار. لكن حزبه تأسس وكأنه أحد فروع شركة أوراسكوم وفشل أن يكون قِبلةً ووجهةً لليبراليين المصريين الذين ادعى الحزب تمثيلهم.
الحقيقة العارية لعالم ما بعد يوليو 2013
تحمّس رجال الأعمال الإمعات وبشدة لانعطافة 30 يونيو، لكن حماسهم هذا لم يتجاوز حماس العامة في تفويض الجيش، فتخلوا تمامًا عن أي تمايز أو مكانة أو مسافة، ولو ضئيلة، سبق وحصلوا عليها بفضل ثورة يناير.
في عالم ما بعد 2013، حين تم تخيير البرجوازية وطبقة رجال الأعمال "الإمعية" بين دفع ضريبة عامة مرتفعة أو دفع إتاوة لصناديق سيادية اختاروا الإتاوة بالطبع، ولكن بعنف وحماس شديدين هذه المرة. فالضريبة للشعب ولكن الإتاوة للحاكم السيد الذي يتصور بعضهم أنه قادر على عقد صفقة مباشرة معه، ينتزع منها مكاسب لنفسه وفقط. منطق يليق بحفنة من الأنانيين غير المنظمين، المتذاكين المعادين للقانون ولمنطق العقد الاجتماعي، حيث التعاقد الوحيد هو مع سلاح السلطة.
لقد صور لهم غيهم أن بإمكانهم الهيمنة دون مسؤولية، ومرة أخرى بشراء واحتواء قطاعات من رأسمالية الدولة وتشغيلها لصالحهم للقيام بدور القامع الجبار لبقية السكان نيابة عنهم، فينفذون بذلك هيمنتهم على المجتمع والمجال العام بدون أي مساومة أو تنازلات من طرفهم.
لم تُسائل هذه الطبقة الغبية أبدًا غرورها وشعورها بالاستحقاق، فمن قال لهم إن البرجوازية البيروقراطية والعسكرية ستعمل لحسابهم هم بالذات وفقط؟ ففي غيبة الشعب بالقسر والقمع ومن داخل معادلة الاستخدام المتبادل بين البرجوازيتين، ستكون الكلمة العليا للأقوى، والأقوى هنا هو من يملك الأدوات المادية القادرة على قمع الجماهير طالما لا مجال للتفاوض معها.
لقد أيدت طبقة برجوازية الإمعات الحكم العسكري باعتباره كاسحة ألغام لمصالحهم، يد باطشة ستنظف الأحياء العشوائية وتعيد تخطيط المدن عبر حل كل الاشكالات الاجتماعية بالدبابة والمدرعة، وظنوا أن كاسحة الألغام ستعبّد لهم هم الطريق، فإذا بها تكتسح الكثير منهم في طريقها.
لهذا، وبالتدريج، عادت برجوازية الإمعات إلى ركوب البسكلتات مرة أخرى في النوادي كما هددهم مبارك، انحطت دفاعاتهم إلى حدود العجز عن إبداء أي مقاومة أو مساومة مع السلطة الباطشة وهي تجردهم من مواقعهم لصالح رؤوس الأموال الخليجية القادمة إلى مصر بذهنية استعمارية، بل ستجد بعضهم على أتم استعداد للعمل تحت جناحها، سكرتارية وشماشرجية.
هذه الطبقة في معاداتها للشعب والجماهير واحتقارها العميق لهم، جرّدت نفسها من القدرة على عقد تحالفات مع أي قوى اجتماعية أخرى، مما أعاد إنتاج خضوعهم المُذل للبرجوازية البيروقراطية في الداخل أو الاستعمار في الخارج، صاروا بلا سند ولا دعم، وهم على يمين النظام بما في ذلك النظام الحالي الأشد يمينية في تاريخ مصر، مما يجعلهم هدفًا للحملات الإعلامية المتهمة إياهم بالفساد وسرقة قوت الشعب.
فأنت حين تقرر أنك غير معني أصلًا ببقية السكان إلا باعتبارهم عبئًا وعارًا، وتريد أن تنساهم نسيانًا أو تسحقهم سحقًا، فالطبيعي أن تجردك البرجوازية البيروقراطية من ملابسك، لأن حسها الاجتماعي أنضج منك مهما كانت فاسدة أو غير كفؤة، فالبرجوازية البيروقراطية تدرك على الأقل أن هناك جماهير يجب وأن تأكل شيئًا في الصباح، حتى لو كان هذا الإدراك أمنيًا خالصًا.
طبقة برجوازية الإمعات هذه في رحلتها الطويلة لا يمكن التعويل عليها ولا يجب النظر إليها إلا باعتبارها عبئًا على مستقبل الشعب المصري، ربما نجد بينهم بعض الاستثناءات هنا وهناك لاعتبارات شخصية أو تربوية تتعلق بانحيازاتهم وأصول عائلاتهم السياسية، لكنها تظل استثناءات ضد منطق عمل الكتلة الأصلية لهذه البرجوازية، وعليها أن تتواضع حين تقرر الاشتباك.
لكن ككل، كانت هذه الطبقة ولا تزال ملك يمين البرجوازية البيروقراطية ورأسمالية الدولة التي تعرف طبيعة العلاقة جيدًا، لذا لم تفوِّت لحظة التفويض، وضربت بيد من حديد واتخذت قرارًا بإعادة تشكيل ملامح طبقة الإمعات على مهل وبتحالفات جديدة، ولكنه تشكيل متعثر، نظرًا لأن البرجوازية البيروقراطية نفسها في حالة احتضار تاريخي، وهذا هو موضوع المقال المقبل.