في المقالين السابقين تناولت مسألة السيولة الاجتماعية التي تحرم الفرد من إدراك موقعه الاجتماعي بشكل متماسك، وانطلقت من حال تطور نمط الإنتاج الرأسمالي في مصر وموقعه من النظام الرأسمالي العالمي وأثر ذلك على تشكيل السلطات السياسية التي صاغت شكل وحدود قدرات وفاعلية التشكيلات الاجتماعية في مصر.
والسؤال المركزي في هذا المقال هو: هل مصر، ذات المئة مليون نسمة أو يزيد، تمتلك حاليًا من التنظيمات الاجتماعية ما يُعنْوِن حداثتها بشكل يخلق وعيًا متماسكًا من داخل طبقاتها؟
الإجابة هي لا بكل تأكيد. فمستوى التنظيم الاجتماعي في مصر شديد البدائية والتضعضع قياسًا بعدد سكانها وتنوع نشاطاتهم وتوقعاتهم من وجودهم المشترك. يرجع جانب رئيسي من أزمة مصر الممتدة إلى ضعف ومحدودية وفقر التنظيم الاجتماعي والأهلي فيها، وإلى تداعي أبنيته القائمة، وحرمان الجديد منها من الخَلْق والتبلور، إلى حد العجز عن العمل الجماعي، حتى في حدوده الدنيا.
الوعي بالموقع الاجتماعي ليس عملية فردية، بل إدراكًا جماعيًا مشتركًا. والفئات الاجتماعية موجودة بقدر ما تملك من أبنية جماعية
من السهل جدًا إدراك ذلك ببعض التأمل في الأنشطة محل الإجماع، والمتفق تمامًا على خيريتها. يمكننا ضرب أبسط الأمثلة اليومية والمباشرة التي تحيل حياة الناس إلى جحيم ممتد. يكفى مشهد مداخل العمارات في القاهرة التي يعجز سكانها عن التشارك في مضخات جماعية لرفع المياه، فينتهي بهم الأمر إلى عدد لا نهائي من مواسير المياه الفردية التي تشهد في تجاورها على عجزهم عن القيام بالحد الأدنى من العمل الجماعي الذى يقلل من التكاليف والأعباء.
ليس الاقتصاد وحده
لا يمكن النظر إلى السيولة الاجتماعية كنتيجة لشروط اقتصادية كلية لها علاقة بتطور الرأسمالية في مصر فحسب، فسياسات الجمهورية اليوليوية التي صَعّبت ومنعت وحاربت التنظيم الاجتماعي الحر مسؤولة بشكل حاسم عن ذلك الوضع. كثير من بلدان العالم الثالث التي كان نمط تنميتها الرأسمالي متخلفًا وطرفيًا لم تعانِ بالضرورة من سمات التفكك الطبقي وسيولة المواقع الاجتماعية التي نعاني منها نحن.
التنظيم الاجتماعي هو الذي يبلور الطبقات الاجتماعية ويجعلها تدرك ذاتها بشكل أكثر تطورًا، وبدونه تفقد الطبقات الاجتماعية الكثير من الإمكانات الكامنة في وجودها. فالتنظيم الاجتماعي بتجلياته المختلفة هو الذي يخلق سردية تلك الطبقات عن نفسها في العموم، وفي أدق التفاصيل.
والوعي بالموقع الاجتماعي ليس عملية فردية، كما أشرت في المقالات السابقة، بل هو إدراك جماعي ومشترك. والفئات الاجتماعية موجودة بمقدار ما تمتلك من أبنية جماعية مُنظمة لها، تصيغ إنتاجها المعرفي والثقافي، وتشكل كثيرًا من ملامح ممارساتها الحياتية، وتخلق الحس التضامني اليومي فيما بينها، ومعه كافة الشفرات والوشائج التي تحوِّل عددًا كبيرًا من الأفراد إلى جماعة أو جماعات.
والتنظيم الاجتماعي ليس سياسيًا بالضرورة، فلنُنحِّ هذا "السياسي" جانبًا الآن، لأنه في ظني يتأسس كحاصل جمع وتفاعل وتنسيق باقي التنظيمات الاجتماعية، وعليه فهو مشروط بوجودها وفعاليتها أولًا. يجب أن تمتد التنظيمات الاجتماعية لتشمل كل الأشكال الأهلية خارج جهاز الدولة، التي تسمى إجمالًا بـ"المجتمع المدني"، الموجودة تحت مسماه كل النقابات والروابط والجمعيات والأندية والمشروعات والمبادرات.
مدنية الدولة تبدأ من مدنية مجتمعاتها وتنظيماتها، لأنها الضامن الحقيقي وليس الجيوش والدبابات
أي مجتمع في عالمنا المعاصر يتم تعريف حداثته من خلال عملية التراكم التاريخية التي أنجزتها مجتمعاته المدنية، ومستوى الثراء والتشابك الممتد الذي يجعل من وجودها المشترك سبيكة متعددة العناصر لمجموع اسمه "الشعب".
وإذا كان شعار "مدنية الدولة" محببًا لدى كتل ومجموعات كثيرة في مصر، فإن مدنية الدولة تبدأ في الأساس من مدنية مجتمعاتها وتنظيماتها، لأنها الضامن الحقيقي لها وليس الجيوش والدبابات. وفي كثير من بلدان العالم الثالث والفقير تلعب التنظيمات النقابية العمالية في اتحاداتها هذا الدور بالتحديد.
عشية ثورة يناير 2011 كانت في مصر ثلاثة تنظيمات كبرى وضخمة وعملاقة قياسًا بما عداها، وهم القوات المسلحة المصرية وجماعة الإخوان المسلمين والكنيسة القبطية الأرثوذوكسية. فكان حصاد التجربة قاسيًا لم يمكن تجنب مرارته.
أين المشكلة بالتحديد؟
لدي قناعة بامتلاك مصر نسيجًا اجتماعيًا وطنيًا يمكن وصفه بالمثالي لأي إرادة تحمل في قبضتها مشروعًا للتحديث. فالسواد الأعظم من سكان وادى النيل شديدو التجانس على المستوى اللغوي والثقافي، والنعرات الطائفية والجهوية والقبلية لم تُشكل أبدًا تهديدًا جادًا لذلك التجانس.
والفلاح هو "المصري المعياري" وفقًا للسردية الوطنية شبه المتفق عليها، فكل من حمل فأسًا وعمل في الأرض مصري، أيًا كانت ملامحه أو سماته، وهو منصهر في هوية وظيفية مرتبطة ومُعرّفة بعملية الإنتاج، أي يُمكن لها التَغَيُّر وإعادة التَشكُّل وفقًا لمقتضيات تطور التنمية الرأسمالية. وعليه؛ فهي هوية تحمل في جيناتها إمكانية التحديث بسلاسة.
هذا النسيج يحسدنا عليه الكثيرون، فهو ميزة كبيرة لا يعرف قيمتها إلا من اختبر تجارب قومية ووطنية تتجاور في عواصمها لغتان أو ثلاثة يتكلمها مواطنو البلد نفسه، كبلجيكا. أو تلك البلدان التي تُشكل فيها التراتبية الدينية أساسًا لطبقاتها الاجتماعية، كالمجتمع الهندوسي في الهند. أو البلدان التي لا تُشكل المجموعة القومية الأساسية فيها إلا نصف السكان بالكاد، كحال إيران. أو التي تأسست رواياتها الوطنية على حروب أهلية وأحقاد ممتدة لجيل بعد جيل، وما أكثرها.
لقد حولت "الدولة" ما تبقى من تنظيمات أهلية إلى كيانات غير ممثلة فعلًا إلا في حدود إجازة ممارسة المهن أو حرمان المخالفين منها
ومثلما كان النسيج الاجتماعي المصري ميزة وهبة تحمل مقومات التحديث من دون معوقات يعاني منها آخرون، فإن مشروع التحديث الرأسمالي في مصر يتحمل المسؤولية الأكبر عن المآلات التي انتهى هو إليها بعد توفر بنية تساعده على النجاح.
ربما يكون نسيجنا ذلك وميزتنا تلك هما مكمن أزمتنا. فنحن "نظريًا" جاهزون للتعبير عن الصراع الاجتماعي بأشد الأشكال حداثة وتطورًا، لذا فحرماننا منه هو الشرط اللازم لوأد إمكانية التطور من البداية. فالطبيعة "الأمنية" للتحالف الحاكم كانت وما زالت طاغية على ما عداها. وهي ترى في الصراع الاجتماعي خطرًا وجوديًا عليها، حتى ولو كان في أبسط صوره تنظيمًا.
أصبح "تأمين" الجبهة الداخلية هو الهدف من وراء كل شيء، والجبهة الداخلية هنا تعني تأمين السلطة لأصحابها بالطبع. وتحولت كل الأهداف إلى أهداف أمنية، وصارت هناك أجهزة أمن سياسي، وقطاعات للأمن الاقتصادي، وتحدٍّ للأمن اجتماعي، ومجمعات وأكشاك لـ"الأمن الغذائي"، ويا ليتها متوفرة.
اعتادت الدولة اليوليوية حتى ثورة 2011 إلحاق التنظيمات الاجتماعية بفلكها ومعيتها، وحَرَّمَت التعددية بفرض قيود على التنظيم المستقل بينما هي في الوقت نفسه لا تُنظّم أحدًا. فأصبحت الدولة من الناحية التنظيمية كرأس الشخصية الأسطورية اليونانية ميدوسا، التي إذا نظرت إلى جسم حي أحالته حجرًا.
بل انتقلت عدواها إلى ما أبقت عليه من منظمات، ففي الماضي فرضت دولة يوليو على الناس العضوية الإجبارية في النقابات المهنية الرئيسية. والآن، إذا بادر بعض النقابيين بالحديث عن تكوين نقابة موازية، تلقوا عقابًا مؤلمًا، وهجومًا بضراوة من تيار واسع داخل النقابات القومية، بتهمة "تفتيت الكيان النقابي الموحد".
وفي العقد الأخير الذى شهد انتهاء دولة يوليو نفسها، امتد تجفيف المنابع إلى النقابات الرسمية نفسها، وحرمانها من الحد الأدنى من هامش المناورة والتفاوض، كما حدث مع نقابة الأطباء مثلًا لينتهي الأمر بهجرة ملحوظة من الأطباء المصريين إلى الخارج. ولا مجال للحديث عن النقابات العمالية، فحتى جملة "المنحة يا ريس" التي كان من المعتاد الهتاف بها في عيد العمال، الأول مايو/ أيار من كل عام، صارت الآن من التاريخ البعيد.
لقد حولت "الدولة" ما تبقى من تنظيمات أهلية إلى كيانات غير ممثلة فعلًا إلا في حدود إجازة ممارسة المهن أو حرمان المخالفين منها، أي ككيانات سلطوية وضبطية منبثقة عنها. فانتهى الأمر إلى دولة لا تملك سوى عصا غليظة ومدافع دبابات، تحمل في كثير من ملامح وعيها ما كان يحمله المحتل البريطاني ناحية السكان، والتشكك في أي تنظيم أهلي باعتباره خطرًا محتملًا، وصولًا إلى لحظات التأزم التي تُسنُّ فيها قوانين تمنع تجمع أكثر من خمسة أشخاص. فينتهي الأمر بعد قرن من الزمان إلى واقع تعتاد فيه "الدولة الوطنية" تفتيش محتويات موبايلات مواطنيها، والاعتداء على أدق خصوصيات حياتهم، بينما هم يسيرون في شوارع "وطنهم".
عودة إلى الأمثلة البسيطة الفجة.. كرة القدم
تظل الأمثلة الأبسط هي الأكثر إيضاحًا لحدود الأزمة. كلنا في مصر نحب كرة القدم، المسلم والمسيحي والضابط والفلاح والإرهابي. فهل لنا أن نسأل كيف تأسست الكتل الأولى من جماهير كرة القدم؟ وكيف كوّنت عواطفها في زمن لم يكن أساس التشجيع فيه هو متعة المشاهدة؟ التليفزيون المصري تأسس عام 1960، ولم يكن متاحًا على نطاق واسع للناس إلا بعد ذلك بعشرة سنين على الأقل. فكيف إذن تكونت جماهيرية النادي الأهلي، أو الاتحاد السكندري، أو الزمالك أو الترسانة.
لم يكن الأمر مجرد علاقة مع مسابقات كرة القدم ونتائج مبارياتها، بل بكون تلك الأندية نتاجًا لعمل أهلي وطوعي حر ومتصل يوميًا بالناس، سواء على مستوى الرياضة كممارسة أو على مستوى العمل الخيري والثقافي، بل الوطني أيضًا.
وصل الأمر إلى أن جماهير كرة القدم أصبحت في عداد المشكوك أمنيًا في اجتماعهم المشترك
ومعظم الأندية ذات الجماهيرية أسّست قاعدتها الأولى وسط جمهور لم يشاهد كرة القدم أصلًا، بل لأن الأهلي كان "أهليًا" بالفعل، فكانت له أفرع في كل مكان يمارس فيها المواطنون اللعبة، ويقومون بأنشطة متنوعة تُصاغ من داخلها خطابات وتصّورات محورها أن هذا هو "النادي الأهلي"، أي نادى المصريين الفخورين بقدرتهم على تأسيس مؤسسات تمثلهم.
وبالمثل كان الاتحاد السكندري "اتحادًا" لعدد من الأندية الأهلية لأولاد البلد المصريين في الإسكندرية. هذه الأندية المتحدة كانت موجودة على الأرض ووسط الناس، وليست على السوشيال ميديا. وبالتبعية لا نحتاج الكثير لإدراك أن المصري البورسعيدي هو النادي "المصري" وسط عدد من الأندية الأجنبية، وهكذا.
لكن هل لنا أيضًا أن نسأل لماذا لم تتأسس أندية جماهيرية جديدة بعد جمهورية 23 يوليو 1952؟ ربما باستثناء حالة جماهير نادى شركة غزل المحلة، التي تجمعت لديهم شروط عدّة تجعل من انتمائهم خيارًا حتميًا؛ حزام المصانع في قلب المدينة والملعب في قلب المصانع التي في قلبها العمال.
كان غزل المحلة الاستثناء لقاعدة سادت منذ بداية عهد الضباط الأحرار، الذي لم يتأسس في ظله أي نادٍ جماهيري جديد مهما حقق من بطولات أو قدم أداءً متميزًا. لم تتأسس جماهيرية لنادٍ عريق رياضيًا مثل "المقاولون العرب"، ولم يشجع أهالي السويس نادي بتروجيت في فترات تألقه، ولم يُعرف لنادي إنبي البترولي نَسَبًا شعبيًا، ولا يعشق سكان المعادي نادي وادي دجلة ولا حتى أعضاء النادي أنفسهم؛ ذلك أن الانتماءات ليست تليفزيونية ولا حتى كروية، بل حالة ممارسة وتنظيم أهلي حر يحمل في حضوره قدرًا عاليًا من البداهة والطبيعية والحب والطوع.
قصدت ضرب تلك الأمثلة بالذات لأنها تتعلق بشأن كان يبدو مُتفقًا عليه تمامًا حتى وقت قريب. لكن وصل الأمر إلى أن جماهير كرة القدم أصبحت في عداد المشكوك أمنيًا في اجتماعهم المشترك من حيث المبدأ، لدرجة جعلت كرة القدم المصرية بلا جماهير لفترة تقترب الآن من العشر سنوات.
وكل ما في الأمر أن بضعة روابط جديدة للتشجيع تأسست في العقد الأول من الألفية بواسطة شباب أغلبهم من طبقات وسطى ميسورة، استعاروا أنماطًا أوروبية وشمال إفريقية في التشجيع بحكم احتكاكهم بالعالم، فتم التعامل معهم من اللحظة الأولى كمجرمين، وتطورت علاقة عدائية ثأرية بينهم وبين الشرطة. فإذا كان ذلك هو مستوى الحساسية والالتهاب والآلام ناحية نشاط أهلي محمود من كل فئات المجتمع، فكيف لك أن تدرك موقعك الاجتماعي، أو أيَّ موقع أيًّا كان، وسط كل حقول الألغام تلك؟
بل، سأسأل نفسي سؤالًا آخر؛ هل أصبح كل ما هو عام ومشترك بين المصريين على مستوى الممارسة الشعبية الواسعة أمرًا في طي النسيان، لدرجة تجعل وجودنا كشعب مشكوكًا فيه من الأصل بشكل يتجاوز حتى سؤال الوعي بالمواقع الاجتماعية المختلفة؟ وما أثر اتساع المساحات والخدمات العامة والمشتركة المتاحة لجميع أفراد المجتمع على مواقعنا الاجتماعية بتفاوتاتها المختلفة، هل تُنقِص منها أم تخفض من شأنها؟ وما هو الموقف في حال انعدام وجودها واعتياد ذلك؟
وهذا هو موضوع المقال المقبل.