منذ ما يقارب 15 سنة جمعني سياق مهني برجل أعمال بريطاني لا يُخفي انحيازاته اليمينية التي بدا أنه يعتقد فيها تمام الاعتقاد. لم يحتج الحوار أن يمتد أكثر من عدة دقائق كي نكشف أوراقنا أمام بعضنا البعض. قال إن الماركسية ربما تكون مخطئة في كل شيء عدا أن الإنسان في التحليل الأخير يعي ذاته ووجوده من داخل موقعه الاجتماعي. وكان ردي أن تحليله ذلك أكثر من كافٍ عندي كي أصنفه ماركسيًا عام 2007.
في المقال السابق ناقشنا مدى صلاحية المنطلق الذى يعتبر أنماط الاستهلاك وحجم الدخول في بلد مثل مصر معيارًا لتحديد المواقع الاجتماعية. لكن في هذا المقال سأبدأ من ملاحظة رجل الأعمال البريطاني عن وعينا بالعالم وتشكل ذواتنا الذي يتم من داخل تلك المواقع الاجتماعية. وسأطرح تساؤلًا عن مدى تماسك تلك المواقع في مصر إلى الحد الذى يُمكننا من الإمساك بوعي مَنْ داخلها، وهل هي سائلة لدرجة تحول عن ذلك بشكل يجعل الوعي المتولد داخلها وعيًا شديد الاضطراب.
وعي مضطرب وغير متطور بالمواقع الاجتماعية
وجب التنويه أولًا أن الوعي بالموقع الاجتماعي ليس عندي مجرد وعي بالامتيازات الناتجة عنه أو بالمظالم الواقعة عليه، بل يتأسس على إدراك متراكم لدور ذلك الموقع في الاجتماع العام، سواء كان الموقع في حالة صراعية حول المكانة والهيمنة، أو هو تموضع له معالم مُحددة في فترات التعاقد الاجتماعي الواضح، ومؤطر بحقوق وواجبات ناحية مجمل عناصر المجتمع، ومن ثم استحقاقات مترتبة له وعليه خصمًا أو إضافة.
وبحسب تصور جورج لوكاش فإن الوعي الطبقي في كل الأحوال وعي مكتسب وليس أصيلًا، وبالتالي هو غير مؤكد على الإطلاق من لحظة بداية تشكله.
منذ بداية التحاقي بالدراسة الجامعية، وفي رحلة تعدت الربع قرن، سمحت محطاتها المختلفة بتراكم قدر أظنه معقولًا من الخبرة السياسية والمهنية والثقافية داخل مصر وخارجها، أستطيع معه القول بأن ما كسبه وراكمه الوعي الطبقي في مصر كان ومازال شديد الاضطراب. وفي أطواره المعاصرة صار اضطرابه ذلك يشكل خطرًا على اجتماعنا الحديث بالمجمل.
يمكنك أن تقابل مليارديرًا مصريًا من نخبة البلد البرجوازية لكن وعيه العام لا يختلف كثيرًا عن وعي كادر وسيط يعمل في قسم الائتمان بأحد بنوك القطاع الخاص، أو تتعرف على جنرال بالقوات المسلحة فتجد حدود رؤيته للعالم تصلح لموظف مشتريات بشركة قطاع عام، أو أن تقابل في رحلتك شابًا من أسرة تنتمي للطبقة الوسطى أسرفت أمه في تدليله وغرس قيم أفضلية لا أساس مادي لها داخله فيتصور أن بينه وبين إيلون ماسك ضربة حظ، أو عاملًا يحتقر عمله اليدوي ويعتبره إهانة لأنه حصل على مؤهل عالٍ -ورقي على الأغلب- لن تستطيع أبدًا إقناعه بضعف قيمة مردود ذلك المؤهل، أو فتاة متوسطة الجمال من أسرة متوسطة تتعامل مع جمالها المتوسط كبوابة استحقاق طبيعي لتصبح "هانم" داخل الطبقة العليا في المجتمع.
هذه الاضطرابات على مستوى الوعي العام والوعي بالذات ليست لا سمح الله حكمًا من شخصي المتواضع على مدى رفعة ثقافة ومعرفة تلك العناصر. الاضطراب ليس مردّه الأساسي قصور ثقافي ومعرفي، مع اعترافنا بوجوده كمشكلة عويصة في مصر، بل هو بالأساس خلل حتمي لمنتج مادي أفرزته حالة من السيولة حرمت المواقع الاجتماعية والأفراد داخلها من التشكل والإنضاج بشكل يحفظ لهم القدرة على أن يعوا أنفسهم وعيًا ماديًا متراكمًا غير منقطع أو لاهث خلف حركة تاريخ لا ترحم في شدة تقلبها.
ورغم أن مجتمعاتنا مليئة بالكتل والتيارات التي تعتبر التكلس الاجتماعي وثبات البنية المجتمعية بتقاليدها ومراتبياتها هي الوضع السوي والسليم، بل والشرعي أحيانًا، فإن التاريخ الحديث لكل المجتمعات هو سلسلة من عمليات الحراك الاجتماعي المستمر. وهي عمليات لا تحمل في مسيرتها مصيرًا واحدًا أو خطيًا بالضرورة، فبعض التجارب التاريخية تنتج حراكًا اجتماعيًا متماسكًا وبعضها تنتجه سائلًا ورثًّا.
حراك اجتماعي متماسك وآخر ينتج سيولة ورثاثة
الحراك الاجتماعي الناجح والمتقدم له تعبيرات وسمات متنوعة، كأن يعبّر مثلًا عن تحول واضح لكتلة اجتماعية من طور إلى آخر، كحال تحول العاملين بالزراعة في كتل بشرية كبيرة إلى عمال صناعيين، أو تحول أبناء الفلاحين إلى مهنيين مدينيين في أنشطة عمل ذهني ويدوي مختلفة. وهى العملية التي توسم النهضة الحداثية أو التحول الرأسمالي أو ما شابه كحال تشكيل الطبقات العمالية في أوروبا، أو حالة التحديث المصري في القرن التاسع عشر.
ووارد للحراك الاجتماعي أيضًا أن يأخذ شكل التجربة الجماعية المنتجة لتحول كيفي، مثل نواتج الحروب الأهلية أو هجرة كتلة كبيرة من العمالة والسكان من بلد إلى آخر في صورة مشتركة واسعة النطاق. وهذا المثال ربما ينطبق على هجرة أنماط وأشكال مختلفة من العمالة المصرية إلى بلدان الخليج العربي في السبعينيات والثمانينيات تحديدًا، وما نتج عن تلك الهجرة من إعادة لتشكيل الخريطة الاجتماعية المصرية من جديد.
ويمكن أيضًا أن يأخذ الحراك الاجتماعي شكل التراكم البنّاء داخل الموقع الاجتماعي ذاته على المستوى المعرفي والمؤسسي والرمزي. وهذا ما حدث ويحدث للطبقات الاجتماعية في البلدان الأكثر تقدمًا كدول شمال أوروبا، التي راكمت طبقاتها الاجتماعية رؤوس أموال مادية ورمزية شديدة التفرد، بشكل حوّل كتلة رئيسية من الطبقة العاملة الصناعية فيها إلى فنيين تقنيين متخصصين، أو أسطوات بمعنى أكثر عامية.
قد تفسر السيولة الاجتماعية سيادة النزعات المحافظة في المجتمع، ليس تعبيرًا عن نسق قيمي له أصوله المتماسكة، بل لأن المجتمع يتغير تغيرات سريعة بينما هو في وضع المفعول به
وفي كل الأحوال، سواء كان الحراك تحولًا أو تراكمًا أو مغامرة جماعية، فيجب أن يصحبه أو يلحق به سردية، أو أكثر من سردية، متماسكة عنه، يصيغها أبناء التجربة أنفسهم أو أبناء النتاج المباشر لها. سردية تؤرخ للرحلة وتتأمل في عناصرها ومفرداتها بشكل يسمح للبناء عليها أو تجاوزها نحو تأسيس تصور جديد لاحق عليها.
ونحن في مصر لدينا بالكاد سردية وطنية تتسم بشدة البساطة والمباشرة. أما سرديتنا الطبقية والاجتماعية فشديدة الابتسار، ويعتريها الخجل من الإفصاح عن نفسها بالشكل الذي يسمح لها بالاكتمال. لدرجة أننا شعب، كتلته الأكبر أصولها فلاحية ريفية سواء كانت أصول مباشرة أو ممتدة، لايزال القطاع الأكبر منه، حتى داخل الريف نفسه، يتعامل مع وصف فلاح على أنه وصف تحقيري يقلل من شأن صاحبه. وفى هذا الأمر اضطراب فج يستدعي التوقف والتأمل.
بل إن جانبًا ما من اضطراب الصورة يسمح لي بأن أغامر بالقول إن السيولة الاجتماعية قد تسهم في تفسير سيادة النزعات المحافظة ذات السمات الشكلية واللغة العصبية في المجتمع المصري. ليس بعدّها تعبيرًا عن نسق قيمي تقليدي متجانس له أصوله وجذوره المتماسكة التي يرتضيها الناس طوعًا وعن اعتقاد يدفعهم إلى الحفاظ عليه باستماتة، بل لأن المجتمع يتغير تغيرات سريعة بينما هو في وضع المفعول به. مما يجعل ما يبدو نزعات محافظة وتقليدية، وسيلة وحيدة للحفاظ على معاني الأخلاق والشعور بالأمان والستر النفسي والوجداني أمام موجات من التغيير غير المفهومة أو معلومة الآلية بالنسبة له، فيحاول اللحاق بها من دون قدرة على امتطاء صهوتها.
لكن في الأخير، إذا تجاوزنا عن الاستمرار في طرح المقاربات المفاهيمية ودخلنا مباشرة للحديث عن الأسباب المباشرة المسؤولة عن إنتاج حالة السيولة الاجتماعية في مصر، فلابد من البدء من تحديد القاطرة الاجتماعية التي قادت عمليات الحراك الاجتماعي في البلاد في العقود الماضية. ومن هذه القيادة سنتكشف الأسباب التي تتعلق بالاقتصاد الكلي والاقتصاد السياسي للمسألة، فضلًا عن أسباب سياسية محضة، أفضت جميعها إلى مشكلات تنظيمية متراكمة جعلت من السيولة الاجتماعية وضعًا تاريخيًا ممتدًا.
وهذا هو موضوع المقال القادم.