في هذه الفترة العصيبة التي يمر بها اقتصاد البلاد سأل سائل، هل احتساء نوع أرخص من القهوة أو الاضطرار لركوب الميكروباص بدلًا من أوبر، هو نزول من طبقة اجتماعية إلى أخرى أدنى؟
في المقال السابق حاولت في إيجاز تقديم تلخيص مبسط لتعريفات مختلفة لمعنى "الطبقة"، لكن في هذا المقال سأشتبك مع ذلك السؤال تحديدًا.
على المستوى الشخصي والنظري و العملي والأخلاقي، الإجابة عن السؤال هي لا بكل تأكيد، لكنَّ الأمر لا يخلو من ضرورة لتأمل الدوافع من وراء طرح علاقة الموقع الاجتماعي بالدخل والاستهلاك، وعبره نشرح أسباب الإجابة بالرفض القاطع، خاصة في بلد مثل مصر .
مصر وEgypt في "أمريكا"
خلال القرن العشرين وفي عملية تدريجية، تغير الإطار الاصطلاحي لتسمية الطبقات الاجتماعية، فبعد هيمنة المرجعية الماركسية ذات الجذور اللفظية الفرنسية واللاتينية، بمسميات مثل برجوازية وبرجوازية صغيرة وبروليتاريا صناعية و أخرى رثة، كأساس في التصنيف الطبقي، طغى النفوذ الأمريكي على العالم وصاحبته تأثيرات معرفية ولغوية عميقة.
حاججت الرأسمالية الأمريكية بأن العامل لم يعد "كادحًا" وأنه أصبح جزءًا لا يتجزأ من الطبقة الوسطى
فراحت المسميات تنحى أكثر نحو تعريف المواقع الاجتماعية على أساس مستويات الدخول وسلال الاستهلاك. صار البرجوازيون أو الرأسماليون يطلق عليهم رجال أعمال، و أصبحت البرجوازية الصغيرة أو الطبقة الوسطى تسمى طبقة متوسطي الدخل، أما الطبقة العاملة أو الكادحين فتحولوا إلى محدودي الدخل.
ببساطة لم يعد التعريف الطبقي مرتبطًا بموقع الإنسان من عملية الإنتاج، ولكن على أساس الدخول المتولدة من موقعه داخل عمليات إنتاج وآليات تقسيم عمل أكثر تعقيدًا وعالمية.
لم يكن الأمر مجرد بلطجة معرفية على العالم من موقع إمبراطوري مهيمن للولايات المتحدة، بل نموذج اقتصادي مُتحقق رُوج له في خمسينيات وستينيات القرن العشرين تحديدًا، ثم استمر بعد ذلك بالقصور الذاتي وماكينات الدعاية. وبموجب ذلك النموذج أصبح العامل الصناعي قادرًا على امتلاك منزل خاص وسيارة وحيز نسبي من الادخار سمح لأولاده بالحصول على خدمات تعليمية أفضل. حاججت الرأسمالية الأمريكية في تلك المرحلة بأن العامل لم يعد "كادحًا"، وأنه أصبح جزءًا لا يتجزأ من الطبقة الوسطى ومتوسطي الدخل.
معيار الفرز الطبقي الأمريكي القائم على أساس الدخل والاستهلاك لم يكن واهيًا تمامًا ولا مؤقتًا. لم يكن مجرد نتاج نمو اقتصادي استثنائي بدأ مع جني ثمار سياسة "الصفقة الجديدة/The New Deal" في عهد الرئيس فرانكلين روزفلت في منتصف ثلاثينيات القرن العشرين، واستمر حتى انهيار الأسواق المالية بداية من يناير/ كانون الثاني 1973.
الأمر يتعلق بأساس راسخ في قيم الجمهورية الأمريكية وثورتها المؤسِسِة، يؤمن بتكافؤ الفرص وتبجيل العصامية والصعود من أسفل السلم الاجتماعي بالجهد والعلم.
صحيح أن الولايات المتحدة الأمريكية هي بلد التوحش الرأسمالي في أعمق مكامنه، بشكل يؤلم جدوى الوجود الإنساني، لكنها أيضًا بلد المبادرة والمنافسة التي خلقت عالم على مثالها، حيث تقدير الإنسان ناتج عن نجاحه وإسهامه في بيئة شديدة التنافسية والشراسة.
لقد تمتع سكان الولايات المتحدة لعقود طويلة بتراكم معقول من التكافؤ النسبي للفرص، نقول تكافؤ وليس تساوي لا سمح الله. تكافؤ بمعنى أن فارق الجودة بين التعليم الحكومي وتعليم جامعات القمة The Ivy League ليس الفارق الذى يجعل من الكتلة الرئيسية من الأمريكيين شعبين مختلفين لا تجمعهما لغة. وهناك حدود دنيا لمستوى الخدمات الصحية، مهما كانت سيئة، قياسًا على تلك التي يحصل عليها القادرون على الاشتراك في نظم تأمين صحي خاصة عالية التكلفة.
أمريكا بلد طبقي بالتأكيد، ولكن لو فرضنا فرضًا أن مستوى طبقتيها يصل إلى درجة وجود "مصر وEgypt" داخلها، فأمريكا بالرغم من كل شيء وفى نهاية المطاف ستنتصر لـ"المصريين" على حساب الـ"Egyptians". وإذا كان الأمريكيون السود تاريخيًا مستثنون من تلك المعادلة المساواتية، فهم في النهاية أقلية عرقية وعددية تم اجتثاثها من أفريقيا واستجلاب أفرادها كعبيد، فلا يمكن ولا يعقل أن يكون المصريون هم "السود" في Egypt!!
الجنيه والكارنيه في مصر وEgypt
الدخل بالطبع يحدد درجة الاستهلاك، والاستهلاك يتحدد بالدخل، لكن من الضرورة معرفة أن أسعار السلع الاستهلاكية للطبقات المتوسطة العليا في "Egypt"، كالقهوة الإيطالية الفاخرة، هي أغلى من أسعارها العالمية في البلدان الأغنى. ذلك أنه لا يكفي فقط أن تمتلك مالًا لتجلب سلعًا مستوردة من الخارج، بل يجب أيضًا أن يكون اقتصادك "الوطني" قادرًا على استيراد ذلك النوع من السلع بالعملة الصعبة.
أنت تشتري السلعة المستوردة بأعلى من قيمتها العالمية بكثير وبخدمة بالغة السوء
لا يعرف كثيرون، أو ربما يتغافلون عمدًا، أن كثيرًا من سلعهم المستوردة أغلى بكثير من أسعارها في الخارج بالمعيار الدولاري، لأن أسعارها في مصر تُضاف إليها هوامش أرباح مبالغ فيها للمستوردين الخائفين من تقلبات السوق. فضلًا عن تكلفة الفساد والرشوة لأصحاب الكارنيه، وأخيرًا بسبب ضيق سوق استهلاكها عمومًا قياسًا بعدد السكان، مما يُحمِّل الوحدة المباعة تكلفة أعلى.
أنت تشتري السلعة المستوردة بأعلى من قيمتها العالمية بكثير وبخدمة بالغة السوء، وذلك حال البلدان الأفريقية المتخلفة. هذا هو وضع ميسوري الحال في الكاميرون والكونغو الديمقراطية، فتلك البلدان يعيش فيها Their own Egyptians.
وبصورة أكثر عمومية، لو أخذنا في الاعتبار أن الماكينة المحلية للتنمية الرأسمالية المنتجة معطوبة أو معطلة، وقواعد الثواب والعقاب زئبقية وغير عادلة، فإن المردودات الفعلية لسقف توقُّعات الاستهلاك العالية أقلُّ بكثير من الأمنيات المرتجاة منها، خاصة مع التردِّي العام لمستوى جودة الخدمات وقواعد حماية المستهلك وخدمة العملاء وما شابه.
وفي ظل هذا الوضع سنجد أن الـEgyptians أنفسهم يعيشون عيشة مكلِّفَة وسيئة. الفرق بينهم وبين المصريين بأطيافهم هو فَرقُ السُّوء والرداءة النسبية للسِّلَع والخدمات التي تصل لكلٍّ منهم. وحين تتصوَّر قطاعات من الـEgyptians أنها تحيا حياةً رَغدةً ومتحقِّقة، فإن ذلك الرَّغَد المُتَوهَّم لا يعرف نفسه في الحقيقة إلا من خلال القياس على تردي حال الآخرين الموجودين في درجةٍ أدنى من السِّلم الاجتماعي. فحياة غالبية الـEgyptians في مصر هي بأي معيار عالمي منخفضة الجودة في كافَّة تفاصيلها، وعالية التكلفة في الوقت نفسه.
لا يمكن أن تعرف طبقتك بالتحديد بينما تعيش بين شعبين في بلد شديد الكثافة والتكدس والتخالط، وسيظل بلدًا واحدًا مهما فصلت بينه شعبيه الأسوار والطرق السريعة والكباري. وجود مصر وEgypt معًا على الأرض نفسها يجعل من الصعب جدًا على الفرد معرفة حقيقة هويته الطبقية داخل كل منهما، خاصة لو كنت مصريًا على حدود Egypt أو العكس. فالبلدان في الأصل شديدا الهشاشة، والدخول في البلدين شديدة التطاير واللا معيارية.
من أنت؟
داخل مصر وEgypt عالم للجنيه وآخر للكارنيه، استهلاك ودخل كل منهما لا يتحدد ولا يُعرّف بنفس الكيفية والأدوات. فالكارنيه له قوته الشرائية الخاصة وامتيازاته المعلومة والمجهولة. ومؤخرًا أصبحت له اقتصاديات قائمة بذاتها على وشك التهام الجنيه نفسه وافتراس معناه.
الجنيه في جمهورية مصر العربية الحالية الجديدة ليس عملة واحدة، ويشاركه الكارنيه نفس الملامح. الجنيه المصري يمكن أن يُقوم مصريًا ويمكن أن يُقوم دولاريًا، فيخلق ذلك التفاوت في الدخول الذي سمح بوجود مصر وEgypt على نفس الأرض.
هناك بالطبع جبروت ادخاري و استهلاكي للجنيه "الدولاري" يسمح له بالتراكم والتعزز، ولكنه في كل لحظة معرض للاختفاء خلف القضبان بقرار من كارنيه ما. الأمر ذاته ينطبق على أصحاب الكارنيه، حدود استفادة بعضهم من امتيازات سلطتهم لا تتجاوز القدرة على ضمان حياة مستورة بالكاد. بينما هناك آخرون منهم راكموا في السنوات الماضية ثروات لا يمكن تخيل حدود قيمتها، وإن كان يمكن استقراء معالمها من سفه إنفاق أبنائهم في Egypt.
بناء على ما سبق، وهو أقل بكثير مما يجب قوله في هذا الصدد، فإننا لا يمكننا بمعايير حداثية راشدة اعتبار القدرة على شرب ذلك النوع من القهوة من عدمه معيارًا للانتقال من طبقة إلى أخرى، صعودًا أو هبوطًا، فى بلد مثل مصر وشروطها. هذا محض هذيان، فالوضع شديد التطاير. دخلك في مصر قد يحدد طبقتك، ولكن بالسلب، يحددها بأنك لست أدنى ولكنه لا يحدد من أنت. فأنت لا تعرف من أنت بالضبط أبعد من كونك لا تشبه من تتصوره أدنى وأضعف منك.
ربما ببعض الإنصاف يمكن تَفَهُّم أن مشهدًا اجتماعيًا بذلك المستوى من الغموض والسيولة ورثاثة المعايير، يمكن له أخذ نوع القهوة أو ركوب الميكروباص معيارًا بائسًا يائسًا لتمييز وضع عن آخر. لكن فلنترك القهوة والميكروباص جانبًا كي نتحدث في المقال القادم عن "السيولة ورثاثة المعايير"، لأن فيها تفسيرًا لكثير من جوانب الأمر.