عندما انتظمت في الكتابة الأسبوعية لـ المنصة في فبراير/شباط من العام الماضي، اخترت البدء بسلسلة من ثمانية مقالات حاولت فيها وبشكل مبسط الاشتباك مع معنى الموقع الاجتماعي والطبقي في السياق المصري خلال قرنين من التحديث، والتحولات الجارية عليه حاليًا في ظل تغيرات سريعة وعنيفة تعيد تعريفه من جديد وعلى أسس غير مألوفة.
قراء المنصة هم في الأساس من أبناء الطبقات الوسطى المتعلمة، الذين يتحدُّون سياسات حجب المواقع ويبذلون جهدًا كبيرًا للوصول إلى آراء تُحارب بضراوة، مما يجعلهم طليعة مثقفة بمعايير اللحظة المعاصرة.
لكن رغم ذلك، حاولت أن أبدي مزيدًا من الحذر في كتاباتي الأولى عن التحولات الاجتماعية الحالية، إدراكًا لآثار السحق الاجتماعي العنيف الذي تتعرض له قطاعات واسعة من هؤلاء القراء أنفسهم، على المستوى المادي والوجداني والإدراكي، لدرجة جعلت الكثيرين منهم في حالة من الإنكار والخدر وهم يحاولون التعامل مع ثقل وطأة اللحظة الراهنة وشروطها.
لكن ربما بعد عامين من قرارات التعويم المتلاحقة وأثرها المباشر في حياتهم، بدأ الكثيرون إدراك أن ما يعيشونه الآن ليس مجرد لحظة عارضة أو سوء أقدار مرحلي، بل واقعًا قد يمتد طويلًا، ستتغير وتتبدل فيه الخرائط الاجتماعية وتصورات الناس عن أنفسها ومصيرها وموقعها. إنه عالم جديد.
من أساطير الخطاب الوطني المصري عن اجتماعه التاريخي، خاصة في سردياته المحافظة، أن المجتمع المصري شديد البطء وأقرب إلى السكون في تحولاته. وتستند مفردات هذا الخطاب على الجغرافيا النيلية وطبيعة سكان الوديان والنزوع الديني العميق والمتأصل في السكان والخوف من الأغراب.
ولطالما كانت قناعتي عكس ذلك تمامًا. مصر بلد يتغير بسرعة جدًا على عكس ما تدعي السرديات الوطنية المحافظة، ويعاد تشكيل خرائطها الاجتماعية كل ربع قرن على الأقل وعلى نحو عنيف. وليست لدينا طبقة برجوازية مستقرة بل يعاد تشكيلها مع كل نظام حكم جديد أو في كل تحول دولي وإقليمي مهم.
هناك مستجد استثنائي وهو إفقار الطبقات الوسطى والمتعلمة وإدراكها أنها تحولت إلى طبقات عاملة
أما الطبقات الوسطى فلم تمتلك أبدًا مؤسسات وتقاليد قادرة على إرساء قوام مستقر لها يسمح بإدماج الوافدين الجدد عليها داخله. حرمت الدولة الأمنية لعقود طويلة كل الفئات الوسطى المصرية من حقوق التنظيم والمبادرة، وكان أثر ذلك عليها مدمرًا بشكل استراتيجي، بعد أن أصبحت الهشاشة صفة لصيقة بها.
ما سبق كان مصاحبًا ومعطوفًا على موقع شديد التخلف داخل بنية النظام الرأسمالي العالمي، زاد من تخلفه إدماجنا في اقتصاديات باطن الأرض البترولية ذات الطبيعة الريعية والطفيلية، مما جعل اقتصاداتنا غير مرنة ومعدومة الهمة والخيال.
التخلف والتبعية يجعلان عمليات الحراك الاجتماعى أسرع وأقسى، لأنها تتم على غير إرادة أو مشاركة السكان، وفي الأغلب بعشوائية شديدة وضد مصلحة أغلبيتهم الساحقة. بل إنني أدعي أن هذا السبب بالذات هو ما جعل للتيارات الدينية حظًا ونصيبًا قويًا من الشعبية، لأن عوام الناس ومتعلميهم في حاجة إلى ما يعين وجدانهم ونفسيتهم على هذه التغيرات العنيفة التي تعيد تشكيل حياتهم قسرًا، وتصيغ مستقبلهم بشكل غير تعاقدي أو رضائي.
لكن هناك مستجد استثنائي يحدث الآن في مصر للمرة الأولى في تاريخها الحديث؛ وهو عملية إفقار الطبقات الوسطى والمتعلمة التي سبق أن بذلت عبر جيلين أو ثلاثة كل الجهد سعيًا للترقي الاجتماعي بالعلم والعمل.
هذا المستجد لا يحرم فقط أبناء الفئات الكادحة من فرص الترقي الاجتماعي، لكنه يُفقر فئات سبق وأن حققت هذا الترقي بفضل نجاحات جديرة وفق المعايير المتفق عليها سابقًا، واعتادت العيش في بحبوحة نسبية، ولا تتصور مستقبلًا مختلفًا لأبنائها.
وفي المقابل، تتسم الطبقات الطفيلية الصاعدة في مصر بحقارة وجربعة استثنائية؛ غموض كامل لمصادر الثروة، وغياب تام للمشروعية التي تبرر هذا الصعود، وفقًا لأي معيار أخلاقي اتفقت عليه السردية الوطنية الاجتماعية في مصر.
المسألة ليست فقط استمرار وامتداد كابوس الإفقار الحالي وما يترتب عليه، ولكن أيضًا شكل العالم في اليوم التالي لانقضاء هذا الكابوس. فدوام الحال من المحال، ونحن جزء من عالم لن يتجاوز أزماته الاقتصادية الهيكلية إلا بسياسات جديدة ستعيد تشكيل المواقع الاجتماعية للجميع في العالم كله. ونحن كما ذكرت سابقًا، وبحكم كوننا دولة متخلفة، ففي الأغلب سنكون جزءًا من إعادة التشكل تلك على غير إرادتنا.
هنا نحن أمام تحديين، الأول هو التعامل مع ما هو كائن باعتباره أمرًا واقعًا ممتدًا، يجبر الجميع على إعادة التفكير في الكثير مما اعتبروه مسلمات تحدد وجودهم ومواقعهم داخل الاجتماع العام المصري، وما يترتب على ذلك من تصورات سياسية وتعاقدية مع الدولة ومجمل فئات المجتمع.
والثاني هو إدراك أن رياحًا عالمية عاتية لن تتوقف عن الهبوب علينا وستسمر في إعادة تشكيل مجتمعاتنا، وأن تغيرات عنيفة ستخلخل بنية الاقتصاد العالمي عاجلًا أو آجلًا. سيكون لذلك أثر مباشر في علاقاتنا وارتباطاتنا الإقليمية والدولية، خاصة مع إدراكنا لحقيقة أن المكون الإقليمي، ولا سيما الخليجي، أضحى طرفًا في حياتنا اليومية من موقع سلطة رأس المال.
لذا وبمعنى من المعانٍ نحن أمام مشهد تاريخي غير مسبوق، تتكدح فيه طبقات وسطى تعي نفسها تمامًا كطبقات وسطى، وتدرك في عملية استمرار إفقارها إنها تتحول إلى طبقات عاملة، لكنها طبقات عاملة تحمل قدرًا من الوعي والخطاب المحتملين لإدراك الذات وإنتاج المعاني، في ظل انهيار غير مسبوق في نسق الخطاب الوطني التقليدي كما اعتادوا عليه وتربوا في كنفه.
هذا ليس بالتحول البسيط، وربما ينتج لأول مرة خطابات أكثر جذرية مما اعتاده المصريين عبر تاريخهم الحديث.