تُنسب هذه الكلمات الغاضبة إلى المثقف الوطني المؤسس عبد الله النديم. كانت كتابات النديم حماسية تفيض بالمشاعر، اتسمت بالمراوحة الشديدة بين اليأس والرجاء، والتأرجح المستمر بين تمجيد الشعب وازدرائه، لكن ذاكرتي لم تساعدني على التحقق من صحة نسب هذه المقولة إليه بالرغم من قراءتي لأغلب أعماله.
لكن في كل الأحوال تعبر هذه الكلمات حادة المزاج عن جذر مؤسس في خطابات أبناء الطبقات الوسطى عن مجمل الشعب المصري الذي تم اختراعه في منتصف القرن التاسع عشر، كلمات قد تنقلب إلى النقيض تمامًا في ملابسات مختلفة، يتحول معها المصريون ذوو الرائحة النتنة الذين يكرهون الحرية إلى خير أجناد الأرض وهم في رباط إلى يوم الدين.
الجميع يتهم الجميع بالفِلح والكل فلاحون في نفس الوقت
تسربت رؤية الذات الجمعية ثنائية القطب هذه إلى عوام المصريين أنفسهم، لأنهم متشربون ثقافة ومقولات الطبقة الوسطى عبر منتجاتها الثقافية والإعلامية، ستسمع رجلًا بسيطًا يقول لك في ثقة إن الشعب المصري شعب لا يستقيم سلوكه إلا بضرب الكرباج، شعب يجمعه المزمار وتفرقه العصا، لكن هو نفسه سيهتف ارفع رأسك فوق انت مصري في لحظة أخرى.
كنت قد أشرت في المقال السابق إلى التباس علاقة البرجوازي الصغير ابن الطبقة الوسطى بالطبقات الأكثر كدحًا من عمال وفلاحين، وكيف أن هذه العلاقة تشكل في الوقت نفسه عصبًا أساسيًا للممارسة السياسية في بلادنا، لأن الطبقة الوسطى في النهاية هي الوجدان الذي يسكن فيه عقل وجسد السياسة المصرية، ومثقفو هذه الطبقة تحديدًا هم صانعو السياسة ومقولاتها حتى وإن لم يُسمح لهم بممارسة السلطة من خلالها، أما العامة من الكادحين فهم الجسد محل الخطابة أو الممارسة.
وفي هذا المقال سأركز على الاضطراب الشديد في علاقة البرجوازية الصغيرة وأبناء الطبقة الوسطى بمفهوم الشعب، كيف تقفز بسهولة من مراتب العشق إلى الاحتقار إلى العشق مرة أخرى ولماذا؟
يأس الأفندي من الفلاح.. من نديم إلى ناصر
دائمًا ما أخذ البعض على جمال عبد الناصر مقولته "جئت اليوم كي أزرع فيكم العزة، كي أزرع فيكم الكرامة" التي صاح بها في خطاب شعبي عام 1954، معتبرين إياها نوعًا من الاستعلاء والاحتقار للجماهير وبخسًا لنضالات الشعب المصري التي ولد هو نفسه من رحمها.
أعترف أنني كنت واحدًا من هؤلاء، ولكن وجهة نظري تغيّرت مع الزمن، فأنا لم أعد أرى مقولة عبد الناصر تعبيرًا عن استعلاء بقدر ما كانت نابعة عن وعي يائس متراكم صبغ وجدان أبناء الحركة الوطنية المصرية من الطبقات الوسطى ناحية عموم المصريين.
لو كان عبد الله النديم وأقرانه هم الآباء، فعبد الناصر وصحبه هم الأحفاد، البرجوازيات الصغيرة والطبقات الوسطى التي تعلو على الفلاحين بالعلم والتعليم، أكثر مما تعلو عليهم بالمال أو الجاه.
كان التعليم في مصر مفتاحًا للترقي الاجتماعي، لكنه في الوقت نفسه يعطي سلطة لأصحابه على العامة، لأن علينا أن نأخذ في الاعتبار أنه حتى عام 1952 كانت نسبة المتعلمين من المصريين لا تشكل أكثر من 15% من عموم السكان، وكان الجامعيون منهم أقلية صغيرة.
لذا كان هؤلاء في زمانهم بمثابة النبع الصافي الذي أبصر النور حتى لو كانوا عميانًا مثل طه حسين، ونحن بلد كان الهم السياسي فيه محتكرًا داخل دور العلم وأسوارها الحصينة، منذ زمن المجاورين في الأزهر الشريف في العصور الوسيطة، وانتقلت لاحقًا هذه المهمة إلى دور العلم الحديث حين تحولت الجامعة المصرية إلى معمل سياسة، تأسست داخل أسوارها كل التيارات والتنظيمات، وكانت مجالًا للفكر والممارسة.
نخبوية الطبقة الوسطى صاغت نفسها في مواجهة الجهل تحديدًا، لكن هناك معضلة أخرى وهي أن أصحاب الجهل هم الأغلبية، هم الآباء والأصل. والوطنية المصرية في مراحل صياغتها الأولى قررت انتحال الفلاحين في مواجهة الترك والشركس، واكتملت الملحمة في دنشواي وصورة جسد محمد درويش زهران تتدلى من المشنقة.
وُلِدَ هنا ازدواج أبدي ممتد حتى الآن، نحن فلاحون وهذه هويتنا، ولكن الفلاحين جهلة ومتخلفون بالتعريف، فيصبح التخلي عن الجهل والتخلف نوعًا من فقدان الهوية، هذه الدائرة الجهنمية تجعلنا نرى في أنفسنا ذوات كريهة معذبة، محكوم عليها بالتخلف طالما تمسكت بكينونتها، الجميع يتهم الجميع بالفِلح، والكل فلاحون في الوقت نفسه.
أنتج هذا اشتباكًا سياسيًا مضطربًا عند أبناء الطبقة الوسطى، فقرر الإخوان المسلمون تربية الشعب والفلاحين واضطلعوا بمهمة تحويلهم فردًا فردًا قدر الإمكان إلى كينونات لائقة دينيًا وشخصيًا. احتقر الإخوان الشعب "عديم التربية"، وأنتجوا حالة طليعية تشبه في بعض خواصها العملية الكثير من التصورات الستالينية عند الشيوعيين المعاصرين لهم، تنظيم حديدي مركزي، وتراتبية تنتج طليعة من نوع ما، كان الإخوان بمعنى من المعاني هم الحزب الشيوعي المتحقق تنظيميًا!
العامة والفلاحون يقابلون احتقار الأفندية لهم بتوجس وازدراء
في المقابل عبد الشيوعيون ومصر الفتاة الشعب المصري ككينونة كلية مقدسة، تجسدت بعد قرابة قرن من الزمان في عبادة أكوام اللحم البشري في ميدان التحرير باعتبارها تجسيدًا للإرادة العامة، لم تكن الناصرية بعيدة عن هذه الروح، فالشعب هو القائد والمعلم والملهم، الأكوام ذاتها التي أحاطت بالزعيم في المنشية وهو يؤمم قناة السويس عام 1956 وخرجت عفوية تطالب بعودته في ليلة التنحي في 9 يونيو/حزيران 1967.
تقديس عفوية الشعب استثناء لقاعدة إنكارها، عبدَ الشيوعيون الشعب ولكنهم أنكروا انتفاضة حريق القاهرة عام 1952، وشكك كثير منهم في عفويتها واعتبروها مؤامرة تخريبية ما، وفي جيل لاحق أدان قطاع معتبر منهم أعمال العنف التي صاحبت انتفاضة 18 و19 يناير/كانون الثاني 1977 وهو ما وضحه عادل العمري فى دراسة مهمة له عن الانتفاضة وقراءة تيارات اليسار لها.
لكن العلاقة الملتبسة ليست من طرف واحد، فالعامة والفلاحون يقابلون احتقار الأفندية لهم بتوجس وازدراء، ولعل مواقف غالبية الكادحين من ثورة يناير دليل على ذلك، وتبدل موقف الغالبية من الإخوان المسلمين في ظرف سنة ونصف السنة دليل أكبر.
أتذكر أن أحد المثقفين النابهين سألني عن سر غياب اليسار المصري عن الفلاحين، وكيف أن كل أطياف الميول الماركسية كانت موجودة فى مصر بشكل تنظيمي باستثناء الماوية، وهى أكثر طروحات الممارسة السياسية اليسارية إمكانية في مصر بحكم أنها بلد قوامها الأساسي من الفلاحين؟
كان ردي عليه أن يأس الانتلجنسيا المصرية من العامة أكبر بكثير من أن يأخذوا بتلك الرهانات، أو ربما لم يتأزم الوضع في مصر إلى الحد الذي يضعهم أمام خيار كهذا، يضطرون معه إلى التضحية بامتيازاتهم الاجتماعية ويضعون تصوراتهم وشعاراتهم في موضع الاختبار، لكن من يعلم، ربما قريبًا!
في كتابه الأوردى مذكرات سجين يقول سعد زهران "الناس البسطاء العاديون حين يكونون في امتحان عسير، وهم كثيرًا ما يكونون، ويخلع عليهم صانعو المنشورات السياسية والخطب التليفزيونية صفات البطولة، يدركون بحاستهم أن تلك الأمجاد المبالغ فيها ليست إلا شركًا لاستدراجهم لمزيد من الآلام والتضحيات المجانية، أو هي من جملة الطقوس التي يمارسها محترفو السياسة لكي يقبضوا ثمن آلام الآخرين وتضحياتهم".