تصميم: يوسف أيمن - المنصة

أساسات الردة المصرية| طبقة وسطى تصنع الخيال وتسحقه

المأساة السياسية لطبقات متأرجحة

منشور الخميس 19 ديسمبر 2024

في سلسلة أساسات الردة المصرية، التي أحاول فيها فهم جذور وحاضر أزمات الممارسة السياسية في مصر، خصصت مقالين سابقين للحديث عن مواقع طبقات الأعيان ورجال الأعمال والطبقة العاملة من السلطة الحاكمة، وأثر ذلك على أفق وحدود ممارساتها السياسية.

لكنَّ الحديث عن علاقة الطبقة الوسطى المصرية بحاضر وتاريخ الفعل السياسي يحتاج إلى أكثر من مقال، لأن تيارات الطبقات الوسطى والبرجوازيات الصغيرة، على تنوعاتها في التاريخ الحديث، كانت المُعبِّر الأبرز عن طيف الأمزجة والطروحات التي صاغت طموحات وهمم وإحباطات الممارسة السياسية المصرية، وما حملته من نزعات راوحت بين الرومانسية والشطط من ناحية، والمراوغة والانتهازية والبلادة من ناحية أخرى.

بإيجاز شديد؛ فالطبقة الوسطى هي الوجدان الذي يسكن فيه عقل وجسد السياسة في مصر، وهذه مشكلة كبيرة جدًا، بل ربما هي لبُّ الأزمة.

حقد وافتتان.. تبرؤ واستدعاء

للبرجوازي الصغير ابن الطبقة الوسطى علاقات مُركَّبة وعصبية بالطبقتين الرئيسيتين؛ الطبقة البرجوازية الأساسية ونقيضها العمالي. تستند علاقته بالبرجوازيين والأعيان على ركني الحقد والافتتان في اللحظة ذاتها. فهو يدرك أنه ليس منهم، وأنه محروم من امتيازاتهم، لكنه في التحليل الأخير لا يرى العالم إلا من خلال عدسات نظاراتهم.

ولهذا، فهو في سياق تاريخي معين، يهمُّ متسلِّقًا شجرتهم مستبدلًا بهم نفسه ولنفسه، وذلك باسم العهد الجديد أو التقدم أو الاستقلال أو الإسلام وما أكثر اللافتات. وأحيانًا أخرى يتمثل وعيهم وممارساتهم خاضعًا ذليلًا لَوَّامًا لذاته كما يحدث هذه الأيام. لكن في ظروف أخرى، يسعى إلى تحطيمهم بالكلية باسم الشعب والكادحين كما حدث في تجارب يسارية راديكالية سابقة، كلٌّ على حسب الشرط التاريخي والعلاقات المادية التي تصوغ علاقته بهم.

أما علاقة ابن الطبقة الوسطى بالطبقة النقيض؛ أي الطبقة العاملة والطبقات الأكثر كدحًا عمومًا، فهي علاقة لا تقل تعقيدًا واضطرابًا، وبالذات في بلادنا التي شهدت حراكًا اجتماعيًا عنيفًا وسريعًا في القرن العشرين.

لخصت أروى صالح اضطراب وعي ابن الطبقة الوسطى وهي تصفه بأنه من يحاكم العالم حين يعجز عن فهمه

فالطبقات الكادحة بالنسبة له هي الماضي الذي يهرب منه أغلب الأوقات، ولكنه يضطر للعودة إليه أحيانًا، فهم الفقر والفخر في الوقت نفسه. كل برجوازي صغير هو جيل ثانٍ أو ثالث لعائلةِ فلاحٍ أو عاملٍ كادحٍ، ويشكِّل هذا الجذر موضوعًا للنسيان أو الاستدعاء، حسب الظروف والشروط.

البرجوازيون الصغار أبناء الطبقة الوسطى ينكرون ويتناسون الطبقة العاملة والفلاحين إذا ما أتيحت لهم ولطبقتهم فرصة وإمكانية التحالف مع البرجوازية الكبيرة والدولة، ومن ثَمَّ تمكينهم من الصعود الاجتماعي وتعديل شروط موقعهم في مصفوفة علاقات القوى. وهذا ما بدا لأبناء هذه الطبقة عشية ثورة يناير مثلًا، حين ظنوا أن بإمكانهم صياغة تحالف اجتماعي واسع، يسمح بالممارسة السياسية وتداول السلطة وإعادة تشكيل ما يسمى بـ"النخبة".

لكنهم في سياق مختلف، قد يستدعون الفقراء والكادحين، ولو على مستوىً رمزيٍّ وخطابيٍّ، إذا ما شعروا بالخذلان والازدراء من البرجوازية والأعيان، وهذا ما فعله مثلًا الضباط الأحرار وقتما قرروا تنظيم أنفسهم، لأنهم في أغلبهم انتموا إلى طبقات وسطى ميسورة، بل كان بعضهم شديدي اليسر، ومع ذلك قدموا أنفسهم للشعب على أنهم أبناء الفلاحين الكادحين على طريقة فيلم رد قلبي.

هذا التناقض في وعي البرجوازية الصغيرة والطبقة الوسطى هو ما يجعل بندولها السياسي متأرجحًا دائم الحركة والعصبية، يراوح بين ادِّعاءات عقلانية تتوخى البرود المبالغ فيه بدعاوى التعامل الواقعي مع توازنات القوى الراهنة أحيانًا، وفي أحيان أخرى تجده وعيًا شديد الشطط والتطرف الأحمق، غارقًا في رومانسية لا تحمل ولا تحتمل أي قدر من الشكوك النقدية.

هذا الوعي المضطرب بالتعريف هو ما لخصته الراحلة أروى صالح في كتابها المبتسرون، حين وصفت البرجوازي الصغير ابن الطبقة الوسطى بأنه الشخص الذي يحاكم العالم حين يعجز عن فهمه.

في أصول السياسة المصرية 

في كتابه في أصول السياسة المصرية الذي لم يحظَ بالرواج والتقدير الملائمين، قدم المفكر والمناضل الراحل سعد زهران أطروحة شديدة الذكاء والأصالة، يذهب فيها إلى أن تيارات الطبقة الوسطى هي الوحيدة التي سعت إلى تجذيرٍ ديمقراطيٍّ في مصر.

يرى زهران أن الدولة المصرية طالما كانت في وضع منقوص السيادة؛ فهي دائمًا ما تكون موضوعًا لحكم ثلاثي التحالف، يجمع بين نفوذ وقرار الإمبراطورية العالمية المهيمنة، والقصر الحاكم في مصر، وطبقة الأعيان المحليين، وأن معنى السياسة في مصر هو حاصل تفاعلات وتحالفات وصراعات هذا المركب الثلاثي.

لكنه يرى أيضًا أن هذه العلاقة الثلاثية التي تشكل أساس الحكم في مصر علاقة إقصائية بالتعريف لأي مكون من خارجها، طالما هي مستقرة ولم تصل التناقضات داخلها إلى الحد الذي يدفع أحد أطرافها إلى الاستعانة والتحالف مع عناصر ومكونات من خارج هذا المركب.

برجوازيتنا برجوازية إمعات معادية لأوسع قطاع من الناس وأحسن طبعاتها انتهت في منتصف العشرينيات

وعليه، فإن الطبقات الوسطى المصرية وطلائعها المثقفة استغلت لحظات مثل ثورة عرابي وثورة 1919 وحركة العمال والطلبة عام 1946، لمحاولة تربيع هذا المثلث الحاكم، والدخول كطرف جديد في المعادلة، أحيانًا من موقع الطرف الأصيل، وأحيانًا أخرى من موقع التابع. وفي كل الأحوال، فإن هذا الحضور الجديد دائمًا ما يستدعي معه مفهوم الأمة كحدٍّ أدنى أو فكرة الشعب كحدٍّ أقصى، في محاولة تعزيز مركز الطبقات الوسطى وهي تتفاوض مع الإمبراطورية والقصر والأعيان.

والحقيقة أن هذا الطرح يجد ما يثبته ويؤسس له في الممارسة السياسية المصرية في التاريخ الحديث، فالطبقة الوسطى أو البرجوازية الصغيرة، لا البرجوازية التقليدية على غرار الثورة الفرنسية، هي من سعت لاستدعاء الشعب في أكثر من محطة. في الواقع، كانت البرجوازية المصرية مسكونةً بروح إقطاعية وأرستقراطية معادية تمامًا للعامة وشديدة الارتياب فيهم، وهو ما حولها في النهاية إلى وضع الإمعات الذي تحدثت عنه سابقًا.

لكن هذه هي الأزمة الدائرية التي لم تنتهِ حتى تاريخه، ففي النهاية لا ديمقراطية بدون إرادة برجوازية، وبرجوازيتنا برجوازية إمعات معادية لأوسع قطاع من الناس، وفي الوقت نفسه كسولة وغير خلاقة، أحسن طبعاتها السياسية انتهت في منتصف العشرينيات قبل مائة عام، وتوقفت عند طرح شعارات حكم الدستور والقانون، دون تعيين من أجل من وعلى أي طريق.

لقد صمَّم الوفد المصري على ألَّا يعتبر نفسه حزبًا سياسيًا لأكثر من ثلاثين عامًا، بل الهيئة الجامعة المانعة لوكالة الأمة المصرية في معركتها من أجل نيل الاستقلال. ترفَّع الوفد المصري عن تبنِّي برنامجٍ سياسيٍّ أو تصورٍ اجتماعيٍّ عن مصر ما بعد الاستقلال، وكان قادته يعلنون في صفاقة أن برنامجهم هو خطبة زعيم الأمة في عيد الجهاد.

هذا في تطوره فتح الباب لأن تتحول تيارات الطبقة الوسطى المصرية إلى مناحٍ وميولٍ أكثر راديكاليةً وتطرفًا، فظهر الشيوعيون والإخوان المسلمون ومصر الفتاة، وفي ظهورهم أضحى وجدان السياسة في مصر أكثر جذريةً، يشعر بالخيانة الدائمة من البرجوازية الموكلة إليها قيادة العملية الديمقراطية والدستورية، بينما هي لا تريد إتمام هذه المهمة ولا تحدد ملامح ما بعد إتمامها.

ومن هنا بدأت الأزمة الممتدة حتى تاريخه، وهي أن التيارات المعبرة عن الطبقة الوسطى المصرية والأكثر أصالة في ميلها الديمقراطي هي تيارات غير ديمقراطية، تراوح بين الرغبة في استدعاء الشعب، أو استسهال الاستيلاء على الدولة بخطة انقلابية.

هذا التناقض العنيف هو ما أسس لمعضلة وعي الضباط الأحرار ومنطق حكمهم، ومن بعدهم كافة أشكال الميول السياسية في مصر من أبناء الطبقات الوسطى، وهذا هو موضوع المقال المقبل.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.