كانت نيتي أن أكتب هذا المقال في نهايات سلسلة أساسات الردة المصرية، لكنَّ تسارع الأحداث في سوريا وردود الأفعال المصرية عليها جعلت منه أولوية.
لا يمكن الحكم الدقيق على الدوافع السياسية التي تصوغ المواقف والانفعالات وهي تتابع التغيرات العنيفة التي تجري في سوريا، فالأصل حاليًا في مصر هو السيولة الشديدة وتفكك التيارات والمعسكرات، لكن يمكن بسهولة ملاحظة الهلع والرعب والذعر والصراخ كعناوين أساسية لهذه المواقف، وتحديدًا عند قطاعات معتبرة من مؤيدي النظام في مصر وقطاعات أوسع من الطبقات العليا والوسطى، وأحاول في هذا المقال تفسير بعض أسباب هذه الحالة.
لكن قبل البحث عن تفسير، علينا مبدئيًا، وقبل أي شيء، أن نتذكر أن ما حدث في سوريا آخر 12 عامًا تسبب في إبادة أكثر من نصف مليون إنسان، ونزوح نحو 6 ملايين سوري خارج سوريا و7 ملايين داخلها. أما المختفون قسريًا ولا يعلم أحد عنهم شيئًا فيقارب عددهم المائة ألف.
أغلب هذه الأرقام المفزعة كانت على يد نظام لديه مسالخَ بشريةً يمارس فيها التعذيب والاغتصاب والشنق الجماعي والإبادات الممنهجة للمدنيين، وبينهم أعداد كبيرة من النساء الأطفال، واستخدم في لحظات غضب متكررة الأسلحة الكيماوية ضد شعبه المحاصر بواسطة "جيشه"، بينما كان يشن الغارات الجوية العشوائية ببراميل البارود على هؤلاء السكان وكأنها تحية الصباح.
هذه هي الحقيقة الأولى التي تتبعها بقية الحقائق وتترتب عليها كنتيجة، والحقائق التي تلت هي تفكك الدولة والجيش، وامتناع قطاعات واسعة من الشعب عن الالتحاق بالقوات المسلحة، ونمو الجماعات الجهادية إلى حد ظهور تنظيم داعش الذي مثَّل صورة الجنون الصافي للحالة التكفيرية.
وترتب على ذلك بالتبعية تشجيع إسرائيل على مزيد من استباحة المنطقة ككل، بعد تحول سوريا إلى مرتع لعدد غير محدود من الميليشيات المسلحة التابعة للنظام والمناهضة له، لتغدو بذلك ساحة استعمار روسي أمريكي إيراني تركي، وإسرائيلي بالطبع.
الطغاة حين يدمرون مناعة مجتمعاتهم وكرامة شعوبهم يجلبون الغزاة بينما شعوبهم مخدَّرة ومنهكة، والحكمة قديمة قِدَم تأملات ابن خلدون حين قال "الظلم مؤذن بخراب العمران".
من لا يصدّق ما سبق تحت تأثير دعايات اللجان الإلكترونية مجهولة النسب، يكفيه أن يرهق نفسه لساعة أو اثنتين على جوجل أو يوتيوب.
البحث في مكامن الهلع والذعر
أغلب المتعلمين في مصر ليسوا منغمسين في الشأن السوري المعاصر وليسوا مهتمين إلا بخطوط عريضة عامة لا تكفي لتفسير أي تطور يحدث هناك. هم لا يعرفون ما هو حكم البعث السوري ومعنى العيش تحت وطأته ولا يحيطون بخطوط التماس الطائفية والجهوية في البلاد وحساسياتها. ما يصل إليهم في السنوات العشر الأخيرة هو شذرات وروايات مبتسرة يسمعون فيها كلمات متناثرة مثل "داعش"، "بشار"، "أكراد"، "علويين".
والأصل أيضًا أن كثيرًا من المصريين المتعلمين الذين يدَّعون الاهتمام بالشأن العام، لا يعرفون الكثير ممَّا يدور خارج مساحاتهم الآمنة وفقاعاتهم الاجتماعية داخل مصر نفسها، بل لا يريدون معرفة شيء عن السواد الأعظم من الشعب المصري نفسه. والأصل عندهم هو الصور النمطية والمعادلات الكرتونية أو الصفرية.
فهل كل الهلع مما يحدث في سوريا مصدره أن من أسقط الأسد هي ميليشيات إسلامية مدعومة من تركيا؟ أم أنه، كما يقول البعض، خوف من انهيار الدولة؟
لا أعتقد أن للأمر علاقةً بسوريا من الأصل، سوريا فقط هي شبيهنا العربي الأعز، الأخ الذي نحبه جدًا لكننا لا نعرفه إلا بالكاد، لذا فأخباره لا تهمنا بقدر ما تعري أعصابنا وتفتح جراح العُقَد والترومات المحلية والداخلية بوجداننا. أما الهلع والهواجس، فمصرية بالأساس.
لنتحدث عن الهلع من "انهيار الدولة"، وما الذي يعنيه هذا المصطلح عند أغلب هؤلاء.
بدايةً، مخاوف انهيار الدولة في مصر بلا أي أساس مادي أو موضوعي. لا أحد يريد انهيار مؤسسات الدولة ومرافقها. الكل في مصر من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار يريدون الدولة ذات الوظائف والخصائص الحديثة، يريدون مرافق الكهرباء والمياه والغاز الطبيعي والسجل المدني وهيئات الأمن العام والنقل العام ومترو الأنفاق، يريدون امتحانات الثانوية العامة والتعليم الجامعي وحملات التطعيم ويريدون الجيش الذي يحمي استقلال وسيادة البلاد.
كل هذه الخدمات يريدها الشعب ولن يتنازل عنها، ومن يقدم هذه الخدمات هو الشعب أيضًا، لأن الذين يديرون عجلة هذه الدولة ودولابها فعليًا هم بسطاء الناس والمكافحون من الطبقات الوسطى الدنيا، وهؤلاء لديهم ميول وأمزجة انحيازات متنوعة.
إذن، الهلع والرعب ليسا من انهيار الدولة، الهلع من أن يجعلها المصريون دولتهم هم، أن يريدوها جمهورية الشعب، فما العيب في ذلك؟
مصر بلد شديد الكثافة السكانية والتكدس لذا سنرى بعضنا البعض مهما هربنا من بعضنا البعض
العيب في ذلك أن تعريف الدولة عند غالبية هؤلاء هو أنها القوة المسلحة الغاشمة التي تحافظ على النظام والمصالح الاجتماعية والطبقية الحالية كما هي. لا علاقة للأمر بالحفاظ على جودة الخدمات العامة وتماسك المؤسسات القائمة عليها، بل بالحفاظ على مصالح وامتيازات مادية وطبقية تريد أقلية من الناس الاستئثار بها وحدها بأي ثمن وبأي وسيلة.
كان الذل وليس أقل عنوان علاقة الدولة المصرية بسكانها، وظل هو أساس علاقة الأعيان بفلاحيهم في السابق، لكن الأزمان تبدلت ولم يعد الفلاحون على نفس حال البؤس والجهل والطاعة، ولم يعد الذل بالمعايير والأدوات السابقة ممكنًا. وفي عملية تاريخية طويلة، أضحى المصريون على مقربة من المواطنة، لذا يزداد الأعيان ودولتهم شراسةً وعدوانيةً.
تعرَّى العصب السياسي للأعيان ودولتهم في 28 يناير 2011؛ اليوم الذي انتفض فيه الشعب انتفاضةً سياسيةً منتصرةً لا مجرد حالة من الغضب الشعبي التدميري الأهوج. هذا الانتصار عمَّق من الهلع أضعاف ما كان موجودًا في السابق، ليس لأنه خلَّف دمارًا أو تفككًا في بنية الدولة بل لأن ما حدث هو العكس بالضبط، فالانتفاضة الشعبية العنيفة لم تسبب انهيارًا أبوكاليبسي ومؤسسيًا للدولة بقدر ما سبب انهيارًا سياسيًا لها، وهنا بالضبط اقتربت الكهرباء من العصب الملتهب، وأضحت إمكانية مواطنة العامة الأذلاء على مقربة من التحقق.
مصر بلد شديد الكثافة السكانية، شديد التكدس، وادينا ضيق جدًا، سنرى بعضنا البعض مهما هربنا من بعضنا البعض، الطبقات تتجاور مهما بنى الأغنياء بروجًا مشيَّدةً، ويعي الجميع ويدرك أصل الصراع وجوهره. تعرف الطبقات المهيمنة أنها أقلية في محيط من طبقات الفقر والعوز المختلفة، ويجول شبح دائم يهمس في الآذان بصوت خفيض أنه ولا بد من يوم محتوم تترد فيه المظالم، الذل مسكون بالذنب، وكل نفس تعرف إنها بما كسبت رهينة.
ولأن كل نفس بما كسبت رهينة
لمع اسم الصديق والرفيق الراحل محمد أبو الغيط حين كتب تدوينة الفقراء أولًا يا ولاد الكلب في أعقاب ثورة يناير. عرفه الناس من صرخته الأخلاقية البريئة القادمة من أسيوط، كان أبو الغيط طالبًا في كلية الطب وعضوًا سابقًا في جماعة الإخوان المسلمين، وتركها لأنها لا تجيب عن أسئلته الصادقة والسليمة حول الأساس الاجتماعي والطبقي لأزمات مصر.
كتب أبو الغيط "الفقراء أولًا يا ولاد الكلب"، ليُذكِّر المشهد الذي يتشكَّل وقتها بأن هناك آخرين يعيشون معنا وأن كثيرًا منهم ماتوا لأجلنا في الثورة.
حين اندلعت ثورة يناير 2011 رُفِع شعار "إيد واحدة". وقتها كان المقصود أن تتحد كل القوى السياسية وكافة أطيافها، وهذا مستحيل سياسيًا إلى حدود السذاجة، وكان يعني أيضًا أن الجيش والشعب يد واحد.
ما كان مضمرًا فعلًا من خلف هذا الشعار الساذج، هو السعي لإيجاد صيغة تحالف وتوافق بين الدولة والطبقات العليا والوسطى تنتج مجالًا سياسيًا أكثر تعددية، تكون مهمته بالأساس إعادة إنتاج الهيمنة التي تحول دون تمكين العامة من امتلاك مواطنتهم وضمان تهميش القطاع الأوسع من الجماهير الفقيرة.
أخلَّ الإخوان المسلمون تمامًا بهذا الاتفاق ولعبوا بالنار، لأنهم تخلوا عن اليد الواحدة الطبقية أو تخيلوا ألَّا يد سوى يدهم فقط، فكان عقابهم شديدًا من كافة شركائهم الطبقيين، وعاد الجيش مربيًا عنيفًا للجميع.
في الأثناء، بل ربما مبكرًا جدًا عن ذلك، تم تعيين الحرية كنقيض للأمن في مصر، وتم التوافق على التسليم بصحة هذا التناقض المفترض. ففى بلد متجانس عرقيًا وثقافيًا ويحمل في الوقت نفسه كل هذه التناقضات والتفاوتات الاجتماعية، يعي جيدًا من لديهم ملكيات وثروات أن الضمان الوحيد للحفاظ على أمن وأمان ملكياتهم هو قمع كل الحريات بما فيها حرياتهم هم أنفسهم إذا تطلب الأمر.
تنافت الحرية في مصر مع الأمن والاستقرار لأن تمتع الكافة بها سيطرح سؤال المساواة الاجتماعية
تعي الطبقات المهيمنة والمستفيدة من السلطة في مصر أن شرط السير في شوارع أحيائهم الهادئة ليلًا، أو السهر في أنديتهم وكافيهاتهم، وجود قبضة أمنية عنيفة تحبس السكان عشوائيًا على سبيل التحري والاحتياط في أقسام الشرطة بشكل يومي ودوري.
هم يدركون تمامًا تمامًا أن شرط أمنهم هو سلب حرية أغلبية الشعب. بل هم مستعدون للتضحية بحرياتهم السياسية والفكرية مقابل ذلك. ولما اختمر الشرط قدموا حرياتهم على طبق من فضة للجيش، تحت شعار أعطِ العيش لخبازه ولو أكل نصفه، فكانت النتيجة أن الرغيف صار أصغر وأردأ.
المعادلة بسيطة جدًا، تنافت الحرية في مصر مع الأمن والاستقرار، لأن أول ما سيترتب على تمتع الكافة بها هو طرح سؤال المساواة الاجتماعية والسعي لإجابته، إما عن طريق السياسة والقانون أو عن طريق العنف الجماعي، وفي حال تعثر ذلك سيعبر عن نفسه من خلال العنف الفردي والجريمة.
في اللحظة الحالية، أصبحت السياسة وسيادة القانون من الممنوعات بدعوى حالة الاستثناء التي أعلنت أن أولويتها هو منع العنف الاجتماعي الجماعي. فتحول العنف الفردي السلبي إلى سلوك يومي ومعتاد وخارج عن السيطرة، لنصبح على مسار ينتهي بألّا حرية ولا أمن ولا ثروة أيضًا. إدراك هذا المسار غالبًا ما يأتي متأخرًا جدًا، فالطغاة مغرورون وأغبياء، كما رأينا في سوريا.
الخوف من انتقام الفقراء في مصر أكبر من أي خوف آخر. في مصر طبقات وسطى إسلامية الهوى لديها ثارات كثيرة ومزاج مفعم بالحس الانتقامي، ولكنها رغم ذلك تخشى أن تسلم مصيرها لانتفاضة شعبية قد تُذيقها نصيبًا من الانتقام.
يوم جَرَّدت الدولة الطبقة الوسطى من أهليتها السياسية واحترامها الاجتماعي، نشأت صيغة مصر وإيجبت بعد تحطيم الكتلة الاجتماعية الوازنة التي تمنع احتمالات الاقتتال الأهلي، وعزز ذلك التحطيم السياسي والمعنوي تحطيمًا اقتصاديًا أعنف. وفي مصر الآن سرسجة ودعدشة، كثيرٌ من المخدرات والغضب والهرمونات. الكل يعرف ذلك جيدًا، لذا يطفح الخوف فوق الجلود عند أي حدث تُشتَّمُ منه رائحة الاضطراب الاجتماعي.
الخوف ثم الخوف ثم الخوف
سبق وعرَّفت "الجربعة" في كتابي تاريخ العصامية والجربعة بأنها حزمة من التصوُّرات الفردية والجماعية التي تعمل على إنتاج وإعادة إنتاج نفسها نفسيًّا وسلوكيًّا من خلال الاستهانة بسلامة واتساق المنطق الأخلاقي على نحوٍ يحرم صاحبه من الدرجة المطلوبة من احترام النفس واحترام الآخر واحترام المعاني عمومًا، فتنحطُّ تفاعلاته مع الوجود إلى حدود تجعل الخوف بتجلياته المختلفة ملازمًا لكل العلاقات، "الخوف من أو الخوف على" كعناوين رئيسية حاكِمَة للاجتماع الإنساني المشترك، بنحوٍ يَجتثُّ كرامة الإنسان وينال من فضائل وجوده.
عدم اتِّساق القول مع الفعل أو تناقضهما واستمراء هذا التناقض بتبجُّحٍ دون وخز للضمير، أو التخلِّي عمَّا يتصوَّره المرءُ قناعةً أو خطًّا سليمًا لمجرد تعثُّر هذه القناعة في محنة من المحن، أو تقديس القوة، أيِّ قوة، لمجرد أنها منتصرة.
وأضيف في هذا المقال أن محاولة "عقلنة" الخضوع الكامل لحالة الخوف من أو الخوف على والعمل على تبريرها وتسويغها، هو ما يمكن أن يفسر استسلام الإنسان لما هو غير إنساني، أن يصل الهلع إلى حد فقدان التمييز هو ما يفسر جملًا من نوعية "نعم بشار الأسد مجرم وسفاح وإبادي ولكن.."!!
يظل الخوف الأكبر في مصر هو الخوف على الملكية الخاصة والهلع من انتقام الفقراء، هذا هو الشبح الذي يجول في ضمير ووجدان الأقلية المتمكنة المستعلية، ومن داخل هذا الخوف ستحاول الكلمات أن تنسج أسبابًا تُعنونه.
يدور الحديث عن خوف كبير مما يجري في سوريا التي سيحكمها تنظيم إرهابي، لكن ربما تأتي المفاجأة الكبرى لهذه الطبقات الاجتماعية من المصريين من حلوان لشبرا، وهم يرون نظراءهم في سوريا ممن سبق وقايضوا حرياتهم وحياة البسطاء السوريين بما تخيلوه أمنًا سيوفره لهم سفاح مثل بشار الأسد، وهم يخضعون اليوم لسلطةِ من كان مؤسِّسًا لتنظيم القاعدة في سوريا.
ليس مجرد خضوع، بل إن بعضهم سيتسابقون ويتدافعون بالمناكب لنيل رضا أبو محمد الجولاني الذي تحول إلى أحمد الشرع، ليحفظ لهم ممتلكاتهم ومصالحهم.
يدعون أنهم يخافون حكمًا إسلاميًا داعشيًا في مصر، وأغلبهم مؤيد لمن سبق وأن أكد غير مرة أن الله يؤتي الملك لمن يشاء وينزعه ممن يشاء، وأنه وحده سبحانه هو من ولَّاه مصر واستخلفه على حكمها، وأنه وحده من سيحاسبه على أفعاله وسلوكه في يوم العرض العظيم.
فهل الأمر إذن يتعلق بطول اللحية؟
هذه مسألة سهلة جدًا وبسيطة، لأن أحمد الشرع المُكنَّى بأبي محمد الجولاني سيحلق لحيته أو يهذبها. المسألة لا تتطلب أكثر من حلاق تركي ماهر.