كنت أذهب إلى قهوة الروضة في وسط دمشق من أجل لعب الطاولة وتدخين الشيشة، قبل أن أتوقف عن التدخين وعن زيارة سوريا لأسباب صحية وأمنية. خلال سنوات الأسد، لم نكن نتحدث عن أي شأن سياسي سوى بحرص بالغ؛ فهذا أمر محله البيوت. وحتى داخلها، يخفض الناس أصواتهم همسًا عندما يتطرق الحديث إلى الأسد أو الفساد والتعذيب والاختفاء القسري، وهي ظواهر باتت فظاعتها طبيعية في سوريا منذ ثمانينيات القرن الماضي.
يفسر هذا الحالة السحرية التي شعرت بها وأنا أخطو داخل المقهى المقابل لمبنى البرلمان، بعد سقوط سلالة الأسد بأسبوعين، على وقع هتافات "يلعن روحك يا حافظ" القادمة من حناجر نحو مائتي شخص يرددون أغاني الثورة محتفلين بسقوط العائلة التي كان شعار أنصارها"الأسد أو نحرق البلد"؛ فاحترق الاثنان.
ربما كان كثير من السوريين يكررون شعارات الثورة ولعن حافظ وبشار بسبب عدم استيعابهم أن نظام حكم العائلة سقط فعلًا.
تحولت صالة المقهى الخلفية لمحل انعقاد منتديات شبه يومية للحديث حول مستقبل سوريا وقضايا الطائفية والعلمانية والعدالة الانتقالية. وعلى حوائطها شعار "اسمعونا يا شباب" الذي تنعقد سلسلة اللقاءات تحته. ذلك اليوم، كان المتحدث الرئيسي هو الروائي والصحفي السوري يعرب العيسى، الذي انطلق في بلاغةٍ وحماسٍ متَّزنٍ ينظر للمستقبل ولبناء البلد الذي صار "خربًا على الأرض".
ركز العيسى على أهمية التعايش ونبذ الطائفية، وشدد على أن النظام سقط للأبد، ويجب الآن بناء الديمقراطية.
بعد حوارات مع الحضور، استهل شاب سؤاله واقفًا في آخر القاعة، قائلًا إنه يحضر المنتدى نيابة عن عدة أصدقاء لم يتمكنوا من الحضور بسبب ارتفاع ثمن المواصلات العامة (أقل من نصف دولار للشخص ربما)، فانتبه له الجميع. رحب الشاب بمناخ الحرية الجديد ووعود الديمقراطية، ثم قال إن التحدي الرئيسي أمام الحي الذي يقيم به هو قرار حكومة الأمر الواقع إلغاء دعم الخبز. حاول العيسى طمأنة الشاب وتحدث عن أهمية رفض أن يكون الخبز "مغموسًا بالذل" الذي عانى منه السوريون في الحقبة الأسدية، لأن الديمقراطية بشكلٍ ما هي ضمان استمرار الخبز بشكل كريم.
لم يكن الرد مقنعًا لي، وربما للشاب، الذي سيعاني هو ورفاقه من ارتفاع أسعار الخبز، وتذكرتُ ساعتها المقال التاريخي الذي نشره الراحل محمد أبو الغيط الفقراء أولًا يا أولاد الكلب في أعقاب خلع مبارك، ودعا فيه للاهتمام بأولويات المهمشين اقتصاديًا الذين "لم يخرجوا ليطالبوا بالدستور.. ولا بالانتخابات، لم يخرجوا لتكون مصر ليبرالية أو مدنية أو إسلامية.. خرجوا فقط للأسباب التي تلمس واقعهم. أسعار الطعام والملابس والمساكن التي ترتفع بجنون".
كانت نسبة الفقر في مصر آنذاك نحو 40%، بينما تصل في سوريا اليوم وفق أقل التقديرات لنحو 70%، وقد تصل إلى 90% من إجمالي 23 مليون مواطن.
وجوه الفقر
ينخدع زائر دمشق، أقل مدن سوريا تضررًا من الحرب الأهلية، بازدحام أسواق الشعلان والبالة والحميدية، واكتظاظ مطاعم وبارات الشام القديمة أو القصور أو المالكي، وانتشار الصرافين في الشوارع بلافتاتهم ونداءاتهم. لكنه، وبعض المقيمين من الطبقات العليا، عند الخروج للضواحي أو للريف أو لمدن مثل حمص وحلب سيجد من دفعوا الأثمان الباهظة.
رغم ذلك، يتجسد الفقر في شوارع دمشق المتعبة، في تهدّل ورثاثة الشوارع والمباني، في أحاديث الناس عن تدني الدخول والرواتب، في أعداد الشحاذين، في الكهرباء التي لا تعمل سوى ثلاث أو أربع ساعات متقطعة في اليوم، في إظلام الشوارع بعد غروب الشمس، وهدير مولدات الكهرباء، خاصة في المناطق التجارية وأحياء الطبقات الأغنى.
يتجسد الفقر أيضًا في قصص العاجزين عن الحصول على ما يكفيهم من طعام ورعاية طبية، وفي الجراكن المعبأة بالبنزين التي تباع في الميادين وعلى الطرق المؤدية للمدينة، وفي المباني المحطمة من أثر الحرب التي خاضها النظام ضد فصائل المعارضة المسلحة، وفي وجوه السوريين النازحين واللاجئين المقيمين في مخيمات ومبانٍ عشوائية فقيرة في أنحاء البلاد أو في لبنان والأردن وتركيا.
يجسد هذا كله على الأرض الأرقام الباردة لتقارير دولية تفيد بأن الاقتصاد السوري انكمش بواقع 85% منذ عام 2011، ليصل لما بين 7 و9 مليارات دولار.
جذور الفقر وأفرعه
ليس الفقر في سوريا ابن الثورة والحرب الأهلية فحسب، بل ربما أحد جذورها وأسبابها، حيث تواصل تدهور الأوضاع بعد تولي بشار الأسد الحكم في مطلع القرن، ووصلت نسبة البطالة في عام 2011 عندما اندلعت الثورة إلى قرابة 34% من شريحة الشباب بين 20 و24 عامًا من العمر، ونحو 15% من القادرين على العمل عمومًا، بينما كانت معدلات الفقر آنذاك تشمل أكثر من 40% من السكان. ونزح ملايين من الريف بسبب الجفاف الطويل بين 2006 و2011، والذي تلته موجات دورية كان آخرها في 2021، بحثًا عن العمل والخدمات في المدن.
وفاقمت من إحساس السوريين بالفقر في السنوات الماضية مظاهر اللامساواة الفاحشة في الأحياء الأغنى وفي نمط حياة كبار رجال الأعمال المتحالفين مع القصر، خاصة مع عهد بشار الذي اضمحل فيه دور القطاع العام والمنتفعين به من كبار رجال الدولة أيام الأسد الأب.
مع تولي الأسد الابن السلطة، ظهرت طبقة جديدة من رجال الأعمال المقربين للطغمة الحاكمة، وربما جزء لا يتجزأ منها، يسيطرون على القطاع الخاص من أمثال رامي مخلوف ومحمد حمشو ومجد سليمان وسامر دوبا وفراس طلاس. ومعظم هؤلاء من أبناء قادة المؤسسات العسكرية والأمنية الذين أتى آبائهم من الريف متحالفين مع الأسد الأب ضد الطبقة السياسية المدينية ورجال أعمالها. ربّى هؤلاء القادة أبناءهم في دمشق ليرثوا النفوذ ويصبحوا وجوه الطبقة الجديدة في عصر النيوليبرالية تحت رعاية الأسد الابن.
وبعد 2012 توجه عدد من رموز الحقبة الثانية للعمل في دبي وغيرها، ومنهم مجد سليمان وفراس طلاس، ثم ظهرت موجة ثالثة تعمل مباشرة لصالح القصر، وبرز دور مهم للسيدة الأولى أسماء الأسد. وضمت هذه الموجة الجديدة سامر فوز والأخوين القاطرچي ووسيم قطان وخضر علي طاهر وخالد الزبيدي ويسار إبراهيم، وفقًا لتقرير سوريا. وتكشف شبكة علاقات هؤلاء الرجال في هذه الحقب الثلاثة بكبار رجال الأسرة الحاكمة، الطبيعة الزبائنية والهيكلية لدولة اللصوصية الأسدية منذ نشأتها في سبعينيات القرن الماضي(1).
واستشرى الفقر واليأس في أول عقدين من هذا القرن، بسبب الفساد المعمم الذي صار أشبه بنظام بلطجة يقف على قمته القصر، ويشارك في حراسة أبوابه عدة مسؤولين أمنيين ورجال أعمال، كلهم مرتبطون سويًا بعلاقات مالية وعائلية، يحصلون على الصفقات التجارية الكبرى والاستيراد والتصدير والخدمات ويشاركون فيها.
وقضت سنوات الحرب على ما تبقى من سياسات الدولة الزراعية والصناعية والتجارية، وأوغل النظام في اللصوصية والارتزاق وصولًا لأنشطة التهريب الضخمة. وفُرضت عقوبات دولية خانقة على سوريا خاصة منذ أوائل العقد الماضي بسبب انتهاكات النظام الواسعة النطاق لحقوق الإنسان، وكذلك لعلاقته بمنظمات وأنظمة مصنفة "إرهابية" لدى دول غربية، مثل إيران وحزب الله. بالإضافة إلى تحول سوريا في السنوات الأخيرة لمصدر رئيسي للمخدرات في المنطقة تحت رعاية ماهر الأسد، شقيق الرئيس وقائد الفرقة الرابعة، أهم فرق الجيش.
انهارت السلطة الأسدية مثل بيت العنكبوت بعد سنوات دامية، وبات الفقراء اليائسون يتطلعون لتحسن سريع في أحوالهم المزرية، وهذا أمل مستحيل التحقق دون عمل شاق وبعض المعجزات الصغيرة، وعدة أعوام ومنظومة سياسية تحدد من سيدفع الثمن وكيف.
الحاضر الهش
حدث بعض التحسن النسبي مع قرار حكومة الأمر الواقع في ديسمبر زيادة الرواتب بما قد يصل لنحو 400% وذلك رغبة في زيادة شعبيتهم، كما تحسن سعر الليرة مقابل الدولار بسبب إقدام عدد كبير من السوريين على زيارة بلادهم ما يعني ضخ المزيد من العملة الصعبة داخل البلاد، بالإضافة إلى الوعود الخارجية بتقديم مساعدات للوفاء باحتياجات البلاد العاجلة، ومنها قرابة 120 مليون دولار شهريًا لتغطية الزيادة في رواتب الموظفين وعدت قطر بتقديمها، بينما وعدت السعودية بتغطية جزء من احتياجات سوريا من الطاقة، حيث كانت البلاد تستورد احتياجاتها من مشتقات النفط من إيران، إذ لا تملك سوريا قدرة على تكرير النفط المستخرج من آبارها. ومن المنتظر أن تحل أوكرانيا محل روسيا في توريد احتياجات القمح السورية.
غير أن حكومة الأمر الواقع بقيادة فصيل هيئة تحرير الشام وزعيمه أحمد الشرع، تفتقر للكفاءة والقدرة على إدارة اقتصاد مترنح في وضع صعب للغاية، كما تعوزها شرعية كافية خاصة في عيون دول غربية وأخرى إقليمية من أجل رفع حزمة معقدة من العقوبات الدولية، وهي المشكلة الأساسية التي تواجه الاقتصاد السوري وتحدد شكل مستقبله، ولكن هذا موضوع المقال المقبل.