هل يعرف أيٌّ منَّا في محيطه من لا يشعر بالضَعف والهشاشة والقهر المكثف والرغبة في الانفجار، وفي الوقت نفسه قلة الحيلة؟ كان هذا السؤال هو ما وجهتُه لصديقتي السورية، التي كانت تراقب وقتها، من دمشق، تطورات بلدها المتسارعة، وتحاول أن تطمئن في كل دقيقة على حال أفراد عائلتها الموزعين بين عدة مناطق، بعضها تحت سيطرة النظام، وبعضها الآخر تحت سيطرة هذه الميليشيا أو تلك.
أجابتني صديقتي أن المسألة بالنسبة لها ولكثيرين غيرها، بالذات بعد جرائم العدو الإسرائيلي بالإبادة في غزة، والاجتياحات في الضفة الغربية، والعدوان على لبنان، وقصف اليمن وسوريا، لا تتوقف عند هذا الاحساس بالهشاشة والضعف، بل تتجاوزه لتصل إلى مستوى أقرب للشعور بالإذلال. وكأن كل القوى الإقليمية والدولية تحاول أن تكرس في وعينا أننا جميعًا مُسيَّرون. وأن في كل يوم جديد هناك مفاجآت جديدة، مأساوية في أغلبها، تتعلق بكل تفاصيل حياتنا، وتغيرها لمسارات نجهلها ونجهل كيفية التعامل معها.
هذه القوى هي ما تقرر ما يخصنا بناءً على لعبة التوازنات بينها. ولأن طموحاتنا ورغباتنا كشعوب لا تدخل عادة في الحسابات، نظل في حالة من تراكم الضربات والهزائم المتتالية. ومع غياب أي رؤية أو تفسيرات واضحة لما نعيشه، وإلى أين تتجه مجتمعاتنا، نتأكد أننا غير قادرين على فعل أي شيء، وأننا نسير لمصير نجهله تمامًا ولا نعرف ملامحه، لأن من يقرره هم الآخرون. ولا نعرف من هذا المصير سوى أنه سيكون أسوأ وأكثر سوداوية.
عن بعض الأمل وإن كان خائفًا
تبدو حزينةً هذه البداية لهذا المقال، لكنني أعتقد أنها ملائمة. وهي على عكس ما تبدو، لا تستهدف استدعاء الشعور بالمرارة. فصديقتي هذه نفسها، قالت لي قبل أيام، قبل هروب الأسد وسقوط حكمه، بل قبل أن تظهر ملامح هذا السقوط السريع، إننا مهزومون، لكن علينا ألَّا نتعامل مع هزيمتنا مثلما تعامل آباؤنا مع هزيمتهم في 1967، عندما يأسوا، وجعلوا الإحباط والانهيار عنوانين أساسيين لمرحلة زمنية امتدت عقودًا طويلةً لم نخرج منها حتى اليوم، مع استراحة لحظية وقصيرة مع بداية ثوراتنا عام 2011، وقبل هزيمتها.
رغم حديثنا عن الهزيمة، أكتب عنها هذا المقال الآن بينما هي تحتفل مع من يحتفلون في دمشق بسقوط عائلة الأسد التي حكمت سوريا أكثر من خمسين عامًا بالدم واللصوصية، بعد ساعات قليلة من هرب وريث أبيه، الذي تصور أن بلدًا مثل سوريا عِزبته الأبدية.
يتبدى هنا السؤال الأساسي؛ هل هزيمتنا الجديدة، فلسطينية الطابع، التي بدأت في غزة لتمتد إلى بقية فلسطين ولبنان، وربما تصل تطوراتها وتبعاتها إلى سوريا في حال رأينا أن توقيت العمليات التي أفضت لسقوط الأسد مثير على الأقل للكثير من الأسئلة، بل وقد تتسع لتطول الأردن ومصر، بالإمكان أن تكون بداية لتأسيس ما هو جديد، ولاستقطاب حقيقي وإيجابي في منطقتنا؟!
لا إجابة الآن عن السؤال. فكل منا يراقب ما يحدث حوله، ليصل لتصورات أو تفسيرات تخصه قبل أن تخص الآخرين. وربما تسقط هذه التفسيرات والتوقعات بعد دقائق من بنائها عقليًا أمام توقعات وتفسيرات يطرحها الآخرون. لكن الاتفاق الوحيد المحتمل بيننا هو أننا كشعوب لمنطقة الشرق الأوسط تحولنا لما يشبه إناء يغلي محتواه. إناء يحتوينا بكل تناقضاتنا، وطبقاتنا المختلفة، وأنظمتنا، ومصالحنا المتضاربة. ولا أحد يعرف هل سيهدأ هذا الإناء، أم سينفجر بالكامل، أو جزئيًا.
رغم الارتباك وغياب الرؤية الواضحة لمستقبل المنطقة، ومستقبل سوريا ولبنان وفلسطين بالذات، فإن المشاهد الآتية من سوريا صباح الثامن من ديسمبر/كانون الأول، لا بد أنها تثير بداخلنا جميعًا، سوريين وغير سوريين، مشاعرَ وذكرياتٍ مرتبطةً بعامِنا الكبيرِ المحوريِّ في حياتنا؛ 2011، حين حلمت شعوبنا بالحرية والعدالة، وخرجت لتدفع بالدم ثمن الحرية والعدالة، لكنها هُزمِت.
المشهد اليوم يعيد للأذهان بكل تأكيد مشاهد إسقاط حسني مبارك، وزين العابدين بن علي، ومعمر القذافي، وعلي عبد الله صالح، وإن اختلفت الطرق هربًا أو عزلًا أو قتلًا. مشهد السوريين في الشوارع اليوم، محتفلين بنهاية عصر المافيا التي قتلتهم ونهبتهم وكانت حريصة مثل المافيات العربية الحاكمة الأخرى على إظهار التعالي على شعبها وجعله متأكدًا أنه لن يتحرر منها أبدًا، مشهدٌ مجددٌ للآمال، ويقول بكل وضوح إن حريتنا، أيًا كان القادم في سوريا، ممكنة.
تجدد الأمل في السياسة
ربما يبدو مقالًا مُشخصنًا، فأنا أتحدث عن صديقةٍ لا أذكر اسمها، ويستطيع القراء توقع أسباب ذلك في هذه اللحظة الضبابية. لكن المقصود من المقال ليس الشخصنة، فهذه الصديقة المقرَّبة نموذجٌ لعشرات آلاف السوريين والسوريات داخل سوريا وخارجها، لم يتوقفوا أبدًا عن الحلم ببناء مجتمع عادل وديمقراطي وغير طائفي، والعمل من أجل هذا الحلم. هؤلاء الذين يحتفلون الآن، بعد ساعات قليلة من هرب بشار، بحريةٍ ممكنةٍ، ويؤكدون بكلماتهم أن سوريا للجميع. وكأنهم بهذه الكلمات يحاولون إغلاق الباب أمام فصول وسيناريوهات مخيفة ربما تكون مقبلة، لا نعرف، ولا يعرفون ماذا ستحمل لهم وللمنطقة.
ما يقوله السوريون اليوم بأن لا شيء أبدي ينفي شعور الهشاشة ويقوضه
هذه الصديقة نفسها من ضمن مئات السوريين والسوريات الذين رفضوا الخروج من سوريا، أو استطاعوا البقاء فيها، في وقتٍ كانت مغادرتهم إجبارية أو شبه إجبارية. اختارت هي مسارًا آخر خلال السنوات العشر الماضية؛ العمل السياسي الأقرب للهامشي أو السري، أو العمل الفني، أو الأنشطة الاجتماعية والثقافية التي تتجنب الضجيج ولا تلفت الأنظار. مسار باتجاه طريق جديد، ديمقراطي وسلمي. ففي داخل سوريا، وفي مناطق النظام الذي سقط، ومن قبل سقوطه بأعوام، كانت هناك مجموعات صغيرة، وأفراد، يريدون التخلص من نظام الأسد كله، ليس فقط الأسد الفرد، دون أن يكون البديل حكمًا ميليشياويًا طائفيًا ودينيًا، أو عسكريين جددًا.
هؤلاء هم من سنلاحظ أنهم لا يهللون لانتصارات الفصائل، وفي الوقت نفسه لا يدافعون عن النظام بمنطق "آخر قلاع الممانعة". لكنهم يتحدثون، ولو بصوت خافت، عن سيرورة نضال سياسي وسلمي ممكن لتغيير طبيعة البلد وسلطته. دون أن ينسوا أن القضية المركزية في شرقنا هي فلسطين، وأن ما يحدث في بلدهم غير منزوع الصلة بها، وبالمشروع الصهيوني/الأمريكي الاستعماري، الذي يتلاقى مع كل أنواع المشاريع التقسيمية والطائفية والدينية، المعادية في جوهرها للديمقراطية وللعدالة، ويجد غذاءه فيها.
تعي إسرائيل أكثر من أغلبنا أن لعبة استبدال المواقع والوجوه بما يشبهها هو ما يحقق أمنها وديمومتها. تعي أن أكثر ما يهددها هي الأنظمة والقوى الديمقراطية الحقيقية، المعادية للطائفية والعنصرية، لأنها تتناقض مع جوهر طبيعتها الديني والعنصري.
هذه المسألة؛ الصراع العربي الإسرائيلي، هي ما ستحدد الكثير من مستقبل ليس فقط سوريا والسوريين، بل مستقبلنا جميعًا في شرقنا هذا، وزلازله الجديدة المتوقعة، أو التي ستباغتنا كمفاجآت. فكما يقول السوريون الآن، ويلتقط منهم المصريون واللبنانيون والأردنيون، وغيرهم من شعوب الشرق الأوسط والعالم العربي: لا يوجد ما هو أبدي. وهو نفسه ما ينفي شعور الهشاشة ويقوضه، ويجدد حلمنا بأن نقرر نحن مصائرنا.
تحية لكل من عاشوا وقدموا حياتهم من أجل سوريا ديمقراطية وعادلة. لمن قدموا دمهم، وأمنهم، وحريتهم الشخصية، وغربتهم، واستقرارهم، لأنهم حلموا ببلد يحترم مواطنيه.