في مساءٍ شتويٍّ بارد؛ وقف رجل في شارع بورسعيد وسط دمشق، حاملًا بيدٍ ورقةً مطبوعةً يبدو أنه التقطها من رزمة يضعها في حقيبة كتف بالية، وفي يده الأخرى ميكروفون صغير، وأخذ يقرأ لمئات المارة حوله نصَّ المرسوم الرئاسي الجديد بإقرار خطة لدعم وقود التدفئة، ويدعو من يريد إلى تسلِّم نسخةٍ من القرار.
حدث هذا المشهد بعد أيام قليلة من نجاح الثورة التونسية في الإطاحة بالرئيس زين العابدين بن علي وإجباره على الهرب إلى جدة في يناير/كانون الثاني 2011. وفي محاولة لتحصين نفسه من عدوى الاحتجاجات الشعبية التي انتقلت إلى الأردن والمغرب ودول عربية أخرى، تبنى الرئيس بشار الأسد حزمة من القرارات التي تستهدف تحسين أحوال الفقراء المعيشية.
شجَّع هذا المناخ السوريين في شوارع العاصمة على الحديث بجرأة نادرة عن قلق النظام، خاصةً مع زيادة معدلات الفقر على وقع التحولات الاقتصادية التي بدأها الأسد عند وصوله إلى الحكم قبلها بعشر سنوات، من ضمنها تحرير الاقتصاد وتخفيض الدعم انتهاءً بوقف دعم المحروقات عام 2008، ما يعني أن عشرات آلاف الأسر الفقيرة ستقضي الشتاء الذي تصل فيه درجة الحرارة في أحيان كثيرة إلى ما دون الصفر بدرجتين أو ثلاث، دون تدفئة.
لكن في المقابل، فإن سياسات الأسد الاقتصادية التي أدت إلى ارتفاع معدلات التضخم وزيادة البطالة وتدهور معيشة قطاع كبير من السكان، عززت التحالف الطبقي بين قيادات وضباط الجيش الذي يسيطر عليه العلويون من جهة، ومن جهة أخرى صغار البرجوازيين من التجار والمُصنِّعين والطبقات الوسطى من المهنيين في المدن الكُبرى، بالذات دمشق وحلب، وهؤلاء أغلبهم مسلمون سُّنَّة مع أقلية مسيحية.
أنتج ذلك عشية اندلاع الثورة السورية في مارس/آذار 2011 بلدًا منقسمًا طبقيًا. فقد تمتع أغلب سكَّان المدن الكبرى بمستويات معيشة مرتفعة نسبيًا مع خدمات جيدة لدرجة أنهم شكَّلوا قاعدة اجتماعية تتوافق مصالحها مع استمرار النظام. أما سكَّان الأحياء الأفقر والعشوائيات التي تزايدت رقعتها في ضواحي العاصمة، خصوصًا مع موجة الهجرة الداخلية الكبيرة من الريف إلى المدن بسبب الجفاف الطويل الذي امتد من 2006 إلى 2011، فقد دفعوا وحدهم فاتورة التدهور الاقتصادي.
صورة الانقسام الطبقي هذه كانت واضحةً في ذهن صاحب فكرة إرسال من يتلو المراسيم الرئاسية على الناس في الشوارع. لأنه ورغم غرائبية المشهد الذي ينتمي إلى عصور ما قبل اختراع الطباعة في وقتٍ يستخدم المعارضون فيه الإنترنت لدعوات التظاهر، فإن ذلك المُنادي كان يقف تحديدًا في نقطة سيمر منها جميع القادمين من وسط المدينة التي تعج بعشرات المصالح الحكومية والشركات الخاصة والمحال التجارية، وهم في طريقهم إلى موقفٍ لسيارات الأجرة يقع في شارع الثورة، تنطلق منه الميكروباصات المتوجهة إلى ضواحي وأحياء دمشق الأكثر فقرًا مثل القابون وبرزة وغيرهما.
كان مطلوبًا أن يعرف هؤلاء بالذات أنهم سيتمكنون من تدفئة أنفسهم في ذلك الشتاء البارد، لكن هذا الإجراء جاء متأخرًا للغاية، ولم يُحدث أثره المطلوب، فامتدت عدوى الاحتجاجات من تونس والأردن والمغرب إلى مصر لتسقط مبارك، ثم السودان، فاليمن وليبيا، لتصل أخيرًا إلى المحطة السورية.
الدب الذي قتل داعميه
انطلقت موجة الاحتجاجات الأولى من درعا، وامتدت لتشمل البلدات والقرى في عدة مناطق ريفية، ثم المدن التي ترتفع فيها معدلات الفقر مثل حمص، وضواحي المدن الكبرى، ومن بينها القابون وبرزة اللتان كان ذلك المنادي يحاول إخبار سكانهما بأنهم سيحظون ببعض الدفء.
استمر هذا الانقسام واضحًا ويمكن رصده بالعين المجردة في الأشهر الأولى للاحتجاجات قبل أن تتحول بالكامل إلى حرب أهلية.
في نوفمبر/تشرين الثاني 2011، شاهدت حشودًا مؤيدةً لبشار من أبناء الطبقات الوسطى وما علاها يهتفون له وسط دمشق في مظاهرات تأييد حقيقية لا تشبه تلك التي تخرج بالأمر المباشر. بعد أيامٍ وعلى بعد كيلومترات قليلة، شاهدت قوات أمنية تطلق الرصاص لتفريق مظاهرة معارضة في القابون شمال شرقي العاصمة وتصيب بعض المشاركين.
أصبح الالتحاق بالجيش أسهل طريقة للترقّي الطبقي والاجتماعي
ثمة توترات طائفية في سوريا بكل تأكيد، لكنَّ أغلبها يتعلق بذات الصراع الطبقي والاجتماعي في البلاد، فسيطرة الأقلية العلوية على الجيش مثلًا، تتعلق بشكل أساسي بالتهميش التاريخي الذي تعرضت له قبل تولي الأسد الأب السلطة عام 1971، وتمثل في تدني جودة الخدمات الأساسية من تعليم وصحة وغيرهما، ليصبح الالتحاق بالجيش أسهل طريقة للترقّي الطبقي والاجتماعي، وهو ما استغله الأسدان الأب والابن جيدًا في تعزيز سلطتهما، ممعنين في ترسيخ شرخ الانقسام الطائفي الذي يأكل البلد.
ورغم وضوح صورة الانقسام الطبقي في ذهن النظام مطلع 2011؛ اختار من اللحظة الأولى تبنى سردية مغايرة للاحتجاجات باعتبارها "إرهابًا مدعومًا من الخارج"، ليعيد إنتاج فزاعة الإسلاميين التي دأبت ديكتاتوريات الشرق الأوسط على استخدامها، بعد إضافة أبعاد تآمرية إقليمية عليها.
حاول الأسد إكساب قمعه المفرط بُعدًا أخلاقيًا باستخدام سردية التمرد المُسلح الذي ينفذ أجندات إقليمية، فأن تقمع احتجاجات شعبية سلمية شيء، وأن تستهدف بالقتال كتيبة أفغانية جاءت برايات القاعدة لدحر العلويين شيء آخر. غير أن ذلك لم ينفعه إلا على المدى القصير، فصحيحٌ أنه استطاع مدَّ رئاسته عشر سنوات إضافية بالنار والدم، لكنه قضاها في حرب متواصلة، هُزم في نهايتها ليترك بلدًا منقسمًا شديد الهشاشة أسقط مئات المقاتلين نظامه في أيام قليلة.
بينما يخوض السوريون نضالهم لتأسيس دولتهم الجديدة علينا هنا في مصر استخلاص الدروس
ومع تصاعد القتال وازدياد العنف الوحشي في سوريا التي انقسمت إلى ثلاث دويلات على الأقل خلال السنوات الأخيرة، توارت أسئلة الصراع الاجتماعي والطبقي لصالح الأسئلة الطائفية التي طغت والامتدادات الإقليمية التي تشابكت. لكن تجاهل رؤية الفقر لا يخفي أثره خاصةً على الطبقة الوسطى، القاعدة الاجتماعية الداعمة للأسد في سوريا، التي تآكلت وفق تقديرات الأمم المتحدة من 56% من إجمالي عدد السكان عام 2007، إلى نحو 26% عام 2014. أما اليوم، فلا تتجاوز هذه النسبة 10% مع وصول معدلات من يعيشون تحت خط الفقر إلى 90% من إجمالي السكان.
بعض هذا التآكل حدث بفعل انهيار الاقتصاد الذي أسقط الملايين في براثن الفقر، وبعضه حدث بسبب موجات النزوح العاتية حيث غادر سوريا في سنوات النزاع الماضية أكثر من ستة ملايين سوري من إجمالي 23 مليونًا، لكن في جميع الأحوال، فإن التحالف الطبقي الذي ترسخ في عشرية الأسد الأولى بين النظام والطبقات الداعمة له، فقَدَ شرطه الأساسي ولم يعد يحقق المصلحة لطرفيه. ويفسّر ذلك السهولة التي سيطرت بها قوات المعارضة على العاصمة، ومشاعر الارتياح التي سادت حتى في بعض الأوساط المسيحية في دمشق، وإن شابتها بعض المخاوف.
استخلاص الدروس
لم تؤثر سنوات الحرب الأهلية الطويلة في سوريا فقط على وحدة أراضي هذا البلد وسيادته ولم تؤدِّ فحسب إلى نصف مليون قتيل وسبعة ملايين نازح في الداخل وستة ملايين في الخارج، لكنها كذلك دمرت الاقتصاد. ففي عام 2021، انكمش الناتج القومي بنسبة 54% عمَّا كان عليه في 2011. وهذا العام، أصبحت تكاليف المعيشة تزيد بنحو 800% عن 2011، بينما تمزقت الطبقة الوسطى مع وصول معدلات الفقر العام الماضي إلى 90% وفق الأمم المتحدة.
تشير التقديرات إلى أن الاقتصاد السوري "يحتاج إلى ما بين 250 مليارًا وتريليون دولار لتمويل عملية إعادة الإعمار، التي قد تستغرق ما بين عقد وعقدين"، فقط ليعود إلى مستويات ما قبل الحرب.
كان للقمع الشديد الذي مارسه الأسد، متجاهلًا الاشتباك مع أسئلة الشارع، أثمانٌ باهظةٌ لم يدفعها الفقراء وحدهم، لأن سحق الطبقة الوسطى كان سحقًا للقاعدة الاجتماعية التي تدعم النظام وتراهن على استمراره لحماية مصالحها، ولم تكن السهولة الشديدة التي سقطت بها دمشق في الأيام الأخيرة إلا نتيجة لعدة أسباب، على رأسها تآكل قاعدته الاجتماعية الشعبية.
يتطلب الفراغ السياسي والعسكري والانهيار الاقتصادي من السوريين نضالًا طويلًا ليس في العمل وحده، ولكن أيضًا في التوافق على إجراءات لعدالة انتقالية شاملة، تضع في اعتبارها ضمن ملفات كثيرة، إيجاد صيغٍ أكثر عدالة لتوزيع الثروة وتقليص الفجوات الاجتماعية والطبقية الشاسعة، التي كانت في البدء الأسئلة الرئيسية التي تجاهل النظام الاشتباك معها بجدية بينما كانت أمامه فرصة لذلك عام 2011، لكنه اختار خوض حرب طائفية.
لكن وبينما يخوض السوريون نضالهم هذا في سياق تتكالب عليهم فيه القوى الإقليمية، فإن ما يمكننا أن نفعله في مصر استخلاص الدروس ونحن نتأمل ما يحدث وسيحدث في سوريا. لا يتعلق فقط بما تفعله الديكتاتورية بمعارضيها، ولا أن نظل عالقين في الثنائية البائسة التي تجعلنا مجبرين على الاختيار بين القمع العسكري أو إرهاب الجماعات الإسلامية المسلحة، بل أيضًا بالأثر الذي يمكن أن يُحدثه تفاقم الصراع الاجتماعي مع اتساع التفاوت الطبقي، وغياب طبقة وازنة غالبة ترى في استمرار النظام السياسي مصلحةً لها، فتمنحه شرعية الاستمرار.
يستحق ملايين السوريين أكثر من هذه الثنائية، وأيضًا أكثر من رجل يقف بحقيبة بالية يبشر فقراءهم بتخفيض أسعار وقود التدفئة. أما نحن في مصر، فنستحق مسارًا اجتماعيًا أكثر عدالةً يُجنبنا المصير الذي ذهبت إليه سوريا. ليس فقط ليتمكن فقراؤنا من العيش، ولكن أيضًا ليتمكن أثرياؤنا من التمتع بثرواتهم، لأن أسوار الكومباوند المحمية بالرصاص، كما نرى جميعًا اليوم، لا تبقى إلى الأبد. ومن يحتمي بها اليوم، قد يأتيه الغد وهو لاجئ.