تساؤلات عدة حملها مشهد سقوط بشار الأسد في سوريا، بدءًا من أسباب الانهيار السريع لنظام حزب البعث، الذي جثم على أنفاس البلاد أكثر من نصف قرن، مرورًا بتساؤلات حول مستقبلها في ظل سيطرة فصائل يشي تاريخها بصلات مع تنظيمات إرهابية، وصولًا إلى تداعيات هذا السقوط على موازين القوى في الشرق الأوسط مع توقعات بصعود دول إلى المشهد الإقليمي وتراجع أخرى.
بينما تخلت روسيا وإيران عن إنقاذ النظام الذي تحالفا معه لعقود، برزت تركيا لاعبًا رئيسيًا على الساحة يسعى لتوسيع نفوذه في الشرق الأوسط، بينما تستغل إسرائيل حالة الفوضى لتحقيق مكاسب على الأرض، وبين هذا وذاك تبدو الولايات المتحدة الأمريكية في خلفية المشهد، داعمةً لتل أبيب في مخططاتها الرامية لتغيير شكل الشرق الأوسط.
سقوط مفاجئ
هرب بشار لاجئًا بعد سنوات من القمع الوحشي للشعب السوري، ظن البعض خلالها أنه باق للأبد، وبقدر بشاعة النظام كان سقوطه سريعًا ومفاجئًا، وفق وصف خبراء، من بينهم رئيسة معهد تشاتام هاوس البريطاني برونوين مادوكس، والباحث في مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي ستيفن كوك.
نجاح هيئة تحرير الشام في حلب وحمص وحماة دفعها للتقدم نحو دمشق
يقول كوك إن "سقوط النظام السوري كان مفاجئًا للجميع بما في ذلك هيئة تحرير الشام". ونقل كوك خلال لقاء عقده مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي لبحث مستقبل سوريا بعد الأسد عن مصادر بالحكومة الأمريكية، لم يسمها، أن "هيئة تحرير الشام والجيش السوري الحر كانا يخططان، بإيعاز من تركيا، لعملية محدودة في حلب ضد النظام والجيش السوري، ويبدو أن نظام الأسد وحليفته روسيا كانا يعرفان ذلك وحذرا منه".
لكن ما وصفه كوك بـ"النجاح الكارثي" لهيئة تحرير الشام في حلب وحماة وحمص دفع إلى التقدم نحو دمشق، لا سيما مع انسحاب الجيش السوري دون مقاومة، وعزوف روسيا عن إنقاذ حليفها، وانضمام الشعب للحراك، بعد تجميد ثورته لأكثر من عقد.
وترى برونوين مادوكس أن "السقوط السريع والمفاجئ يزيد من أهمية اللحظة التي تعيد بالتأكيد تشكيل المنطقة، لا سيما وأن انهيار النظام جاء بيد السوريين أنفسهم ولم تفرضه قوى أجنبية"، مشيرة إلى أن "السرعة كشفت ضعف النظام، أو ربما عدم رغبة القوى المؤيدة له في دعمه"، ما جعل النتيجة بمثابة "انتكاسة كبيرة لروسيا وإيران، وفرصة لتركيا التي تعد الفائز الأكبر كونها داعمة لبعض قوى المعارضة"، حسب رئيسة معهد تشاتام هاوس البريطاني.
ووصف تقرير نشرته مجلة فورين أفيرز الأمريكية النظام السوري بأنه كان بيتًا من ورق، فوجئ العالم بسقوطه خلال أيام دون قتال، وهو ما برره بقطع إسرائيل إمدادات قوات حزب الله الموجودة في سوريا، وتدمير جزء من ترسانة صواريخه وتآكل القوة والنفوذ الإيرانيين، فضلًا عن انهيار المحادثات بين أنقرة ودمشق حول إصلاحات حكومة الأسد، وانشغال روسيا بالحرب المكلفة التي تخوضها.
كان وزير الخارجية التركي هاكان فيدان قال في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي إن بشار الأسد لا يريد السلام في سوريا، وحذّر من أن محاولات إسرائيل لنشر الحرب في الشرق الأوسط بدأت تهدد البيئة التي خلقتها عملية آستانة، التي أوقفت إراقة الدماء هناك.
تعد إيران أحد الخاسرين الإقليمين بسقوط الأسد
وعد دانيال بيمان، مدير إدارة الإرهاب بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، في مقال نشرته نيويورك تايمز، "الانهيار المدهش لنظام الأسد لحظة تاريخيّة لتحرير الناس بعد 13 عامًا من الحرب الأهلية".
شهدت الأيام العشرة الأخيرة في حكم بشار الأسد تحركات متسارعة بدأت يوم 27 نوفمبر/تشرين الثاني، عندما شنت فصائل المعارضة السورية، بقيادة هيئة تحرير الشام، عملية عسكرية ضد القوات الحكومية السورية، عقب مواجهات عنيفة شهدتها مناطق الاشتباك في ريف حلب الغربي وريف إدلب الشرقي، وحققت المعارضة تقدمًا تلو الآخر، حتى وصلت إلى دمشق، معلنةً سقوط الأسد.
تراجع روسي إيراني
لكن يبدو أن سقوطه "سيزيد من عدم الاستقرار في كل مكان. في حين تسعى دول المنطقة جاهدة لاحتواء خطر انتشار الاضطرابات مع تغير ميزان القوى"، وفق برونوين مادوكس.
يفرض سقوط الأسد على روسيا إعادة بناء شبكات نفوذها
تعد إيران أحد الخاسرين الإقليميين بسقوط الأسد بعدما فقدت "جسرها البري" إلى شرق البحر الأبيض المتوسط وقاعدة وكلائها، وخاصة حزب الله، حسب برونوين مادوكس التي أرجعت تخلي طهران عن الأسد لإدراكها ضعف نظامه، ولجملة الخسائر التي تكبدتها في صراعها الأخير مع إسرائيل.
أما بالنسبة لروسيا فما حدث "ضربة من الصعب تجاهل تأثيرها"، وتشير برونوين مادوكس إلى أنه "أيًا كانت الحكومة التي ستنشأ في دمشق، فعليها أن تحترم الاتفاق الذي أبرمه الأسد الذي يمنح روسيا استخدام قاعدة عسكرية على الساحل السوري". وإن كان هذا لا يعني أنها "غير معرضة للخطر ما يهدد نفوذها في المنطقة".
وتبرر مادوكس عدم تدخل موسكو لدعم الأسد بـ"انخراطها في حرب أوكرانيا"، وتقول إن نهاية حكمه "ستفرض على موسكو إعادة بناء شبكات نفوذها في المنطقة".
صعود تركي
توافقت رؤى الخبراء بأن تركيا هي الرابح الأكبر من سقوط بشار، كونها ترعى الفصائل المسلحة، وإن كان هذا لا يكفل لها سيطرة كاملة عليها، وقد تتحمل نتيجة تدخلاتها. تقول برونوين مادوكس إن "الإطاحة بالأسد بقدر ما هي مُرضية لتركيا بقدر ما ستجلب تعقيدات هائلة، فأنقرة مقربة من الجولاني لكنها لا تسيطر على قواته".
ويُعد الباحث جونول تول، في تحليل نشرته مجلة فورين أفيرز، انهيار الأسد انتصارًا لإردوغان، وقال "رغم أن تصرفات الرئيس التركي دفعت بشكل ما إلى سقوط الأسد، فإن تركيا سوف تتحمل مشكلات سوريا".
وأضاف "وجود حكومة صديقة لأنقرة في دمشق قد يفتح الأبواب أمام إردوغان الذي يريد إعادة اللاجئين إلى سوريا"، إضافة إلى "منحه مكانة سيسعى لاستخدامها في العلاقات مع الغرب ومع دول المنطقة".
في الوقت نفسه يحذر تول من "تداعيات انزلاق سوريا مرة أخرى إلى الفوضى، وإعادة إنتاج الإرهاب وعدم الاستقرار". وقال "سيرسل ذلك المزيد من اللاجئين عبر الحدود، وقد يندم رجل تركيا القوى على النجاح الكارثي الذي حققته فصائل المعارضة".
ساهمت إسرائيل في زوال الأسد من خلال عملياتها ضد حزب الله
قطع إردوغان طريقًا طويلًا في سوريا، بدأه راعيًا لبشار الأسد، ثم مطالبًا بالإطاحة به ثم السعي إلى التطبيع معه، ووفقًا لكوك فإن "أنقرة هي الجار الوحيد الذي يمكن أن يستفيد من سقوط الأسد، فلديها الآن فرصة تشكيل النظام في دمشق، وهو هدف الحكومة التركية منذ أن ابتعدت عن بشار في عام 2011"، لكن في الوقت ذاته فإن "المشكلة بالنسبة لإردوغان تظل في إمكانية ألا تتعاون هيئة تحرير الشام معه".
ويرى فالي نصر، أستاذ دراسات الشرق الأوسط في جامعة جون هوبكنز، في تقرير نشرته مجلة فورين بوليسي، أن "تركيا ستسعى لملء فراغ القوى الإقليمية في المنطقة بعد سقوط أبرز حلفاء طهران".
إسرائيل تكسب ميدانيًا
بالنسبة لإسرائيل، فإن سقوط الأسد "يمثل الخروج المفاجئ من المشهد لخصم راسخ، وبقدر ما يؤدي ذلك إلى إضعاف العمق الاستراتيجي لإيران في المنطقة، فهو يشكل دفعة قوية لدولة الاحتلال، وفق برونوين مادوكس التي تشير في الوقت نفسه إلى أن "الاضطرابات والقتال بالقرب من حدود إسرائيل سوف يتطلب اهتمامها ووجودها العسكري".
سقوط الأسد يسلط الضوء على عجز الغرب عن تشكيل المنطقة
ساهمت إسرائيل بطريقة غير مقصودة في زوال الأسد من خلال عملياتها العسكرية ضد حزب الله، لكن تل أبيب تواجه الآن إمكانية تشكيل حكومة يقودها الإسلاميون في دمشق، وفق كوك، الذي يقول "لا ينبغي لأحد أن يغيب عن باله أن الاسم الحركي الذي اختاره زعيم هيئة تحرير الشام لنفسه هو الجولاني"، في إشارة إلى مرتفعات الجولان، التي احتلتها إسرائيل في يونيو/حزيران 1967.
عجز غربي
على صعيد الغرب، فإن رحيل الدكتاتور، الذي عمل بشكل وثيق مع روسيا وإيران، "لا يشكل مصدرًا للأسف"، إذ رحبت دول عدة بينها الولايات المتحدة بسقوط بشار.
لكنه "يسلط الضوء على عجز الغرب عن تشكيل المنطقة كما كان يأمل ذات يوم"، وفق برونوين مادوكس التي تشير إلى فشل الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما في معاقبة بشار الأسد لاستخدامه الأسلحة الكيميائية ضد شعبه في عام 2013، على الرغم من وصفه بأنه "خط أحمر".
كان زوال الأسد "تطورًا غير متوقع بالنسبة لواشنطن، بعد أكثر من عام من الأحداث المذهلة في الشرق الأوسط"، وفق كوك الذي أشار إلى أن "مجتمع السياسة الأمريكية ستكون لديه رغبة في مساعدة السوريين على بناء نظام أكثر عدلًا وديمقراطيةً"، لكنه لا ينصح بذلك لأن "الانخراط في الثورة التي تتكشف في سوريا من غير المرجح أن يساعد السوريين أو يعزز المصالح الأمريكية. سوريا للسوريين".
طالت الضربة الدول العربية الكبرى التي تنظر بحذر لهيئة تحرير الشام
على النقيض يدعو فريدريك هوف، الباحث في "أتلانتيك كاونسل"، واشنطن، إلى "العمل لإنشاء جبهة موحدة في سوريا بالتعاون مع الشركاء في فرنسا والإمارات وتركيا أيضًا باعتبارها لاعبًا رئيسيًا".
عدم اليقين
صبغ سقوط بشار مستقبل سوريا والمنطقة بحالة من عدم اليقين، وفق "فورين أفيرز"، ويرى كوك أن "سقوط الأسد لم يكن بمثابة ضربة لموسكو وطهران فحسب، بل أيضًا للدول العربية الكبرى التي تنظر بحذر إلى هيئة تحرير الشام، باعتبارها فرعًا من تنظيم القاعدة، وعلى الرغم من أن زعيمها، أبو محمد الجولاني، حقق الكثير من الانفصال عن التطرف الجهادي، لكن يبقى أن نرى ما إذا كانت ملامح التحرر التي هندسها حقيقة، أم مجرد تكتيك لصرف الانتقادات والمعارضة".
وأشار كوك إلى أنه "بينما حرر مقاتلو هيئة تحرير الشام سجون الأسد، كان معارضو الجولاني يشهدون على الانتهاكات في سجونه"، وتتساءل برونوين مادوكس عما إذا "كان الجولاني سيسعى إلى تشكيل حكومة بنفسه، أم أنه يبحث عن نموذج أكثر تصالحية وشمولًا". وتقول إن "هناك طريقًا طويلًا من انتصار المعارضة إلى ظهور حكومة جديدة، ودولة مستقرة تخدم الشعب السوري".
تساؤلات بشأن هيئة تحرير الشام ومستقبل سوريا والتدخلات التركية الإسرائيلية
ناتان ساتشز، مدير مركز سياسات الشرق الأوسط، قال في تحليل نشره معهد بروكينجز "بالنسبة لملايين السوريين، يعتبر سقوط بشار الأسد لحظة ابتهاج. ومع ذلك، فإنه سيعيد إلى الواجهة خطوط الصدع العميقة التي تهدد بمزيد من التدخل الإقليمي في سوريا".
ويتخوف مدير إدارة الإرهاب بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية من تكرار سيناريو العراق وأفغانستان في سوريا، مشيرًا إلى "وضع هيئة تحرير الشام على قوائم الإرهاب، رغم قولها إنها نبذت الإرهاب ومع ذلك يظل السؤال قائمًا بشأنها، وبشأن مستقبل سوريا، وسط مخاوف من صراع داخلي على السلطة، وتدخلات تركية وإسرائيلية"، وشدد بيمان على ضرورة أن تكون سوريا ضمن أولويات أجندة ترامب.
على الرغم من كل السيناريوهات والمخاوف والصراع الإقليمي لبسط النفوذ، تظل إزاحة الأسد سببًا في الراحة والسعادة لحشود السوريين الذين احتفلوا في الميادين. إلا أن السؤال حول شكل سوريا الجديدة رهن ما سيفعله الجولاني.