بينما كانت المنطقة تتهيأ لهدوء نسبي بعد اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان، اشتعلت المعارك في سوريا لتجدد الصراع الأهلي والإقليمي، بعدما كان الرئيس السوري بشار الأسد يستكمل مسيرته لطي صفحة العزلة عقب استعادة مقعد بلاده بالجامعة العربية بعد 12 عامًا من تعليق العضوية.
سقطت حلب العاصمة الاقتصادية لسوريا في أيدى فصائل المعارضة المسلحة في العملية المسماة ردع العدوان، وفوجئ رأس النظام بزلزال عنيف هز أركانه ووضع مستقبل حكمه على المحك، وسط حالة من الغموض، فمن يقف وراء تجدد الصراع في سوريا؟ ولماذا الآن؟ وما المستقبل الذي ينتظر نظام بشار؟
من يُحارب الأسد؟
فجر السابع والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أعلنت عدد من فصائل المعارضة المسلحة ضمن تحالف جديد تم تشكيله تحت مسمى غرفة العمليات المشتركة، شن هجوم عسكري مباغت تحت مسمى ردع العدوان بدأ باستهداف الفوج 46 في الجيش السوري غرب حلب.
يضم التحالف العسكري الجديد فصائل بينها مجموعات إسلامية وجماعات كانت تدعمها الولايات المتحدة في السابق ويتكون من نحو 10 آلاف مقاتل، ويشمل 5 فصائل رئيسية هي هيئة تحرير الشام التي يتزعمها أبو محمد الجولاني، والجبهة الوطنية للتحرير التي يقودها العقيد فضل الله الحاجي، والجبهة الشامية التي يقودها عزام الغريب، إضافة إلى حركة نور الدين زنكي، والقوة المشتركة بقيادة سيف بولاد.
حالة الغموض التي فرضها توقيت التطورات الميدانية، يفككها مصدر غربي بالبعثة الأممية في سوريا تحدث لـ المنصة كاشفًا عن تلاقي مصالح تركية إسرائيلية مرتبطة بمعاقبة الأسد، على أثر ما وصفته بتراجع عن تفاهمات مع الجانبين.
يكشف المصدر أن قبيل التحرك الأخير للفصائل المسلحة، جرى تواصل مباشر غير معلن، بين الرئيس السوري ومبعوث من جانب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وأوضح أن المبعوث قدم عرضًا للأسد يشمل قطع خط إمداد السلاح من إيران إلى حزب الله، لمنع بناء قدرات الحزب العسكرية، مقابل المزيد من إدماج الأسد في المجتمع الدولي، ومنع ملاحقته جنائيًا، وإعادة تصحيح مسار العلاقات بينه وبين أمريكا بما يضمن استقراره في موقعه.
وحسب المصدر، فإن الأسد أبدى استعدادًا للتفكير في العرض الإسرائيلي قبل أن ينقطع الاتصال في إشارة واضحة على صعوبة المضي قدمًا فيه.
كانت المعارضة المسلحة في حالة تأهب والتغيرات الدولية لعبت دورًا في بدء المعركة
كانت رويترز نقلت عن خمسة مصادر وصفتها بالمطلعة أن الولايات المتحدة والإمارات ناقشتا إمكانية رفع العقوبات عن النظام السوري إذا نأى بنفسه عن إيران وقطع طرق نقل الأسلحة لحزب الله اللبناني. النقاشات جرت قبل سيطرة فصائل المعارضة على حلب.
تلاقي المصالح
يبرز اسم تركيا في الصراع السوري ولم تبتعد يومًا عنه وإن كانت حاولت استعادة العلاقات والتهدئة في فترات سابقة. يبدو أنها تلعب دورًا اليوم أيضًا في تأجيج الصراع. يتوقف المسؤول الأممي أمام الموقف التركي "وجدت أنقرة الفرصة سانحة لمعاقبة الأسد وممارسة مزيد من الضغوط عليه، بعدما تنصل من تفاهمات جرت عبر وسطاء، لتطبيع العلاقات مقابل إجراءات من جانب النظام السوري تجاه حزب العمال الكردي، ولعبت دورًا في اعتراض أي ممارسات سلبية تهدد المصالح التركية".
التفسير الذي يطرحه المصدر الغربي بالبعثة الأممية في سوريا، يعززه أحد قيادات التنظيمات الجهادية المصرية الذي يعد بمثابة مرجعية تنظيمية لجبهة النصرة التي كانت فرعًا تنظيم القاعدة في سوريا قبل أن تنفصل عن التنظيم الأم، وتغير اسمها إلى هيئة تحرير الشام.
يقول الجهادي المقيم في تركيا إن "التغيرات الإقليمية الراهنة لعبت دورًا كبيرًا في التحركات الأخيرة للمعارضة السورية"، مؤكدًا أن "المعارضة كانت في حالة تأهب واستعداد لتلك اللحظة لإدراكها حتمية المواجهة المؤجلة، خاصةً بعدما توافرت لديها المعلومات بأن النظام السوري كان يعتزم اجتياح إدلب قبيل الحرب الروسية الأوكرانية".
حتمية المواجهة بين الجيش السوري والمعارضة المسلحة من وجهة نظر القيادي الجهادي المصري "تأتي في ظل الانكسار الذي لا تزال تركيا تستشعره جراء مسار أستانا وخرقه من جانب روسيا وإيران"، مضيفًا أن "تركيا لا تزال تستشعر مرارة هذا الانكسار في حلقها".
وعاد الحديث مرة أخرى عن مسار أستانا للسلام الذي جمع ممثلي الحكومة السورية وفصائل المعارضة، وكانت كل من روسيا وتركيا وإيران بمثابة "ضامن" له خلال جولات المفاوضات التي جرت في العاصمة الكازاخية أستانا عام 2017.
فيما كشف وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي أن وزراء خارجية إيران وتركيا وروسيا سيجتمعون الأسبوع المقبل في إطار عملية أستانا لمناقشة الملف السوري على هامش منتدى الدوحة، شن علي أكبر ولايتي مستشار المرشد الإيراني للشؤون الدولية هجومًا عنيفًا على تركيا، واصفًا إياها بأنها "أداة في يد أمريكا والكيان الصهيوني"، ردًا على سؤال بشأن دورها فيما يجري في سوريا، واعتبر أن تركيا وقعت في الفخ الذي حفرته لها أمريكا وإسرائيل.
مستقبل الأسد
جاءت التحركات العسكرية الأخيرة لفصائل المعارضة المسلحة السورية، في وقت كان الرئيس السوري بشار الأسد يستشعر فائض قوة بعد سنوات عجاف أعقبت الثورة التي اندلعت في 2011، فخلال العامين الماضيين أعادت العديد من الدول علاقاتها مع نظام الأسد واستعاد عضوية سوريا المعلقة بالجامعة العربية وشارك بآخر قمتين عربيتين.
وعلى الصعيد الدولي أعلنت إيطاليا تعيين سفير لها في دمشق لتصبح الدولة الأوروبية السابعة التي لديها سفارة مفتوحة في سوريا، وأعلنت المندوبة الأمريكية لدى الأمم المتحدة ليندا توماس جرينفيلد الاستعداد لبحث رفع العقوبات عن سوريا في حالة إحراز تقدم نحو تسوية الصراع.
بقاء الأسد مهزوزًا في حكمه هدفًا اجتمعت عليه تركيا وإسرائيل
كما وقَّعت كل من النمسا وقبرص والتشيك واليونان وكرواتيا وسلوفينيا وسلوفاكيا على رسالة موجهة لمسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، تدعو لإعادة تقييم العلاقات مع نظام الأسد، واقترحوا تعيين مبعوث للاتحاد الأوروبي في سوريا.
ويفتح تجدد النزاع المسلح التساؤلات بشأن مستقبل الأسد ومصير نظامه. في هذا السياق يرى الخبير العسكري والاستراتيجي السوري اللواء محمد عباس أن ما يجري لا يمثل خطرًا على الرئيس السوري فقط بقدر ما يمثل خطرًا على مستقبل الدولة السورية "سوريا تواجه انسجامًا غريبًا من نوعه بين تركيا وإسرائيل".
يبدي عباس اندهاشه من توقيت الانسجام الذي يأتي في وقت تشن فيه إسرائيل حرب إبادة على غزة، بينما تزعم أنقرة دعمها للشعب الفلسطيني في هذه الحرب، في حين أن سوريا جزء أصيل من جبهة الإسناد في تلك الحرب لغزة.
ويرى الخبير العسكري السوري أن سوريا باتت مهددة بخطر التقسيم أكثر من أي وقت مضى، في ظل استيلاء ما يصفه بـ"التنظيمات الإرهابية الموالية لتركيا على حلب ومناطق حيوية أخرى".
في المقابل يشير الأكاديمي التركي أوموت بيرهان إلى تلاقي مصالح بعض الأطراف الإقليمية في التحركات الأخيرة ورغبتها في معاقبة الأسد، وفي الوقت نفسه بقائه على رأس الدولة السورية على الأقل في الوقت الحالي لعدم تفككها وسيطرة التنظيمات المسلحة بخلفياتها السياسية والعقائدية عليها".
"هناك شبه توافق على أن بقاء الأسد في موقعه لا بد أن يكون مهزوزًا بالشكل الذي يجعله مضطرًا للقبول بمواءمات تحقق أهداف تلك القوى" يشدد بيرهان.
ويؤكد الأكاديمي التركي أنه رغم سماح بعض الأطراف الدولية والإقليمية بسيطرة المعارضة الإسلامية، التي تصنف بعض مكوناتها تنظيمات إرهابية، على حلب، فإنه لن يكون من المسموح خلال الفترة المقبلة مواصلة الزحف نحو العاصمة دمشق، وهو هدف تتفق عليه روسيا وإيران المستعدتان للدفع بقوات إضافية وخوض معركة مباشرة إذا لزم الأمر كون سقوط دمشق يعني سقوط النظام السوري.
بينما يرى القيادي الجهادي المصري المقيم في تركيا أن من أسماههم بثوار سوريا "لن يقبلو ببقاء بشار" لكنه يرهن صلاحية هذه الرغبة بقدرة تركيا على دعم هذا التوجه وموقف روسيا أيضًا الذي يعد عامل حسم، بعدما تراجعت قدرة الإيرانيين على التأثير في المشهد رغم تشبثهم ببقاء الأسد.
يبدو سقوط دمشق خطًا أحمر حتى الآن، ولم تسمح القوى الدولية والإقليمية بعد برحيل الأسد وإنهاء وجوده، لكن تظل تطورات الصراع في سوريا غير مكتملة وتبقى كل السيناريوهات المطروحة بشأن المستقبل قابلة للتطبيق الفعلي.