تصميم أحمد بلال، المنصة، 2024
العلاقات التركية الإسرائيلية

التطبيع مع الأسد واحتواء الأكراد.. تركيا في مواجهة "إسرائيل الكبرى"

منشور الثلاثاء 19 نوفمبر 2024

شهد الموقف التركي تطورات مختلفة تجاه إسرائيل منذ اندلاع الحرب على غزة، بدايةً من تصعيد تركي على المستويين الدبلوماسي والسياسي، وصولًا إلى الإعلان عن قَطع العلاقات الاقتصادية مع تل أبيب.

وبعد امتداد الصراع إلى لبنان، والتصعيد المباشر بين إيران وإسرائيل، والغارات المتكررة على سوريا، بدأت الحكومة التركية تعبّر عن قلقها من الانتهاكات التي تمارسها إسرائيل في غزة ولبنان، والآثار الإقليمية والدولية لذلك الصراع، مع خشية أنقرة من امتداد الصراع وتفاقم الانتهاكات الإسرائيلية في سوريا، خاصةً مع تصريحات المسؤولين الإسرائيليين بخصوص إسرائيل الكبرى.

ضغوط على إردوغان

حاولت تركيا في بداية الحرب تجنب التصعيد ضد إسرائيل، رغبةً منها في الوساطة بين طرفي النزاع، ولعب دور إقليمي مؤثر، مستندة على تمتعها بعلاقات جيدة مع حركة حماس، وبداية تحسن علاقتها مع إسرائيل في الفترة من 2021-2022.

بدأت تركيا بردود فعل دبلوماسية فتعرض إردوغان والحزب الحاكم لضغوط شعبية

وعادت العلاقات الدبلوماسية بين تركيا وإسرائيل في 2022، بعد مرور عقد من القطيعة بينهما من تداعيات هجوم إسرائيل على سفينة مافي مرمرة التركية في 2010 التي حملت مساعدات لغزة. استهدفت تركيا من تحسين علاقتها مع إسرائيل التخطيط لمشروعات اقتصادية، بالأخص في مجال التنقيب عن النفط، ونقل الطاقة من إسرائيل لأوروبا.

غير أن استمرار ردود الفعل الهادئة والدبلوماسية أمام تفاقم الانتهاكات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين أدى إلى اندلاع مظاهرات لعدد من الأحزاب السياسية منددة بضَعف الموقف التركي؛ وأمام المطالب الشعبية بدأ النظام في اتخاذ مواقف تصعيدية على المستويين السياسي والدبلوماسي، من بينها تصريح الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في مظاهرة مليونية في 28 أكتوبر/تشرين الأول 2023 تحت عنوان "تجمع فلسطين الكبير"، بأن "حماس ليست إرهابية"، وأن "إسرائيل أصبحت تتعامل كتنظيم لا كدولة وأنها مجرمة حرب". كما انضمت تركيا إلى دعوى جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل لارتكابها جرائم الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين.

استمرار الانتقادات أثّر على نتائج الانتخابات البلدية في مارس/آذار 2024، إذ خسر حزب العدالة والتنمية 15 من بين 39 بلدية، ما دفع الحكومة التركية لاتخاذ إجراءات أكثر جدية مثل قطعها العلاقات التجارية مع إسرائيل في 2 مايو/أيار 2024.

ووصل التصعيد التركي إلى تهديد إردوغان بالتدخل العسكري في إسرائيل، قائلًا في 28 يوليو/تموز 2024 في اجتماع لحزب العدالة والتنمية "يجب أن نكون أقوياء للغاية حتى لا تتمكن إسرائيل من فعل هذه الأشياء السخيفة لفلسطين، تمامًا كما دخلنا قرة باغ وليبيا، قد نفعل شيئًا مماثلًا في تل أبيب، لا يوجد سبب يمنعنا من فعل ذلك".

لبنان.. مخاطر مباشرة

تحول موقف الرئيس التركي بشكل أوضح وأصبح أكثر شدةً بعد بدء الهجوم الإسرائيلي على لبنان، بعدما استشعر قرب الخطر الإسرائيلي منه.

أشار إردوغان لخطورة مخطط إسرائيل الكبرى على تركيا

إذ حذر في كلمته أمام البرلمان بمناسبة افتتاح السنة البرلمانية الجديدة في 1 أكتوبر الماضي، من العدوان الإسرائيلي على لبنان وأثره على المنطقة. وقال إن المسافة بين هاتاي في جنوب تركيا وبين حدود لبنان ساعتان ونصف الساعة بالسيارة، معتبرًا أن إسرائيل نقلت ما تقوم به من إبادة وإرهاب في غزة إلى لبنان التي تقترب أكثر من المدن التركية.

لم يتوقف إردوغان أمام الجرائم الإسرائيلية في لبنان فقط، بل أشار إلى التهديد الذي تمثله إسرائيل في المنطقة، ومشروعها التوسعي الذي يهدد المنطقة بأكملها وفي القلب منها تركيا. وقال في افتتاح معرض تيكنوفيست للطيران والدفاع "لا نحتاج للتنجيم لمعرفة أهداف إسرائيل، فنحن نعرف حديثهم عن الأرض الموعودة التي لا تقتصر على فلسطين فقط، بل تهدّد أراضي تركيا أيضًا، وكل المنطقة".

ويصف إردوغان الخرائط التوسعية التي نشرها زعماء إسرائيل بــ"الخريطة المزعومة التي يسمونها إسرائيل الكبرى"، تضم الخريطة التي يشير إليها إردوغان مناطق من لبنان وسوريا والولايات الجنوبية من تركيا مثل هاتاي، وأضنة، ومرسيين.

لا تضع إسرائيل مخطط الاشتباك مع تركيا على أجندتها الحالية، إلا أن امتداد العدوان إلى لبنان، وتكرار الغارات على مناطق في سوريا، ينذر بخطورة اقتراب إسرائيل من تركيا بشكل أكبر.

ما يزيد من احتمالية التوغل الإسرائيلي نحو سوريا هو الغارات الجوية الإسرائيلية المستمرة على أهداف فيها تخص إيران، والتي من المتوقع أن تزيد كثافتها وقد تصل إلى حد الاقتحام البري، خاصة مع عدم وجود رد قوي من النظام السوري على الانتهاكات الإسرائيلية لأراضيه.

حلم الدولة الكردية

يؤرق حلم الدولة الكردية المستقلة النظام التركي منذ سنوات، ومع تصاعد الصراع في المنطقة، تزداد المخاوف من امتداد النزعة الانفصالية للأكراد على أرضه، خاصة في ظل وجود منطقة حكم ذاتي للأكراد شمال وشرق سوريا بالقرب من الحدود التركية، وتسيطر عليها وحدات حماية الشعب الكردية التي تضم 90 ألف مقاتل بدعم من الولايات المتحدة، وتربطها علاقات مع حزب العمال الكردستاني في شمال العراق الذي يتبادل الضربات مع تركيا.

وتخشى أنقرة من استخدام إسرائيل، بالتعاون مع الولايات المتحدة، ورقة الأكراد ضدها، وهو ما أشار إليه إردوغان في خطابه في البرلمان بقوله "نرى بوضوح كيف يريدون إنشاء دويلات صغيرة تابعة لهم من خلال استخدام التنظيمات الانفصالية أداةً في شمال العراق وسوريا".

وتدعم الولايات المتحدة قوات سوريا الديمقراطية التي تتكون معظمها من وحدات حماية الشعب الكردية، فيما تسعى إسرائيل لإقامة علاقات تعاون مع الأكراد في شمال العراق وسوريا، ففي 2017 عند سعي إقليم كردستان العراق لإجراء استفتاء للاستقلال، أعلن نتنياهو تأييده لقيام دولة كردستان العراق.

بينما قال وزير الخارجية الإسرائيلي الجديد، جدعون ساعر، في حفل استلام منصبه في 10 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي إن "الأكراد أقليات مثل إسرائيل، ويجب أن تقوم إسرائيل بتحالفات مع أقليات مثلها. وأن الأكراد ضحايا القمع الإيراني والتركي، ويجب أن تعزز إسرائيل علاقتها معهم".

سيناريوهات أمام الحكومة التركية

أمام هذه المخاوف تبدو أدوات تركيا في مواجهة التهديدات والمخاطر التي تتعرض لها قاصرة حتى الآن على التصدي لشبح الانفصال وورقة الأكراد.

إذ إن تركيا العضو في حلف شمال الأطلنطي لا يمكنها معاداة الولايات المتحدة باتخاذ أي إجراءات تصعيدية مباشرة ضد إسرائيل، كما أنها لن تتحمل تكلفة مواجهة عسكرية، خاصة في ظل وجود أزمات اقتصادية في تركيا، انعكست في انخفاض قيمة العملة المحلية.

تقتضي مصلحة تركيا أن يبسط بشار نفوذه على شمال سوريا

في مواجهة مخاطر الخارج، تحاول أنقرة حل الخلافات الداخلية المتعلقة بالقضية الكردية، وفصلها عن السياسات الخارجية للحد من خطورة الأفكار الانفصالية.

بدأت تظهر مبادرات لانفراجة بين الحكومة التركية والأحزاب الكردية المعارضة، عندما صافح زعيم حزب "الحركة القومية" وحليف حزب العدالة والتنمية في تحالف الشعب، دولت باهشلي، نواب الحزب الكردي "الديمقراطية والمساواة بين الشعوب" في افتتاح الفصل التشريعي الجديد للبرلمان. وأيَّد إردوغان هذه المصافحة، ودعا باهشلي زعيم حزب "العمال الكردستاني" المسجون، عبد الله أوجلان، للتخلي عن التسلح، وحضور البرلمان للإعلان عن حل الحزب.

في الوقت نفسه، تسعى تركيا لتطبيع العلاقات مع النظام السوري برعاية روسية، بعد قطيعة دامت حوالي 13 عامًا، مستهدفة بذلك دعم نظام بشار الأسد لاستعادة سيطرة النظام السوري على مناطق الحكم الذاتي للأكراد، والتضييق على وجود الجماعات المسلحة في شمال شرق سوريا بدعم من روسيا من ناحية، ومواجهتها من تركيا في الشمال الغربي من ناحية أخرى.

إذ تقتضي مصلحة تركيا أن يبسط بشار نفوذه على المزيد من المناطق في سوريا، لمواجهة قوات حماية الشعب الكردية المسلحة، ولذلك تسعى لاستمالة روسيا وإيران والنظام السوري لاتخاذ إجراءات نحو الحركات الانفصالية، مع دفع مسار التطبيع بينها وبين نظام الأسد.

تأمل تركيا صدور قرار ترامب بسحب القوات الأمريكية من سوريا

وهو ما كشف عنه تصريح إردوغان في أكتوبر الماضي بأن "على إيران وسوريا وروسيا أن تتخذ إجراءات تجاه بعض التنظيمات الإرهابية المدعومة من أمريكا، مثل وحدات الشعب الكردية"، وقال إن "إسرائيل تقصف لبنان، وتقصف دمشق، ويقولون صراحةً إنهم سيغزون دمشق بعد لبنان، واحتلال دمشق يعني وصول جنود إسرائيليين إلى الحدود التركية".

في الوقت نفسه توجّه الحكومة التركية ضربات عسكرية في شمال سوريا ضد قوات حماية الشعب الكردية، وفي حالة وجود هجوم من القوات المسلحة الكردية ضد أهداف تركية فمن المتوقع أن تكثف أنقرة ضرباتها العسكرية.

وتأمل تركيا سحب الولايات المتحدة قواتها من سوريا، خاصة بعد فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية، لا سيما أنه قرر في ولايته الأولى سحب القوات من سوريا، لكنه تراجع بعد اعتراض وزارة الدفاع الأمريكية على القرار.

يبدو أن السلاح الوحيد المتاح حاليًا لدى أنقرة مواجهة ما تعتبره حركات انفصالية ومواجهات شبح حلم الدولة المستقلة للأكراد، بينما يظل خطر إسرائيل الكبرى قائمًا يؤرق تركيا ودول المنطقة.