بعد بضعة شهور من بداية الإبادة الجماعية في غزة، ظهرت تقارير عن استخدام جيش الاحتلال الإسرائيلي طائرات مُسيّرة من نوع كوادكوبتر لقتل المدنيين في القطاع. هذه المُسيّرات تحمل قنابل صغيرة أو تطلق الرصاص على الأفراد، مما يُعد سلاحًا فعَّالًا للقتل عن بعد بقدر كبير من الدقّة.
أعادت هذه المشاهد إلى الذاكرة روايات وأفلام الخيال العلمي الكلاسيكية، بدءًا من مُسيّرات المراقبة في رواية 1984 إلى المُسيّرات القاتلة في سلسلة أفلام Terminator؛ ليبدو أن المستقبل المظلم الذي حذَّرنا منه الكتّاب قد أصبح واقعًا.
برغم ذلك، فإن بساطة تكنولوجيا هذه المُسيّرات تفتح نافذة أمل، خصوصًا عندما نرى كيف بدأ حزب الله استخدامها لدعم جبهة الإسناد في شمال فلسطين المحتّلة.
فما هي هذه المُسيّرات؟ وكيف قلبت موازين الحروب التقليدية؟ والأهم، كيف أصبحت تحديًا شديد الخطر أمام جيوش كبرى مثل الولايات المتحدة وإسرائيل وحلفائهما المتفوقين تقنيًا؟
من الاستطلاع إلى الهجمات الانتحارية
استُخدمت المُسيّرات في مهام الاستطلاع لعقود، لكن تسليحها بالصواريخ بدأ مع الجيش الأمريكي في اليمن وأفغانستان. من أبرز هذه المُسيّرات المسيرة الأمريكية MQ-9 Reaper التي تُدار عبر الأقمار الاصطناعية وتستطيع التحليق لأكثر من 24 ساعة وحمل صواريخ مُوجَّهة بدقة عالية. ويمكن للطيار التحكم بها من الولايات المتحدة لتنفيذ الهجمات في أي مكان بالعالم، طالما توفّرت قاعدة لإطلاق المسيرة في مكان قريب من مهمتها.
بعد نجاح أمريكا في استخدام المُسيّرات، خاصة في عمليات الاغتيال ضمن حربها على الإرهاب، التي أودت بحياة العديد من المدنيين، أدركت دول مثل روسيا وإيران وتركيا أهمية الاستثمار في هذه التكنولوجيا، وبدأوا بناء جيوش من المُسيّرات.
صاحَبَ انتشار المُسيّرات وتطوُّر تقنيات التحكم، تقدم في أساليب استهدافها واختراقها. وكما يقول خبراء الأمان الرقمي "كل ما يتصل بالعالم الخارجي يمكن اختراقه". ورغم أنها جملة تُعنى عادةً بحماية النُظم المتصلة بالإنترنت، فإنها تنطبق أيضًا على المُسيّرات، التي تعتمد على إشارات رقمية يمكن اعتراضها أو التشويش عليها. ويمكننا أن نرى ذلك في حالة كتائب القسام وسرايا القدس اللتين تمكنتا من اختراق العديد من المُسيّرات الإسرائيلية في غزة باستخدام تقنيات بسيطة نسبيًا.
وبهدف تقليل فرص الاختراق والتشوش على المُسيّرات، ظهر نوع جديد منها مبرمج لتنفّذ مهامها بشكل مستقل، دون الحاجة للتواصل مع جهة خلال تنفيذ المهمة. هذا النمط الجديد هو المُسيّرات الانتحارية المستقلة أو التي يُطلق عليها الذخيرة المتسكعة، التي تُبنى كمُسيّرة مبرمجة لتنفيذ هجمات بتفجير نفسها عند وصولها إلى الهدف بدقة ودون الحاجة للتحكّم المستمر عن بعد.
هذه المسيَّرات الانتحارية استخدمها حزب الله في هجومه على معسكر جولاني، كما لجأت إليها حماس في الضربة الأولى لطوفان الأقصى وفي خان يونس، واستخدمها أيضًا كل من الحوثيين وإيران في الهجوم على تل أبيب.
من صعوبة الرصد إلى أُفق التطوير
تعتمد أنظمة الرادار التقليدية التي ترصد الصواريخ والطائرات على حرارة الأجسام الطائرة. لكن أدى نجاح الأبحاث الروسية والإيرانية في تصميم مُسيّرات ببصمة حرارية ضئيلة جدًا إلى جعل عملية رصدها أكثر صعوبة. وهذا ما يفسر نجاح العديد من عمليات حزب الله في الحرب الحالية، مثل استهداف معسكر لواء جولاني ومنزل بنيامين نتنياهو.
من جانب آخر، فإن إضافة برمجيات ذكاء اصطناعي إلى المُسيّرات ستجعلها قادرة على التعرف على أشخاص أو أهداف؛ مما يزيد من فاعليتها بشكل كبير. وهو شيء متوقّع أن يتحقق مع مرور الوقت، فتتمكّن التنظيمات المسّلحة من تصنيع مُسيّرات قادرة على تحديد أهداف دقيقة، سواء كانت أشخاصًا بعينهم أو معدات عسكرية محددة (مثل سيارة أو دبابة أو نظام رادار).
ومع ذلك، تظل الثغرة الأكبر في تطوير المسيرات هي الاعتماد في تصنيعها على قطع مستوردة من مصادر متعددة، مما يجعلها عُرضة للهجمات على سلاسل التوريد، وهي الهجمات التي تستهدف المكونات أو الأجزاء الرئيسية أثناء عملية الإنتاج أو النقل، مما يسمح للقوى المعادية بالتلاعب أو تعطيل القدرة على التصنيع والتشغيل.
استيراد القطع من مصادر مُتعدّدة أيضًا يكشف إمكانية للتلاعب في الأجهزة المستوردة من خلال عمليات استخباراتية، مثلما حدث في هجوم إسرائيل على سلاسل التوريد. وكما حدث في هجوم البيجر بلبنان، أو حتى عن طريق الضغط الدبلوماسي لمنع تصديرها إلى البلاد المستهدفة، مثلما حدث عندما فرضت الولايات المتحدة عقوبات على الشركات الصينية المصنعة لمكونات المُسيّرات المستخدمة من قبل روسيا.
وهذا أيضًا ما يُواجهه حزب الله وحماس وفصائل المقاومة، فهم غير قادرين على تصنيع الأجزاء المستخدمة في المُسيّرات، لذا يستوردون كاميرات عالية الدقّة وألواح الطاقة الشمسية عالية الكفاءة المستخدمة في بعض أنواع المُسيّرات والمحركات وغيرها من الأجزاء الحيوية من مصادر خارجية.
بديل منخفض التكلفة
على الرغم من عدم توفُّر معلومات دقيقة حول تصميم المسيرة الإيرانية الهدهد، التي استخدمها حزب الله، لكنها بالتأكيد تُشكّل خطرًا على إسرائيل. وفقًا لمعهد الأمن القومي الإسرائيلي، تُعد هذه المُسيّرات المستقلة تهديدًا خطيرًا، ولا تزال إسرائيل غير مستعدة بشكل كامل للتعامل معها.
كما يكمن تهديد آخر ضد إسرائيل في قدرة أسراب المُسيّرات على التنسيق فيما بينها باستخدام تقنيات بسيطة نسبيًا. إذ يمكن توجيه مجموعة من المُسيّرات نحو هدف محدد وتعدّل مسارها أو إحداثياتها تلقائيًا وفقًا للمتغيرات مثل الأحوال الجوية أو وجود طائرات معادية أو حتى محاولات رصدها.
لذا، عندما تعلن إسرائيل عن إسقاط عدة مسيرات في يوم واحد، يبقى السؤال: هل كانت تلك المُسيّرات هي الوحيدة التي أُطلقت، أم أن هناك المزيد؟
التحدي يكمن في القدرة على إنتاج أعداد كبيرة من المُسيّرات لتنفيذ أكبر قدر من المهام بكفاءة، ويعد أحد التحولات المهمة التي أحدثتها تكنولوجيا المُسيّرات هو تأثيرها على الاقتصاد العسكري. فبدلًا من الإنفاق الضخم على الطائرات والدبابات المتطورة، أصبح بإمكان الجماعات والدول الاستفادة من المُسيّرات الانتحارية بتكلفة أقل بكثير لتحقيق نتائج مدمرة.
من المؤكد أن تكلفة المُسيّرة الانتحارية، التي قد تُستخدم لتعطيل دبابة ميركافا، لا تقارن بثمن تلك الدبابة. على سبيل المثال، تُقدر تكلفة المسيرة الإيرانية الشهيرة شاهد 136، التي استخدمتها روسيا بكثافة في حربها على أوكرانيا، بين 30 إلى 50 ألف دولار، في حين تصل تكلفة دبابة ميركافا إلى حوالي 3.5 مليون دولار. لذا فقد أصبح من الممكن للجماعات المسلحة تحقيق مكاسب عسكرية بتكاليف زهيدة مقارنة بالإنفاق العسكري التقليدي.
والسباق الآن يتمثَّل في تصنيع المُسيّرات وتطويع تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي لتوجيه المُسيّرات المستقلة أو الانتحارية نحو أهدافها بدقة أعلى مما هي عليه اليوم. هذا التطور الذي أتوقع أن يتحقق قريبًا، نظرًا لانتشار وسهولة الوصول إلى هذه التكنولوجيا.